"مستشفى الدجاني الخصوصيّ" وحكيمه المحكوم بالإعدام

صورة لأطبّاء وممرّضات في «مستشفى الدجاني الخصوصيّ»

 

في منتصف حزيران من عام 1948، توسّعت رقعة هجمات العصابات الصهيونيّة على مدينة يافا، وازداد الضغط على مشافي المدينة؛ وهو ما دفع أحد أبرع أطبّاء المدينة إلى فتح مشفاه لعلاج الجرحى، بالتنسيق مع «اللجنة القوميّة». راقبت الحركة الصهيونيّة مجهودات هذا الطبيب، وأرادت بثّ الرعب في نفسه والعاملين في المستشفى، فأرسلت إليه بضع رسائل تحذيريّة طالبةً منه إخلاء المستشفى، ووصل حدّ الهمجيّة إلى مستوًى غير مسبوق، عندما ألقت العصابات الصهيونيّة مجموعة من جماجم الأطفال الفلسطينيّين وجثثهم أمام باب المشفى. هذه القصّة الّتي يرويها عمر الدجاني عن والده الطبيب محمّد زهدي الدجاني، ابن القدس ويافا.

 

حكمان بالإعدام

وُلِدَ الطبيب محمّد زهدي الدجاني مطلع القرن العشرين، لأب مقدسيّ عمل حكيمًا (طبيبًا) عربيًّا، وتوفّي والده وهو صغير، فتبنّى خاله البيروتيّ أحمد مختار حنتس، الميسور الحال، تعليمه الجامعيّ، فألحقه بـ «كلّيّة الطبّ» في «الجامعة الأميركيّة» في بيروت.

في أثناء عمله في «مستشفى الدجاني»، أصدر الإنجليز حكمَي إعدام بحقّه لمداواته للثوّار، ومن الأرجح صدور هذه الأحكام فترة الثورة الفلسطينيّة الكبرى، بين عامَي 1936-1939.

تخرّج محمّد زهدي الدجاني وثلاثة آخرون في «كلّيّة الطبّ»، وعاد إلى يافا للعمل في «مستشفى الدجاني الخصوصيّ»، الّذي أسّسه قريبه فؤاد إسماعيل الدجاني عام 1933، وسرعان ما تسلّم إدارته بعد وفاة الطبيب فؤاد عام 1940. في خضمّ الثورة العربيّة تزوّج الطبيب محمّد زهدي لبيبة عبدالله الدجاني، وأنجبا زهدي وعمر وسعاد.

في أثناء عمله في «مستشفى الدجاني»، أصدر الإنجليز حكمَي إعدام بحقّه لمداواته للثوّار، ومن الأرجح صدور هذه الأحكام فترة الثورة الفلسطينيّة الكبرى، بين عامَي 1936-1939. في إحدى المرّات، داهمت قوّات الانتداب المستشفى بحثًا عنه، فتخفّى بزيّ حارس، وفي مداهمة أخرى تخفّى مريضًا على سرير العلاج.

تحسّن الوضع المعيشيّ للطبيب محمّد زهدي؛ فأوصى عليه خاله البيروتيّ بالاستثمار في منطقة «راس بيروت»، لكنّ الطبيب كان متردّدًا من جدوى ذلك، فردّ على خاله قائلًا إنّه لا يريد الاستثمار في مكان "يعجّ بالصبّار والواويّات"، وخاصّة في وقت لم يكن فيه «شارع الحمراء» النابض بالحركة التجاريّة رافدًا لمنطقة راس بيروت. على إثر ذلك، قرّر الطبيب شراء أربع بيّارات حول يافا، وجامَل خاله فاشترى قطعة أرض واحدة في «راس بيروت».

من الواضح أنّ الساحل جمع بيروت ويافا في علاقة حميميّة لوّنتها أطياف المصاهرة، والتجارة، والثقافة، والمقاومة. أمّا في سياق العمل الطبّيّ، فقد عمل الكثير من الممرّضات اللبنانيّات في مستشفيات يافا، حيث كنّ يعبرن إلى فلسطين يوم الإثنين، ويَعُدْنَ إلى لبنان يوم الجمعة، لتمضية عطلة نهاية الأسبوع، وهذا كان حال الكثيرين ممّن تخطّوا الحدود الانتدابيّة، الّتي لم تكن آنذاك حدودًا للهويّة بقدر ما كانت نقاط مرور، بين مجتمعات عربيّة جمعها قدر كبير من الثقافة المشتركة.

