رمضان الحرّيّة أو الشهادة: الأمعاء الخاوية في مواجهة السجّان

Getty | 2003

 

مقدّمة

يُعْرَف شهر رمضان فلسطينيًّا بوصفه شهر المواجهة العنيفة والعلنيّة مع الاستعمار. إذ تتكاثف فيه اعتداءات الاستعمار من جهة، والمقاومة الشعبيّة والفصائليّة المتزامنة مع الاشتباكات الإسرائيليّة الفلسطينيّة في القدس وغزّة بشكل خاصّ من جهة أخرى، حيث يتنامى العدوان الإسرائيليّ على قطاع غزّة، وتكثر الاقتحامات الاستيطانيّة للمسجد الأقصى، الّتي تسفر عن إصابات واعتقالات وخراب ينتهك قدسيّة المسجد وحرمته.

من المتوقَّع أن يشهد رمضان 2023 الكثير من سيناريوهات التصعيد، تبعًا لمؤشّرات عدّة، منها حالة المقاومة اليوميّة الّتي تشهدها مدينتا نابلس وجنين، وتقاطع شهر رمضان مع عيد الفصح اليهوديّ في نيسان (أبريل) 2023. إضافةً إلى العصيان الّذي بدأه الأسرى في سجون الاستعمار منذ منتصف شهر شباط (فبراير)؛ ردًّا على قرارات وزير الأمن القوميّ إيتمار بن غفير، الّتي تطال أبسط حقوقهم اليوميّة، المتمثّلة بإجراءات تشدّ قبضتها على الجسد، وتضيّق عليهم أكثر فأكثر، بتجاوز مستمرّ للقانون الدوليّ و«معاهدات جنيف»، بحجّة الضبط وإدارة مصلحة السجون، ممّا دعا بالأسرى إلى مقاومتها بأساليب ووسائل احتجاجيّة عدّة، وفق برنامج نضاليّ أعلنته «لجنة الطوارئ العليا» للحركة الأسيرة، أبرزها إعلان إضرابهم المفتوح عن الطعام في الأوّل من رمضان، وعنوانه: «بركان الحرّيّة أو الشهادة».

 

معركة الأمعاء الخاوية

منذ أكثر من شهر، دشّن الأسرى الفلسطينيّون عصيانهم المتصاعد ضدّ إجراءات التنكيل الّتي تفرضها قرارات بن غفير في حقّهم، وفق حالة تعبئة عامّة في سجون الاستعمار، وبرنامج نضاليّ موحّد تمثّلت ذروة خطواته التصعيديّة بخوض مغامرة الحياة أو الموت (معركة الأمعاء الخاوية)، ثمنها الصمود والمقاومة، علّها تُسْمِن من حرّيّة أو تُغْني من شهادة، علمًا بأنّه "يبلغ عدد الأسرى داخل سجون الاستعمار الإسرائيليّ نحو 4780، من بينهم 160 طفلًا، و29 أسيرة، و 914معتقلًا إداريًّا"[1].

اتّخذ الأسرى أساليب احتجاجيّة عدّة لمواجهة قمع إدارة السجون وانتهاكاتهم، المتمثّلة في تكثيف حملات التفتيش، ومضاعفة الاقتحامات، واستخدام الكلاب البوليسيّة...

وفقًا للبرنامج الّذي أقرّته الحركة الأسيرة، اتّخذ الأسرى أساليب احتجاجيّة عدّة لمواجهة قمع إدارة السجون وانتهاكاتهم، المتمثّلة في تكثيف حملات التفتيش، ومضاعفة الاقتحامات، واستخدام الكلاب البوليسيّة وقنابل الصوت للترويع. هذا عدا الإجراءات العقابيّة الّتي طالت جودة خبزهم، ومرّات الاستحمام ومدّته، وتلك الّتي تمسّ حقوقهم الإنسانيّة البسيطة المتعلّقة بالملابس والعلاج. إضافة إلى مساعي بن غفير لإقرار قانون عقوبة الإعدام في حقّ منفّذي العمليّات ضدّ الإسرائيليّين؛ وهو ما يجعل من ملفّ الأسرى قضيّة إنسانيّة بالدرجة الأولى، إلى جانب بُعْدَيْها السياسيّ والقانونيّ.

