أعياد للربيع

آشوريّون يحتلفون بعيد «أكيتو» في دهوك

 

احتفالات عديدة في الأرض، تتزامن مع بدء موسم الربيع، معتبرة إيّاه البداية الحقيقيّة والفعليّة للعام الجديد، وبداية لحياة وأمنيات وأمجاد جديدة للشعوب والحضارات حول العالم؛ إذ لطالما كان الربيع مباركًا ومقدّسًا لديها، حتّى صار متيمّنًا به في استخدامه مفاتيح لفظيّة دالّة على الازدهار والنماء والرخاء، بناءً على ما يحمله من هذه المعاني كتأثيرات طبيعيّة وجيولوجيّة.

ما زال الناس في مختلف أنحاء العالَم يسمّون أبناءهم باسم الربيع أو أسماء مشتقّة منه كأسماء شهوره، أو يستخدمونه في قوالب تعبيريّة مثل ’ربيع العمر‘، أو ’الربيع العربيّ‘، أو ’ربيع الشعوب‘، وهو قالب التسمية نفسه الّذي التصق بالعاصمة التشيكيّة براغ، لدى محاولة الحزب الشيوعيّ التشيكوسلوفاكيّ اتّباع نهج إصلاحيّ أقرب إلى الديمقراطيّة، بعيدًا عن القبضة الاستبداديّة آنذاك، وبديلًا عنها، فصارت تُسَمّى تلك الفترة «ربيع براغ».

العالم ما زال يشهد منذ آلاف السنين أعيادًا واحتفالات في موسم الربيع، استقبالًا وتبجيلًا له، منها ما بُنِي على أسس دينيّة، وأخرى فلكيّة أو جيولوجيّة أو تاريخيّة أو أسطوريّة؛ فما علاقة الربيع بهذه الأعياد؟

 

أوّلًا عيد «أكيتو»

المعروف لنا أنّ هذه الأعياد بدأت بـ «عيد أكيتو»، الّذي يعني ’رغد العيش‘ في بلاد ما بين النهرين، حيث أجزاء من العراق وسوريا وتركيا اليوم، بين دجلة والفرات تحديدًا، هذا العيد الّذي تُرْجِعُه مصادر تاريخيّة إلى نحو الألف الثالث قبل الميلاد؛ ليكون بذلك أوّل عيد تعرفه الحضارة الإنسانيّة.

العالم ما زال يشهد منذ آلاف السنين أعيادًا واحتفالات في موسم الربيع، استقبالًا وتبجيلًا له، منها ما بُنِي على أسس دينيّة، وأخرى فلكيّة أو جيولوجيّة أو تاريخيّة أو أسطوريّة...

وكان «أكيتو» بالنسبة إلى حضارات ما بين النهرين (آشور وبابل وسومر وغيرها) بمنزلة عيد رأس السنة، اعتمادًا على ارتباط الأمر بتشكّل القمر الجديد واكتماله في شهر نيسان (أبريل)؛ إذ كانت هذه الحضارات تعتمد التقويم القمريّ في حساب السنوات، ويستمرّ العيد طوال اثني عشر يومًا، وهي الفترة الّتي يستغرقها القمر لاكتماله، ويرتبط الأمر كذلك بموسم البذار والخضرة والنماء، كما يرتبط بأعياد الآلهة في بلاد الرافدين آنذاك، وذكرى انتصارات كبار ملوكهم؛ ليصير أحد أيّام العيد يومًا لتعزيز حكم الملك الحاكم وتجديد البيعة له، وليكون سنّ الشرائع والقوانين الجديدة، وما إلى ذلك في أيّام أخرى من أيّام العيد الاثني عشر.

ويقوم العيد أيضًا بناءً على رموز عدّة شديدة التعقيد متّصلة بالرقم 12، الّذي يمثّل عدد أيّام العيد، ومتّصلة بدلالات هذا الرقم في علم الرياضيّات البابليّ، وأسطورة ارتباط الرقم 12 بالخصوبة والوفرة في بلاد الرافدين، وبعدد أشهر السنة؛ ليخصّص كلّ يوم من العيد لشهر كامل من السنة، كما يرتبط العيد بمكانة شهر نيسان (أبريل) الفلكيّة الّتي ربّما تُكْتَسَب من إكمال القمر لاثنتي عشرة دورة حول الأرض، وبالتالي اكتمال سنة قمريّة كاملة، وبداية سنة قمريّة جديدة في نيسان (أبريل)، ذلك بالإضافة إلى دورة الأبراج المارّة فيه، الّتي تتّصف بالقوّة والخصب والنماء، بحسب الاعتقاد الفلكيّ.