 

«مستشفى الدجاني الخصوصيّ» من الخارج

 

ألبوم الصور والمفتاح

في أثناء مغادرة الطبيب الدجاني وزوجته لبيبة منزلهما القريب من المستشفى خلال أحداث النكبة، ألحّت لبيبة على العودة إلى المنزل، لإحضار ألبومات صور العائلة والأصدقاء؛ ظنًّا منها أنّها لن تستطيع العودة مستقبلًا إلى بيتها. أمّا الطبيب، فقد راودته أفكار مختلفة، فأقفل باب المنزل على أمل العودة بعد أسبوعين، وحمل معه مفتاح البيت إلى بيروت، إضافة إلى 500 جنيه فلسطينيّ، حوّل نصفها إلى ابن عمّه الّذي كان يدرس في أستراليا. وصّل سائق الإسعاف الغزّيّ عبد أبو نار، الطبيب الدجاني وزوجته إلى بيروت، عند منزل خاله أبي رياض، حيث مكث هناك سنة، وعمل في «الجامعة الأميركيّة» في بيروت، ومن ثَمّ قرّر وزوجته العودة إلى ما تبقّى من فلسطين، فأقاموا في مدينة البيرة. فتح الطبيب عيادة في البيرة، وأصبح طبيب «مدرسة الفرندز».

سيمضي تسعة عشر عامًا على النكبة، وستحلّ نكسة فلسطين، وسيقرّر الطبيب الدجاني البقاء في بيته؛ معربًا لعائلته أنّه يفضّل الموت هنا على أن يهاجر مرّة أخرى. لتأمين عائلته، أرسل الطبيب زوجته وأبناءه إلى بيّارة قريبة في أريحا؛ لاعتقاده أنّها أكثر أمنًا، حيث أمضوا هناك عشرة أيّام، ومن ثَمّ عادوا إلى البيرة.

 

العودة إلى المنزل

مع توحيد شطرَي فلسطين تحت حكم الاحتلال، قرّرت العائلة زيارة بيتها في يافا، فحملت لبيبة مفتاح البيت معها. في البداية، زارت العائلة المستشفى الّذي أصبح مُدارًا من قِبَل المستوطنين الّذين استحلّوا المكان، وبعدها زاروا بيتهم المجاور للمستشفى، حيث طرق الطبيب الدجاني على باب بيته، ووقعت لبيبة باكية على الأرض.

فتح المستوطن الّذي استحلّ البيت الباب، وعرّف على نفسه أنّه طبيب، وأخذ العائلة في جولة بمنزلهم المسلوب. توفّي الطبيب الدجاني عام 1976، وحضر جنازته حشد غفير، ومن ثَمّ دُفِنَ في مدينة القدس، واستمرّ العزاء مدّة أربعين يومًا.

أحبّ الناس الطبيب الدجاني للخدمات القيّمة الّتي قدّمها، حيث عُرِفَ عنه احترامه ووطنيّته، إضافة إلى علاجه للكثير من المرضى دون مقابل. قبل وفاته بفترة، وبعد استشارة جاره المناضل أحمد معروف، رفض الدجاني الانضمام إلى بعض دوائر النخب الّتي نشطت في رام الله، والّتي كانت تستكشف إمكانيّات الحكم الذاتيّ بالتنسيق مع الاحتلال.

فتح المستوطن الّذي استحلّ البيت الباب، وعرّف على نفسه أنّه طبيب، وأخذ العائلة في جولة بمنزلهم المسلوب...

ستعيش لبيبة 91 عامًا، وستبكي كثيرًا في ليالي ما من بعد النكبة، وهي تحتضن ألبومات الصور، مسترجعة ذكريات حياتها في يافا، ولحظات الاستجمام مع صديقاتها على شاطئ بحرها بالقرب من حجر آدم. يستذكر ابنها عمر تكرار سؤال والدته عن موعد العودة إلى فلسطين، لكنّه للأسف لم يمتلك جوابًا لذلك السؤال!

توفّيت لبيبة عام 2011، وما زالت يافا في وجدانها، ولعلّ ألبومات الصور الّتي استرجعتها تكون مدخلًا مهمًّا لاستعادة معنويّة لحيّزنا الحضريّ المحتلّ.

 

 

تُنْشَر هذه المادّة ضمن مبادرة «ذكريات فلسطينيّة مهدّدة»، الّتي تسعى إلى توثيق التاريخ الاجتماعيّ لفلسطين.

 

 


سعد عميرة

 

 

 

من مواليد القدس، طالب دكتوراه ومحاضر في "جامعة بازل" - سويسرا، باحث في التاريخ الشفويّ والتاريخ الاجتماعيّ المعاصر لفلسطين.