لذا؛ تمثّلت وسائل المواجهة المتاحة لمعتقلين ومعتقلات لا يملكون إلّا قِيَمهم وأجسادهم المكبَّلة، في الاعتصام في ساحات السجن، وإرجاع وجبات الطعام، وتنفيذ الإرباك الليليّ عبر التكبير وطرق الأبواب والهتاف: "حرّيّة... حرّيّة"، وارتداء ’الشاباص‘ (زيّ إدارة السجون، لباس الأسرى الموحَّد في السجن، البنّيّ اللون)؛ لإيصال رسالة ضمنيّة مفادها أنّ جميعهم على استعداد للمقاومة إلى أن تبتلّ العروق حرّيّة أو تثبت الشهادة.

علاوة على ذلك، دعت الحركة الأسيرة إلى أن يكون كلّ يوم جمعة جمعة غضب؛ دعمًا للأسرى والأسيرات في تضحياتهم في سبيل خوض معركة حقوقيّة لا تقلّ عن سواها، في ساحة زنزانة ما هي إلّا جزء من سجن أكبر. وفي إشارة إلى استمراريّة المقاومة وقوّة الإرادة وهوان الحياة، مقابل الكرامة.

كذلك جرت الدعوة إلى تخصيص يوم الثلاثاء لإحياء ذكرى «الثلاثاء الحمراء»، الّتي تعود قصّتها إلى عام 1930؛ فترة الاستعمار البريطانيّ، حين أعدمت السلطات البريطانيّة محمّد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي، إثر ما عُرِف بـ «ثورة البراق» في «سجن القلعة» بمدينة عكّا. وما زالت قصّة هؤلاء الشهداء الثلاثة، الّذين أُعْدِموا يوم الثلاثاء، في ثلاث ساعات متتالية، تسابقوا فيها على الموت، خالدة في ذاكرة الفلسطينيّين، تتناقل عبر الأجيال، وحاضرة في القصّة والشعر والأغنية.

 

في غياهب السجون

يذكر عزمي بشارة في تقديمه لكتاب «صَهْر الوعي أو في إعادة تعريف التعذيب»، للأسير وليد دقّة، أنّ "للكتابة عن السجون حساسيّة لا يدركها إلّا مَنْ عاشها؛ فالأسرى منشغلون بأدقّ التفاصيل، تستحوذ عليهم أمور تبدو من خارج السجن قليلة الأهمّيّة، لكنّها تبدو مصيريّة للأسير (...) كلّ تفصيل صغير مهمّ. وكلّ لفظ يُفَسَّر ويُؤَوَّل. وإذا صحّ ذلك بالنسبة إلى التفاصيل الصغيرة من حجم قطعة الخبز، وحتّى قطعة الصابون، فما بالك بتشخيص جريء وشامل لحال السجون السياسيّ؟"[2]. إذ يعيش الأسرى الفلسطينيّون داخل السجون الإسرائيليّة مختلف أنواع القمع والتعذيب، عبر سياسة تنكيليّة ممنهجة، تستهدف مختلف الفئات العمريّة للأسرى، ودون مراعاة لخصوصيّة النساء والأطفال منهم.

في محاولات لتطويع الجسد وإخضاعه، وفرض السيادة عليه، تتّبع السلطة الاستعماريّة أساليب عدّة لممارسات لاشرعيّة تستهدف تعذيب الأسرى جسديًّا ونفسيًّا، وامتهان كرامتهم، تتنوّع فيها أشكال العنف واستخداماته. على سبيل التعداد لا الحصر؛ يعاني الأسرى في السجون والمعتقلات الإسرائيليّة الإجراءات العقابيّة المتمثّلة في أساليب التحقيق والاقتحامات والتفتيشات، الّتي يرافقها اعتداءات جسديّة وترويع نفسيّ. كذلك في سياسة ’العقاب‘ الجماعيّ، والعزل الانفراديّ، وسياسة الاعتقالات الإداريّة، وتردّي أوضاع المعيشة في زنازين تفتقر إلى أدنى مقوّمات الصحّة العامّة.

في محاولات لتطويع الجسد وإخضاعه، وفرض السيادة عليه، تتّبع السلطة الاستعماريّة أساليب عدّة لممارسات لاشرعيّة تستهدف تعذيب الأسرى جسديًّا ونفسيًّا...

في الأعوام الأخيرة، شكّلت سياسة ’القتل/ الموت البطيء‘ أبرز أوجه الانتهاكات الصحّيّة الّتي يتعرّض لها المرضى من الأسرى على وجه الخصوص؛ فبالإضافة إلى تردّي الأوضاع الصحّيّة، والحرمان من خدمات الرعاية الطبّيّة داخل السجون، تتّبع إدارة السجون سياسة الإهمال الطبّيّ المتعمّد في حقّ المصابين بأمراض مزمنة وخطرة، تحتاج إلى تدخّل طبّيّ فوريّ ومستمرّ؛ من خلال حرمانهم من الكشف الطبّيّ، والنقل إلى المستشفيات لإجراء الفحوصات وتلقّي العلاج الدوائيّ والجراحيّ اللازم. ومن أبرز المؤشّرات على تلك السياسة ارتقاء عدد من الشهداء الأسرى في المعتقلات، ومنهم مَنْ احتجزت السلطات الإسرائيليّة جثامينهم داخل مقابر الأرقام، وثلّاجات الموتى؛ لتفرض سيادتها على حالة الموت أيضًا كما الحياة.

