"منعزلات اجتماعيّة": أحياء فلسطينيّة تعيد إنتاج التجزئة

«ضاحية الريحان» في رام الله | صندوق الاستثمار الفلسطينيّ

 

العزل مفردة لها وقعها على الذاكرة الجمعيّة الفلسطينيّة؛ العزل في الأسر، في المدينة، في القرية والمخيّم بفعل ممارسات المستعمِر الصهيونيّ المختلفة، كالاجتياح ومنع التجوال أو حتّى وضع حاجز طيّار، والعزل المرتبط بالحرّيّات وممارساتها؛ فإن كنت مجدّدًا أو معارضًا فستجد مَنْ يعزلك! وأيضًا العزل الحاليّ الّذي نمرّ به والمرتبط بالحالة الصحّيّة غير المفهومة تمامًا للمجتمع العلميّ بسبب فايروس كورونا وطفراته. إذن، وكما تقول أحلام بشارات في مقالها «عن عزلة الفلسطينيّ في زمن كورونا»، فإنّها متعدّدة الأشكال والأوجه، وقد جرّبنا الكثير منها. نحن الآن أيضًا نجرّب نوعًا جديدًا من المنعزلات؛ المنعزل المعيشيّ الاجتماعيّ، الّذي بات يشكّل أداة نحر للفضاء الحضريّ الفلسطينيّ.

المنعزلات الاجتماعيّة، بسياقها الطبقيّ وانعكاساته على الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة، في رام الله الطفرة والاستثناء، موضوع تُنووِلَ انطلاقًا من التماهي مع المستعمِر، كما نجد في حالة «روابي»، من خلال إعادة قراءة سيموسسيولوجيّة لهذا التشكيل الحضريّ في سياقات اقتصاديّة إحلاليّة استعماريّة.

يمثّل هذا النوع من التشكيلات الحضريّة حالة من الانسحاب والهروب، لدى شريحة المستهلكين من الفضاء العموميّ ومركّباته، وحالة من الإفراغ الّتي تمارسها أدوات الهيمنة الإمبرياليّة والرأسماليّة تجاه الطبقات الوسطى والبرجوازيّة، نحو إنتاج مجتمعات «حداثيّة» جديدة بتمايز طبقيّ أكثر حدّيّة وتضادًّا وتفاخرًا. من هنا ننطلق بسؤالنا الرئيسيّ: ما أثر هذه التشكيلات الحضريّة المتنامية في إعادة تقسيم الجغرافيا الفلسطينيّة وتجزئتها بعد «اتّفاق أوسلو»؟ وكيف يمكننا فهم تصاعدها في الآونة الأخيرة؟

 

البؤس الرمزيّ

عمل الاستعمار الإحلاليّ في فلسطين الطبيعيّة على تجزئة الجغرافيا ضمن «اتّفاق أوسلو»، لمناطق «أ»، «ب»، «ج»، بالإضافة إلى مناطق داخل الخطّ الأخضر وخارجه، شكلًا من أشكال العزل، وهذا ما انطوى عليه الاختلاف في شكل الهويّة ونوعها، الّتي يحملها كلٌّ في منطقته ومدى فاعليّتها؛ استنادًا إلى الرمزيّة الكامنة في لون الهويّة ودلالاتها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وبعد المرحلة الإنمائيّة الاقتصاديّة المتخلّفة في مناطق السلطة الفلسطينيّة، والمبنيّة تلقائيًّا على التفاوت في التوزيع الإقطاعيّ للإنتاج، والتفكّك في الصلات بين مكوّنات النظام الاقتصاديّ، من خلال تقدّم قطاع الخدمات على غيره من القطاعات، وأخيرًا التبعيّة للخارج وللاستعمار الإسرائيليّ[1] الّذي دفع باتّجاه نموّ هائل في قطاع الخدمات، وازدياد حالة الاستلاب الثقافيّ- الاقتصاديّ للشرائح الاجتماعيّة، على صعيد النمط الاستهلاكيّ لها، وعلاقته بموقعهم الطبقيّ والاجتماعيّ.

من هذا الجانب، يطرح الكاتب ديفيد هارفي حالة التطوّر الحضريّ المدينيّ، من خلال البؤس الرمزيّ للعمارة الراهنة الّتي تعبّر، وبامتياز، عن الرتابة الوظيفيّة عبر التركيز المفرط للاستعمال الواحد في قطاع مدينيّ واحد. وبمعنًى آخر؛ تشكّل الجماعات المدينيّة المحدّدة والكاملة دائرة مدينيّة مستقلّة بنفسها، داخل إطار كبير من الإطارات المدينيّة المستقلّة بنفسها هي أيضًا[2]؛ إذ نجد حالة من إعادة إحياء المدينة - رام الله الطفرة والاستثناء- بعد فترة زمنيّة طويلة من الدمار والرماد، المرتبط بسياسات الاستعمار ومنهجيّته المتّجهة نحو تمدّد الضواحي والأحياء السكنيّة التقليديّة برتابتها الوظيفيّة، من خلال إشغالها من قِبَل جماعات مدينيّة محدّدة وكاملة.

