قطاع غزّة وإسرائيل... في "الردع" وتبادله

صواريخ المقاومة الفلسطينيّة خلال معركة «سيف القدس» 2021 | أ ف ب

 

من الصعب تقييم معركة «سيف القدس» 2021، من داخل الأسر، تقييمًا موضوعيًّا وعلميًّا شاملًا، من دون أن تتوفّر لنا كامل الصورة والمعلومات. ومع ذلك، يمكن تسليط الضوء على بعض مفاصلها باستخدام مصطلحات ركّز عليها الإعلام الإسرائيليّ ومحلّليه العسكريّين وجنرالاته الحاليّين والسابقين. والمصطلح الأهمّ الّذي تكرّر هو «الردع»، بصفته هدفًا فشلت إسرائيل في تحقيقه وسعت من خلال الحرب على قطاع غزّة، الّتي أسمتها «حارس الأسوار»، أن تحقّقه، دون أن تدفع أثمانًا عسكريّة أو سياسيّة، أو هكذا على الأقلّ اعتقدت القيادة السياسيّة في إسرائيل وبعض قادتها العسكريّين.

 

إعلان فشل «الردع»

ليس «الردع» مصطلحًا عسكريًّا في الأساس، وإنّما اسْتُعيرَ من حقل علم النفس، ويعمل، أي «الردع»، على الإدراك؛ لإجبار المردوع بأن يتصرّف وفقًا لمصالح وإرادة الرادع، وينقسم الردع بصفته «عمليّة» (Process)، لا حدثًا، إلى مرحلتين؛ في المرحلة الأولى يُبْرِز الرادع مركّبات قوّته المادّيّة والمعنويّة أمام المردوع عبر وسائل الإعلام، أو بشكل سرّيّ من خلال وسطاء؛ لهدف إيصاله إلى قناعة بأنّ ما سيُقْدِم عليه أو ما ينوي فعله ستكون نتيجته أعلى كلفة ممّا لو أنّه لم يفعل شيئا، وأنّ من الأجدى له الانصياع لإرادة الرادع. أمّا المرحلة الثانية، فتتمثّل في الفعل أو عدم الفعل الّذي أقدم عليه أو لم يُقْدِم عليه الطرف المنويّ ردعه، نتيجةً للمرحلة الأولى؛ أي إدراك التهديد.

ليس مهمًّا حجم القوّة الّتي يملكها الرادع بشكل حاسم، وتحديدًا بالنسبة إلى المردوع؛ لإقناعه بالتصرّف وفقًا لإرادة الرادع، وإنّما المهمّ كيف يدرك هذه القوّة متّخذو القرار في الطرف المُراد ردعه...

ليس مهمًّا حجم القوّة الّتي يملكها الرادع بشكل حاسم، وتحديدًا بالنسبة إلى المردوع؛ لإقناعه بالتصرّف وفقًا لإرادة الرادع، وإنّما المهمّ كيف يدرك هذه القوّة متّخذو القرار في الطرف المُراد ردعه. بكلمات أخرى، ما هي الاعتبارات والمتغيّرات الّتي تأخذها قيادة المقاومة في قطاع غزّة في حساباتها عندما تقرّر إطلاق صواريخها على إسرائيل رافضةً أن ترتدع، غير آبهة بالتهديدات وحجم القوّة الإسرائيليّة الّذي يفوق حجم قوى المقاومة كمًّا ونوعًا، وعلى الصعد العسكريّة، والاقتصاديّة، والسياسيّة كافّة، بنسبة ربّما تكون واحدًا إلى خمسين. إعلان الحرب أو الشروع بعمليّات قتاليّة عبر إطلاق الصواريخ مثلًا، يمثّل إعلان فشل «الردع» الّذي يُفْتَرَضُ أن تكون قد وفّرته الحروب السابقة، وأقنعت المردوع بوقف القتال أو وقف «العمليّات الاستفزازيّة» للرادع.

إعلان إسرائيل الحرب على قطاع غزّة محاولةٌ لتجديد «الردع»، بعد أن أقرّت قيادتها السياسيّة والعسكريّة بتآكله، ليس «الردع» فحسب، وإنّما «الردع» المتراكم الّذي يُفْتَرَض أن تكون قد وفّرته مجمل الحروب على قطاع غزّة. لقد فشلت إسرائيل في كيّ وعي قيادة المقاومة حتّى تتوقّف عن مقاومتها، وفشلت في كيّ وعي الجماهير الملتفّة حول المقاومة بصفتها الخيار الوحيد المتبقّي لها في ظلّ حصار القطاع.