 

في التوظيف السياسيّ للجسد

تُقْرَأ خصوصيّة الجسد الفلسطينيّ، وتقنيّات التوظيف السياسيّ له، من جانبين؛ أحدهما يتمثّل في الصور الّتي تتجلّى فيها الممارسات السلطويّة والانتقاميّة للنظام الاستعماريّ، الّذي يسعى إلى فرض هيمنته على جسد الفلسطينيّ بانتهاكات تمسّ كينونته، يُكْشَف عنها في قصّة كلّ شهيد أو حالة أسير أو معتقل. أمّا الجانب الآخر فهو يتمثّل في انخراط الجسد الفلسطينيّ في الحقل السياسيّ والفعل الاحتجاجيّ؛ إذ يُعَدّ أحد أهمّ مكوّنات الفعل الثوريّ وفعل المقاومة للمشروع الاستيطانيّ؛ ممّا يعطيه وظائف وأدوارًا مركزيّة في بنية الاستعمار الّتي تشكّل منظومة المعتقَل أبرز أوجهها.

هذا الأخير هو الّذي دفع بالأسرى للاتّخاذ من الوظائف الحيويّة لأجسادهم أداة لمواجهة الاستعمار؛ من خلال خوض «الثورة الأسيرة» أو «معركة الأمعاء الخاوية»، الّتي ما هي إلّا جولة من معارك ومواجهات مستمرّة في فضاء الاشتباكات الفلسطينيّة- الإسرائيليّة اليوميّة. وعليه؛ "لا يمكن فَهْم نضال الأسرى في المعتقلات الصهيونيّة، وتجربة الإضراب عن الطعام، إلّا من خلال وضعها في السياق الأوسع لنضال الفلسطينيّين ومقاومتهم؛ فالإضراب الّذي يمارسه المعتقَل السياسيّ بجسده الفرديّ، ما هو إلّا تجسيد للنضال الجمعيّ. ولا بدّ من وضع عنف الاعتقال السياسيّ في السياق الأوسع للعنف الاستعماريّ الاستيطانيّ منذ النكبة"[3].

 

في الأبعاد الرمزيّة للإضراب

وصف الكثير من الأدبيّات حالة الإضراب عن الطعام بشكلها العامّ بأنّها "عنف موجَّه نحو الذات، وتدمير ذاتيّ"، دون الأخذ بتباين السياقات، واختلاف الدوافع والمسبّبات والإمكانيّات المتاحة للتعامل مع كلٍّ منها. كما أنّنا ما زلنا نفتقر إلى وجود دراسات شاملة تبحث في هذه الظاهرة - إذ يصطلح تسميتها كذلك - وفق اختلاف الحالات وخصوصيّتها؛ "ففي هذه التجربة الإنسانيّة الوجوديّة الّتي تقع بين الموت والحياة، والّتي تتطوّر فيها قوّة غير مادّيّة من خلال انهيار الجسد. نتعامل مع ذات سياسيّة ثوريّة مركّبة، تظهر فيها فرادة الحالة الفلسطينيّة"[4]، الّتي لا يمكن فهمها من خارج توصيف الإضراب بأنّه تقنيّة مقاومة، وآليّة لانتزاع أبسط الحقوق، وبتحييد الأبعاد الرمزيّة للإضراب، وانعكاساتها الاجتماعيّة والنفسيّة. إذ إنّ "تجربة الإضراب عن الطعام لا تقتصر على تسليح الجسد إستراتيجيّةً سياسيّة فحسب، بل تتعلّق أيضًا بروحانيّات المقاومة (أي بإضفاء الروحانيّات على السياسة)"[5]؛ لمواجهة استعمار يسعى عبر سياسات إدارة سجونه إلى استهداف البنى التحتيّة المعنويّة للمقاومة، الّتي يُقْصَد بها "مجموع القيم الجامعة الّتي تجسّد مقولة الشعب الواحد في الحياة اليوميّة"[6] الّتي "من شأنها أن تحوّلهم من أفراد – إرادات إلى مجموعة شعب"[7].