ومن خلال تسليط الضوء على التمدّد المدينيّ داخل المدينة الواحدة، نجد عددًا من الأحياء السكنيّة والضواحي المتشكّلة في رام الله، منذ خطّة الإصلاح الإداريّة الماليّة العامّة (2007)، وكذلك خطّة الإصلاح والتنمية في فلسطين (2008 -2010)[3]، ومن بينها: «ضاحية النجمة»، و«ضاحية الدوحة»، و«ضاحية الريحان»، و«الحيّ الدبلوماسيّ«، و«ضاحية روابي»، وغيرها من الامتدادات الحضريّة الّتي بدأت تظهر في القرى كما في كوبر، والّتي تشكّل هندسة خطابيّة مدينيّة جديدة، تدفع باتّجاه العزلة الاجتماعيّة والانسحاب من الفضاء العموميّ، وتحديدًا لأنماط الحياة بمنظومتها القيميّة والثقافيّة والسياسيّة والاستهلاكيّة، فهي تمثّل حالة من الاستلاب الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ.

 

مفتوحةٌ مغلقة

إنّ عمليّة الحَضْرَنَة لرأس المال من قِبَل الطبقة الرأسماليّة، تتّجه نحو فرض هيمنتها على عمليّة التطوير العمرانيّ بتشكيلاته وسياقاته المتخلّفة، الّذي يفرض هيمنة على الأفراد من خلال واقعهم السياسيّ والاقتصاديّ وممارساتهم الاجتماعيّة وثقافتهم اليوميّة[4]، وتشكّل الكومونة مثالًا رأسماليًّا بامتياز لممارسات الحَضْرَنَة في المدينة عبر تشييد هذه التجمّعات، الّتي تستوعب شريحة اجتماعيّة محدّدة، من حيث التوجّه والخلفيّة والمستوى الطبقيّ مسبقًا.

من المهمّ الالتفات إلى أنّ الكومونة في هذه الحالة غير محدّدة بصفتها مكانً مغلقًا (التسييج)، بل ثمّة كومونات مفتوحة، أو ربّما نعتقد ذلك لمجرّد قدرتنا على النفاذ إليها، إلّا أنّها مؤمّنة بالحراسة الشرطيّة أو الشركات الأمنيّة الخاصّة، وثمّة اهتمام أعلى وأوضح من قِبَل إدارة الحيّ[5].

«روابي» و«الحيّ الدبلوماسيّ» أمثلة حيّة ومباشرة في هذا الصدد، نلامس خطابهما بشكل واضح؛ فالأولى تفتح أبوابها للطبقات الوسطى والبرجوازيّة، من خلال سلسلة التسهيلات البنكيّة على الشراء والتملّك، أو حتّى التخفيضات عند الدفع المسبق، إضافة إلى توفير سوق استهلاكيّ خدماتيّ يستقبل جمهور المتجوّلين والراغبين، بينما يكون «الحيّ الدبلوماسيّ» أكثر انغلاقًا على نفسه، من خلال الشراء المرتبط بشكل العلاقات المتداخلة بين ساكنة هذا التشكيل الحضريّ (المدينيّ)، الّذي يخاطب الأساتذة الجامعيّين والسياسيّين وأصحاب الدرجات الرفيعة في السلك الحزبيّ والحكوميّ، وغيرهم من النخب الاجتماعيّة المنعزلة.

 

إعادة إنتاج التجزئة

وعلى صعيد الكومونة وخصوصيّتها في المجتمع الفلسطينيّ، فإنّها تذهب إلى مستوًى آخر غير حَضْرَنَة رأس المال، وذلك انطلاقًا من عمليّة التجزئة للجيوسياسيّة الفلسطينيّة للمرّة الثانية، والإبقاء على سياسة التجزئة الراهنة «اتّفاق أوسلو».

إنّ فقدان هذه الكلّيّة في الجغرافيا يحول دون بناء هويّة فلسطينيّة وطنيّة متماسكة لمواجهتها مركّبات الجهويّة، والعائليّة، والطبقيّة، والخلفيّات الاجتماعيّة والسياسيّة، وإنّ تصاعد خطاب الحَضْرَنَة والبناء المدينيّ، المنسحب من المدينة الكلّ، هي إعادة إنتاج تجزئة جيوسياسيّة واقتصاديّة، يقودها رأس المال الفلسطينيّ تجاه الشرائح الاجتماعيّة ارتباطًا بمكانتها الطبقيّة، وإنتاج ثقافة فضفاضة مرحة تُعْلي من حالة التضخّم الأيديولوجيّ، عبر الانسحاب لفضاءات تحاكي توجّهات أفراد الطبقات الاجتماعيّة، وتعمل على حالة من الإفراغ من الفضاءات العموميّة الحضريّة، الّذي يحيلنا إلى إنتاج واقع من الثنائيّات المتضادّة - على الصعيد «الليبراليّ»، و«ما بعد الحداثيّ»، و«المحافظ التقليديّ»؛ فالكومونة نسق اجتماعيّ وسياسيّ واقتصاديّ يحتوي على أفراد من مرجعيّات واضحة لإنتاج مدينيّ داخل المدينة، بتناسق في النسيج الاجتماعيّ المبنيّ ارتباطًا بالطابع الحضريّ والرمزيّ للمكان وزمانه، والّذي يخلق من التجمّعات السكّانيّة الأصليّة والتقليديّة تضادًّا لهذه التشكيلات الحضريّة الجديدة بخطاب وعقد اجتماعيّ وسياسيّ واقتصاديّ مستقلّ بذاته ومكتمل بها؛ ليحافظ هذا النسق على وجوده ومبرّراته الهويّاتيّة.