 

أثر بلاد ما بين النهرين

«عيد أكيتو» الّذي انطلق من بلاد الرافدين، ألهم حضارات وممالك عديدة مثل فارس والهند والترك والأذر والأفغان والكرد وغيرهم؛ فتبنّوا هذا العيد، وصبغوه بعادات وتقاليد أخرى، واصلينه برموز خاصّة، مثل «النوروز/ النفروج» في مناطق فارس وما حولها.

ويمثّل «النوروز/ النفروج» بداية الاعتدال الربيعيّ، وعودة الشمس إلى أوجها - وهي الّتي تحظى بحرمة عظيمة في الديانة الزرادشتيّة – في ما يخصّ منطقة فارس بالتحديد، ذلك بالإضافة إلى عودة الزرع والحياة إلى الأرض. كما اكتسب «النوروز/ النفروج» أساطير متعدّدة ومختلفة المصادر حوله أيضًا، مثل أسطورة الملك الفارسيّ جمشيد الّذي بلغ حكمه مبلغًا عظيمًا حتّى حملت الجنّ عرشه، وسُخِّرَتْ له القوى في يوم من أيّام الربيع، شهر نيسان (أبريل) تحديدًا، فأقرّ الاحتفال فيه.

العيد ذاته أيضًا يكون الاحتفال فيه عند الكرد لدوافع مشابهة، إضافة إلى ارتباطه بأسطورة الكرد عن الحاكم الضحّاك الظالم، والفتى الحدّاد الّذي قتله لتعود الحياة إلى استقرارها...

العيد ذاته أيضًا يكون الاحتفال فيه عند الكرد لدوافع مشابهة، إضافة إلى ارتباطه بأسطورة الكرد عن الحاكم الضحّاك الظالم، والفتى الحدّاد الّذي قتله لتعود الحياة إلى استقرارها ويسود العدل.

وتكثر أعياد الربيع المتعلّقة بالآلهة وانتصاراتها، ورمزيّة عودة الحياة والخصب وانتعاش الأرض والإنسان في الهند كذلك، وأبرز هذه الأعياد «فاسانت بنشامي» و«مهرجان الألوان»، وغيرهما أعياد كثيرة معروفة وممارَسة حتّى اليوم.

 

الربيع الكنعانيّ

كان للكنعانيّين أعياد متمايزة عن تلك الّتي لحضارات بلاد الرافدين؛ ربّما في محاولة لصدّ المدّ ’الرافديّ‘، أو لإحيائها أعيادًا كثيرة أخرى خاصّة بآلهتها وأساطيرها التاريخيّة والدينيّة والثقافيّة؛ مثل «عيد عليان بعل»، و«عيد أدونيس»، و«عيد عشتار» - وهي الّتي كانت من الآلهة الّتي تشترك فيها كنعان وبلاد الرافدين – وغيرها من الأعياد المتعلّقة بالآلهة وبعودة الخضرة والنماء إلى الأرض في الربيع؛ إذ استمرّ سكّان هذه المناطق بإحياء هذه المواسم في فترات تاريخيّة مختلفة ومتباينة، بعضها يأخذ أبعادًا دينيّة وأخرى ثقافيّة، وبعضها يستند إلى أسس تاريخيّة؛ فمثلًا، أقرّ صلاح الدين الأيّوبيّ في فترة حكمه لفلسطين عددًا من المواسم الاحتفاليّة، الّتي تصادفت مواعيدها مع الربيع وشهر نيسان (أبريل) تحديدًا، وكانت الغاية منها استنفار الناس في فلسطين، وتأديتهم لمظاهر المبارزة والفروسيّة والشجاعة؛ لإبراز قوّتهم لدى زيارة الفرنجة للأماكن المقدّسة في فلسطين، وبالتالي التأهّب المسبق لصدّ أيّ عدوان إفرنجيّ محتمل أثناء الزيارة، وكان من أبرز هذه المواسم؛ «موسم الداروم»، و«النبيّ موسى»، و«النبيّ روبين»، و«موسم المطار»، وغيرها من المواسم الاحتفاليّة.