المقاومة لعدوان منظومة السجن مقاومة لاستعمار كامل، بوصف السجن وحدة في بنية مشروع استيطانيّ أوسع...

يجري ذلك من خلال استخدام إستراتيجيّات الهندسة الجماعيّة، وعلم نفس الجماعات في مختلف أساليب الضبط والعقاب، الهادفة إلى إلحاق الضرر بالصحّة الجسديّة والنفسيّة والعقليّة للأسرى؛ لتطال المعاناة عائلاتهم، وتضعف فيهم روح الصمود وعزيمة المقاومة. بالتالي؛ "في هذه العمليّة المستمرّة من استعادة الإنسانيّة، تتشكّل الذات الثوريّة للمضربين، ويتحقّق وجودهم من خلال التحوّل من ذات الضحيّة إلى ذات ثوريّة فاعلة"[8]. لذا؛ تأخذ "معركة الأمعاء الخاوية" ضدّ ظلم السجن وظلم السجّان، طابع حالة صمود ممتدّة، يُنْظَر إليها على المستوى الجمعيّ، بأنّها "رمز لحلم الفلسطينيّين الجماعيّ بالحرّيّة وتقرير المصير"[9]، وانحلال القبضة عن الوطن كما الجسد؛ فإنّ المقاومة لعدوان منظومة السجن مقاومة لاستعمار كامل، بوصف السجن وحدة في بنية مشروع استيطانيّ أوسع؛ فلا يمكن النظر إلى صورة المقاومة هذه بمعزل عن مشهد المواجهة الّذي أوجدهم داخل السجون مثلًا، أو باقتطاع من امتداد أوجه العدوان المستمرّ على الشعب الفلسطينيّ، وأعمال المقاومة في مختلف فضاءات وجوده.

 

يوم الأسير الفلسطينيّ

يصادف السابع عشر من نيسان (أبريل) من كلّ عام، «يوم الأسير الفلسطينيّ»، الّذي يتزامن في هذا العام مع تفاقم العنف الاستعماريّ، يقابله حالة من التصدّي والمواجهة والنضال، دعت عبر أجندتها كلّ الفلسطينيّين إلى الوقوف مع الأسرى، وتثمين تضحياتهم ومغامراتهم أمام مخاطر جسديّة ونفسيّة محتومة.

يجري ذلك في ظلّ تزامن قرار الإضراب مع شهر رمضان؛ ممّا يستوجب توحيد المطالب لنصرة الأسرى الفلسطينيّين في سجون الاستعمار الإسرائيليّ، الّذين اختاروا "تحويل أجسادهم إلى موقع ثورة. وهنا يصبح الجسد أكثر من الجسد المادّيّ الفرديّ؛ لأنّ الإضراب يصبح رمزًا للتحرّر الجماعيّ، وجسد المضرب عن الطعام رمزًا لسياسات الجسد الفلسطينيّ المشتركة مجتمعيًّا[10].

بهذا؛ يسعى الأسرى إلى شدّ الميثاق الغليظ الّذي يربط الفلسطينيّ بالفلسطينيّ، والساعي الاحتلال إلى حلّه، بكلّ ما يؤتى من سلطة وعنف.

 


إحالات

[1] عربي بوست، "ما هي قصّة "الثلاثاء الحمراء" الّتي يُحيي الأسرى الفلسطينيّون بالسجون الإسرائيليّة ذكراها؟"، تاريخ النشر: 14\3\2023، تاريخ الدخول: 20\3\2023، عبر: 

https://arabicpost.net/%D8%AA%D8%AD%D9%

[2] وليد دقّة، صهر الوعي، أو في إعادة تعريف التعذيب، تقديم عزمي بشارة، (الدار العربيّة للعلوم ناشرون: بيروت، مركز الجزيرة للدراسات: الدوحة، 2010)، ط1، ص9.

[3] أشجان عجّور، "الإضراب عن الطعام وتسليح الجسد: فلسطين وتجارب عالميّة"، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، ع.133: 169-188، شتاء 2023، ص171.

[4] أشجان عجّور، المرجع السابق، ص181.

[5] مرجع سابق، ص181.

[6] وليد دقّة، مرجع سابق، ص28.

[7] المرجع السابق، ص28.

[8] أشجان عجّور، مرجع سابق، ص182.

[9] المرجع السابق، ص183.

[10] المرجع السابق، ص184.

 


 

إيمان بديوي

 

 

 

كاتبة أردنيّة، دَرَسَتْ الماجستير في «علم الاجتماع» من «معهد الدوحة للدراسات العليا»، مهتمّة بالقراءة السوسيولوجيّة للقضايا المجتمعيّة الراهنة.