 

فعل الخروج والاستبعاد

إذا أمعنّا النظر في المنعزلات الاجتماعيّة، فإنّها تكمن في فكرة الانسحاب من الواقع الاجتماعيّ والتعبير في فضائه العموميّ، وتصبح التشكيلات الحضريّة التقليديّة (أو الأصلانيّة)، تتّخذ شكلًا اجتماعيًّا موازيًا لهذه المنعزلات الحضريّة المدينيّة الجديدة، ويتبلور لدينا منعزلان يواجهان بعضهما بعضًا، استنادًا إلى الرفض والتقييم والتقويم.

وبالضرورة فإنّ المنعزلات بسياقها المدينيّ الراهن حالة اجتماعيّة متداخلة السياقات، جاهزة لاستقبال مجموعة من الأفراد أو الشرائح الّتي تتشابه وتتقاطع في ما بينها، وإنّ سياق معيشتهم لم يحقّق شروط بقائهم واستمرارهم في هذا الفضاء، فيصبح فعل الخروج لفضاء حضريّ آخر تحقيقًا للشروط الّتي لم تتحقّق سابقًا، ارتباطًا بالممارسات والتوجّهات والتشابه مع الآخرين في سياق واحد، ويشكّل العامل الآخر، وهو «الاستهلاك التفاخريّ»، حافزًا للهروب وراء أوهام السعادة والخروج من بوتقة التغيّر بصفتها حتميّة للنجاة؛ فالمستهلك يزداد استهلاكه دومًا، وإن أثبت عكس ذلك فلن يكون «وطنيًّا» كفايةً! وهي حاجة أساسيّة إلى تعبير الأفراد عن مواردهم الطبقيّة ورساميلهم الثقافيّة.

إنّ هذه الممارسات في كلّيّتها تشكّل إعادة تأكيد على الانتماء إلى مجموعة اجتماعيّة مميّزة، ويصبح فعل الاستبعاد جوهريًّا للتعبير عن البعد الطبقيّ وسياقاته؛ إذ يستخدم أفراد الطبقة المميّزة عاداتهم عبر جماعاتهم المميّزة لإقصاء أفراد الطبقة الأقلّ مكانة[6]، وهذا ما ينطوي على المنعزلات الاجتماعيّة، من حيث الانسحاب نحو التجانس والتشابه مع شريحة اجتماعيّة تحمل ذات رأس المال الثقافيّ - من ضمنها الذائقة - ومحاولة لاستبعاد الطبقات الأقلّ مكانة منهم، عبر إفراغ الفضاء العموميّ والتفاخر بمكانتهم عبر التعبير عنها بإمكانيّة مواردهم.

........

إحالات

[1] مصطفى حجازي، التخلّف الاجتماعيّ: مدخل إلى سيكولوجيّة الإنسان المقهور (المغرب: المركز الثقافيّ العربيّ، 2005)، ص 23-27.

[2] ديفيد هارفي، حالة ما بعد الحداثة: بحث في أصول التغيير الثقافيّ، ترجمة محمّد شيّا (بيروت: المنظّمة العربيّة للترجمة والمعهد العالي للترجمة، 2005)، ص 95-97.

[3] مجد كيّال، إصلاح النظام الماليّ الفلسطينيّ: فصل في دفن الانتفاضة، مجلّة الهدف، 13/11/2018، شوهد في 31/07/2021، في: https://hadfnews.ps/post/48226/

[4] ديفيد هارفي، مدن متمرّدة: من الحقّ في المدينة إلى ثورة الحضر، ترجمة لبنى صبري، ط1 (بيروت: الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 2017)، ص 114.

[5] المرجع نفسه، ص 114.

[6] روجر روزنبلات، ثقافة الاستهلاك: الاستهلاك والحضارة والسعي وراء السعادة (القاهرة: المركز القوميّ للترجمة، 2011)، ص 47.

 

 


إيهاب بزاري

 

 

 

خرّيج علم نفس وعلم اجتماع في جامعة بيرزيت. يعمل في مؤسّسة «تامر للتعليم المحتمعيّ» منسّقًا للشباب والحملات، يهتمّ بحقل العلوم الاجتماعيّة.