 

مستويا الفشل

إنّ الفشل الإسرائيليّ فشل إستراتيجيّ ضمن مستويين؛ الأوّل هو المستوى الإستراتيجيّ المباشر، أي تحقيق «الردع». والثاني هو المستوى الإستراتيجيّ بعيد المدى والأكثر عمقًا، الّذي يتمثّل في إيصال المقاومة أو الجماهير لأن تستدخل في وعيها مفهوم «الجدار الحديديّ»، عبر تحقيق «الردع المتراكم».

لتحليل هذين المستويين، وهما في الواقع متداخلين وما فصلي لهما إلّا لغرض التوضيح، أريد استعارة مفهوميّ «العقل الأداتيّ» و«العقلانيّة»؛ فما دام «الردع» يستهدف، كما ذكرنا، الإدراك العقليّ بما للعدوّ من قدرات، فإنّ قدرات إسرائيل المتفوّقة كانت واضحة وضوح الشمس في عزّ الظهيرة، ومُدْرَكَة على هذا النحو في وعي المقاومة، لكنّ الأخيرة لم ترتدع وأطلقت الصّواريخ، مُدْرِكَة بأنّ النتيجة حرب على القطاع؛ فهل هي قلّة العقل أم أنّ المقرِّر أكثر من «العقل الأداتيّ»، متمثّلًا في أنّ إسرائيل باعتمادها الحسابات العقليّة الدقيقة في محاولة «ردع» المقاومة، تعتبرها كائنًا عقليًّا مسطّحًا لا عمق له ولا أبعاد، يدرك بعقل محض، أو ربّما غرائزيّ، بأنّ واحدًا زائدَ واحد يساوي اثنين، أي فعل وردّ فعل، بلا جوهر أخلاقيّ أو منظومة قيميّة.

هذا الاعتقاد الإسرائيليّ مردّه العنصريّة الّتي أعمت متّخذي القرار، فجرّدت المقاومة من أبعادها الإنسانيّة. إنّ لاأنسنة المقاومة بقدر ما سهّلت على الطيّار الإسرائيليّ إفراغ حمولته من المتفجّرات على برج سكنيّ، فقد صعّبت على مقدّري الموقف الاستخباراتيّ فهم المقاومة وتقدير ردود أفعالها، ومن ضمن ذلك «الردع».

إنّ لاأنسنة المقاومة بقدر ما سهّلت على الطيّار الإسرائيليّ إفراغ حمولته من المتفجّرات على برج سكنيّ، فقد صعّبت على مقدّري الموقف الاستخباراتيّ فهم المقاومة وتقدير ردود أفعالها، ومن ضمن ذلك «الردع»...

إنّ المقاومة، ولا سيّما في قطاع غزّة ذي الظروف الخاصّة، متمثّلة في الحصار الّذي حوّله إلى سجن، تدرك القوّة الإسرائيليّة بتفكير عقلانيّ، و«العقلانيّة» كما أستخدمها هنا في التحليل، تشمل بالإضافة إلى حسابات «العقل الأداتيّ»، حسابات القلب والروح، وتقرّ بحسابات الواقع الجافّة؛ ففي حالة قطاع غزّة، إسرائيل قادرة على مسحه عن الوجود، لكنّ المقاومة تتعامل مع هذه المعطيات دون أن تصل بها إلى تكريس الواقع، وإنّما للنهوض به نحو مواقع أفضل تمامًا، وهي في ذلك كالأسير - والقطاع أسير، وقيادته أسرى سابقون – حين يكون مقيّد اليدين والساقين، ملقًى على الأرض وقد اجتمعت عليه هراوات السجّانين، وربّما في هذه اللحظات يصرخ من شدّة الألم لأنّه لا يملك سوى التمسّك بقناعته ومواقفه، لا يملك أمام هذا البطش سوى أمعائه الخاوية.