ولقد دفعت بهجة الربيع، وشهر نيسان (أبريل) بالتحديد، الكنعانيّين إلى الاحتفال عشيّة نهاية كلّ أسبوع من الشهر، وتسميته بـ «شهر الخمسان» أو «شهر الخميس»، وهو ما لا يزال يفعله الفلسطينيّون اليوم، وتتوزّع هذه الاحتفالات الشعبيّة على الأسابيع الأربعة في الشهر بالترتيب، بين «خميس النبات أو البنات»، الّذي تنمو فيه النباتات في الأرض، وتكثر فيه احتفالات الزواج والأعراس.

ومثل الكنعانيّين سابقًا، فإنّ الفلسطينيّين احتفلوا بـ «خميس الموسم» في القدس، ليتوجّهوا في اليوم التالي إلى «مقام النبيّ موسى» في أريحا، الّذي يعتقد أنّه دُفِنَ فيه بعد عودته بـبني إسرائيل إلى أرض كنعان. كما يقدّم الناس في فلسطين الخيرات عن أرواح أمواتهم في «خميس الأموات»، محتفلين بذكراهم، وراجين الله أن يهب لهم الرحمة والمغفرة.

كما يقدّم الناس في فلسطين الخيرات عن أرواح أمواتهم في «خميس الأموات»، محتفلين بذكراهم، وراجين الله أن يهب لهم الرحمة والمغفرة.

ويحتفل الفلسطينيّون في الخميس الرابع من نيسان (أبريل) بغسيل مواشيهم، وتوزيع حليبها على المحتاجين والأهل والجيران، في طقس احتفاليّ وخيريّ بهيج. وليضاف إلى هذه الأعياد في فلسطين والمنطقة السوريّة لاحقًا، وإبّان نزول الديانة المسيحيّة؛ أعياد مثل «عيد الفصح»، و«القيامة»، و«الجمعة العظيمة»، وغيرها من الأعياد الّتي نشأت مرتبطة بحوادث دينيّة مسيحيّة تاريخيّة في فلسطين، لتمتدّ منها إلى العالم أجمع؛ فلقد كانت الغاية من «الفصح» مثلًا، استذكار قيامة المسيح بعد حادثة الصلب، حسب الاعتقاد الدينيّ المسيحيّ، أو رفع الله المسيح إليه، حسب الاعتقاد الدينيّ الإسلاميّ؛ الأمر الّذي يأخذنا إلى مدلولات الحياة الجديدة الّتي ذهب إليها المسيح من ناحية، والحياة الّتي سار إليها الناس من بعده من ناحية أخرى في ذلك الوقت، إن أردنا أن نربط ذلك بعوامل التجدّد والنموّ والحياة الجديدة في فصل الربيع دينيًّا.

وفي السياق ذاته، فقد اتّصلت أعياد الربيع السوريّة والكنعانيّة بالديانات السماويّة السابقة، وبالأنبياء السابقين، ومن هذه ما أقرّه صلاح الدين الأيّوبيّ من المواسم، وما وافق ذكرى أحداث أو مواقيت دينيّة كذلك؛ مثل «عيد النبيّ موسى» و«النبيّ روبين» و«النبيّ صالح»، الّتي توافق كلّها موسم الربيع وشهر نيسان (أبريل) تحديدًا. وهذا ما صار الناس يعزونه، ربّما، أو يؤكّدونه كاتّفاق للسماء مع الأرض، على قدسيّة الربيع وجلالته، رمزًا للعطاء والتجديد والنموّ والحياة، دينيًّا وطبيعةً وتأريخًا.  

 

ربيع حول العالَم

ويضطلع «عيد شمّ النسيم» في مصر بأهمّيّة كبيرة لدى المصريّين، وهو الّذي وُرِث حتّى اليوم، عن الحضارة الفرعونيّة فالقبطيّة باسم «شوم إِنْسِمْ» أو «شومو»، وهو طقس من طقوس التبارك والاحتفال بنموّ الزرع والأرض؛ نظرًا إلى الاهتمام الكبير الّذي أولته الحضارة الفرعونيّة بالزراعة، واعتمادها عليها بشكل خاصّ، وبراعة الفراعنة وتميّزهم فيها.

ويرتبط الربيع عند الإغريق بأسطورة عودة بيرسفون، ابنة الآلهة زيوس من العالم السفليّ، الّذي اختطفت إليه بحسب الأسطورة الإغريقيّة لتجلب معها الحياة والنبات إلى الأرض، في بداية الربيع، بعد القحط الّذي أصابهم.

ويرى الصينيّون في الربيع أيضًا بداية للسنة الصينيّة الجديدة؛ بناءً على حقائق فلكيّة، ومعتقدات تاريخيّة، وأساطير صينيّة عدّة أبرزها أسطورة «الوحش نيان»، والعجوز الّذي حمى البلاد من خرابه وبطشه، وقضى عليه في يوم من أيّام الربيع؛ لتزهر الأرض وتعود لها الحياة.

بتنا نشهد اليوم أعيادًا ومناسبات عالميّة موحّدة، يوافق توقيتها فصل الربيع في الجزء الشماليّ من الكرة الأرضيّة، مثل «عيد الأمّ» و«عيد العمّال...

هذه الأعياد وغيرها من الأعياد التاريخيّة الّتي تُقام في فصل الربيع حول العالم، ظلّت متداولة موروثًا حضاريًّا حتّى يومنا الحاضر؛ ليضاف إليها أعياد أخرى أو تعديلات، مثل عيد «خا بنيسان» الّذي يحتفل فيه الأشوريّون اليوم؛ لإظهار تمايزهم عن البابليّين الّذين كانت تربط ما بينهم علاقة تاريخيّة خلافيّة وتناحريّة، ولإبراز تباينهم عن غيرهم من الأقوام والحضارات، الّتي كانت تشاركهم الاحتفال في «أكيتو» أيضًا.

كما أنّنا بتنا نشهد اليوم أعيادًا ومناسبات عالميّة موحّدة، يوافق توقيتها فصل الربيع في الجزء الشماليّ من الكرة الأرضيّة، مثل «عيد الأمّ» و«عيد العمّال»، وغيرهما من الأعياد الأخرى.

 

إعادة الحياة إلى الأرض

ويمكن تلخيص هذه الحالة البشريّة على ما يبدو، بمواساة البشر لأنفسهم بالربيع، والاستئناس به ومناجاته؛ لمنحهم دافعًا للتجديد والنموّ والاندفاع إلى الحياة، أو منحهم الحياة الجديدة الّتي يرنون ويتطلّعون إليها كلّ ما هدأت عزيمتهم، مؤمّلين أنفسهم ومتذرّعين بحافز الطبيعة، ودعوة الربيع الّذي يعيد الحياة إلى الأرض كلّما خبت، والحياة للناس كلّما هدأ نفورهم؛ وبذلك فإنّ الناس ينجحون في خلق المبرّرات لأنفسهم، بالتجدّد الّذي يعيدهم إلى البدايات الجديدة، والازدهار من جديد في الأرض.

وذلك ما يعطينا مؤشّرًا على حبّ الناس للحياة ما استطاعوا إليها سبيلًا، حتّى أنّهم صنعوا لها أعيادًا وقدّسوها، وما يترك انطباعًا وأثرًا قويًّا كذلك، على ارتباطهم المتواصل بالأرض، الّتي نبتوا وأخرجوا منها وإليها يعودون، ولتأكيد ذلك؛ فلقد ترجم المؤرّخ السوريّ تيسير خلف مؤخّرًا نقشًا من الكنعانيّة إلى العربيّة، عُثِرَ عليه في «تلّ جازر» جنوب غرب مدينة الرملة الفلسطينيّة المحتلّة؛ يظهر تقسيم السنة الكنعانيّة وفق النظام الزراعيّ، وقد يبدو هذا مثالًا جليًّا على ارتباط الناس بالأرض، الّذي يدفعهم إلى تنظيم حياتهم، وفقًا لتغيّراتها ومناخاتها، ووفقًا لدرايتهم بها، وهو الأمر ذاته الّذي يدفعهم إلى تقديم أرواحهم في سبيل حمايتها والدفاع عنها.

 


 

غسّان القيسي

 

 

 

كاتب فلسطينيّ يقيم في الأردنّ. يهتمّ بالشأن الفنّيّ والسينمائيّ والسياسيّ. يدرس الإذاعة والتلفزيون في جامعة 'البترا'.