بكلمات أخرى، لم تأخذ المقاومة معطيات الواقع والتفوّق لتؤسّس عليه موقف المردوع، بل ترفض أن ترتدع وتتبنّى موقفًا أخلاقيًّا معياريًّا، الأمر الّذي يُفضي إلى المستوى الثاني من الفشل الإستراتيجيّ بعيد المدى في حسابات «الردع» الإسرائيليّ.

 

«الردع» المتبادل

فشِل «الردع المتراكم» في خلق حالة من اليأس والإحباط والتسليم بـ «الجدار الحديديّ»، ومن ثمّ استدخاله مجموعةً من المفاهيم في عقليّة المقاومة، وذلك في زمن فلسطينيّ عربيّ تبنّى «الجدار الحديديّ» باسم الواقعيّة السياسيّة، خطابًا عُمِّمَ على الخطاب العربيّ الرسميّ، وآخر ثماره السامّة الاتّفاقيّات الموقّعة مع الإمارات العربيّة المتّحدة وغيرها من دول عربيّة، ولكن ما هي حيثيّات التفكير العسكريّ للمقاومة، وبماذا فكّر كلّ من العقل والقلب والروح، على مستوى العقل والقلب والرّوح؟

على مستوى «العقل الأداتيّ»، تعاملت المقاومة وانطلقت من الحسابات الآتية: (1) إسرائيل تفوقنا قوّة وإمكانيّات، (2) ثمّة فرق بين القوّة واستخدام القوّة؛ بكلمات أخرى، أن تملك إسرائيل القوّة لا يعني أنّها تملك القدرة على استخدامها، ومن ثمّ فإنّ محدوديّة استخدام القوّة سيلغي جزءًا كبيرًا منها، (3) يمكن لإسرائيل أن تحسم الحرب وأن تنهي وجود المقاومة فقط إذا اجتاحت قطاع غزّة بثمن فلسطينيّ بشريّ باهظ، وأعداد كبيرة من القتلى في صفوف جنودها، لكن، لمَنْ ستسلّم القطاع بعد السيطرة عليه؟ فالسبب الّذي دعاها للخروج من القطاع سيبقى قائمًا، وستتحوّل قوّاتها في حالة البقاء إلى أهداف سهلة؛ فهل ستدفع ثمن تسليم غزّة إلى طرف فلسطينيّ أو عربيّ من دماء جنودها؟

لم تأخذ المقاومة معطيات الواقع والتفوّق لتؤسّس عليه موقف المردوع، بل ترفض أن ترتدع وتتبنّى موقفًا أخلاقيًّا معياريًّا، الأمر الّذي يُفضي إلى المستوى الثاني من الفشل الإستراتيجيّ بعيد المدى

الإجابة بالتأكيد هي لا؛ هذه المعضلة الّتي تعيشها القيادة الإسرائيليّة، في ظلّ عدم استعدادها لدفع الثمن السياسيّ بفكّ الحصار عن قطاع غزّة، أدركتها المقاومة، فكان تقديرها بأنّ إسرائيل لن تجتاح القطاع تقديرًا صحيحًا. هنا يمكننا الحديث عن «ردع» متبادل رغم تفاوت ميزان القوى لصالح إسرائيل؛ إذ ارتدعت إسرائيل من دخول القطاع برًّا، بينما لم ترتدع المقاومة عن إطلاق صواريخها في كلّ جولة.

أمّا حيثيّات تفكير القلب والروح، الّذي تعامَتْ إسرائيل عن رؤيته لدى المقاومة بفعل عنصريّتها؛ فثمّة أوّلًا المركّب العقائديّ والاستعداد العالي للتضحية، وأهمّيّة ومركزيّة القدس والمسجد الأقصى مركّبًا أساسيًّا في هذه العقيدة. وثانيًا، لا شيء يخسره قطاع غزّة سوى حصاره وقيوده، وهذا موقف أخلاقيّ معياريّ يحوّل الارتداع إلى موقف لا أخلاقيّ.

 

 


وليد دقّة

 

 

أسير سياسيّ منذ عام 1984. حاصل على درجتي ماجستير في العلوم السياسيّة والدراسات الديمقراطيّة في الأَسْر، حيث يعمل في مهنة التدريس. له مجموعة مؤلّفات: «صهر الوعي: أو إعادة في تعريف التعذيب»،  و«مسرحيّة الزمن الموازي»، و«يوميّات المقاومة في جنين»، و«حكاية سرّ الزيت»، و«حكاية سرّ السيف».