نقص البطولة وتكاملها في "بردقانة" إياد برغوثي

قد تكون رواية إياد برغوثي، 'بردقانة'،[2] والّتي صدرت عام 2014 عن دار الآداب في بيروت، إحدى العلامات المميّزة في الرّواية الفلسطينيّة في أراضي 48. هي ليست قفزةً على مستوى التقنيّات البنائيّة، والّتي لا تخرج عن بنية العديد من الأعمال الأدبيّة السّابقة لها، بقدر ما هي ومضة المقول المُضْمَرِ في الخطاب السّرديّ الفلسطينيّ، لا سيّما مفهوم البطولة.

بطلٌ لا بطوليّ

تدور الرّواية حول فايز غندور، مدّرب فريق النّادي القوميّ الرّياضيّ في عكّا، والّذي ينتظر شقّ طريقه في مجال كرة القدم وتحقيق طموحاته الرّياضيّة، كما ينتظر موعد زفافه من خطيبته ثريّا، الّتي يعشقها كما يعشق كرة القدم، وكرته الخاصّة الّتي أسماها 'بردقانة'.

مهارة غندور ستجعل عبد الرّحمن الهبّاب، سكرتير الاتّحاد الرياضيّ، يكلّفه مهمّة تشكيل منتخبٍ وطنيٍّ يمثّل فلسطين؛ لكنّ صورة جثّة والده المنشورة في إحدى الصّحف وقد علّقت عليها لافتة 'عميل'، ستغيّر مجرى حياته، حيث ستتخلّى عنه ثريّا، وسيعلّق الاتّحاد عضويّته، وسيلزم هو بيته. سيتجاوز فايز محنته بعدها بدعم المقرّبين منه، كوالدته وأخيه وعمّه محمود وصديقيه فخري ومؤيّد، ليحضر بعدها مباراة فريقه ضدّ فريق النّهضة، حيث سيشير على المدرّب ببعض التّعديلات الّتي ستغيّر مسار المباراة، وسيرى فايز وسط المشجّعين خطيبته ثريّا. وقف فايز غندور  - كما جاء في الرّواية – 'على خطوط التّماس، في عزّ اللّعبة، في الحدّ الفاصل بين فوزٍ محتملٍ وخسارةٍ ممكنة!'. (بردقانة: ص 182).

تلتقي كلّ الخطوط كما نرى في شخصيّة فايز غندور، بطل الرّواية، لكنّه ليس كأبطال الأساطير اليونانيّة ذوي الصّفات الإلهيّة، ولا هو قادرٌ على اجتراح المعجزات وتغيير مسار الأشياء بقواه الشّخصيّة. هو ليس وليد مسعود ليرتقي إلى مصافي الإعجاز، ولا هو سعيد ليعود إلى حيفا كما عند غسّان كنفاني. يظهر فايز غندور بطلًا لا بطوليًّا.

بطولات المعاني والتّفاصيل

تظهر البطولة عند إياد برغوثي في رغبة الحياة وإرادة الإنسان، وتتجلّى أيضًا في النّسيج الجمعيّ للمكوّن الفلسطينيّ، كما تظهر في الأشياء؛ فرغم الثّورة الفلسطينيّة الّتي فشلت ومعها 'كلّ شي خرب' (بردقانة: ص52)، إلّا أنّ الحياة ظلّت تدبّ، وظلّت بطولة التّفاصيل شاخصة؛ فونغراف مقهى حابو، أغاني فتحيّة أحمد، جريدة الدّفاع، شارع الرّشاديّة، مقهى غرناطة، سينما الأهلي، بطولة الملاكم أديب الدّسوقيّ. كلّ شيءٍ ظلّ يرسم ملاحم البطولة، وقد تكون الفقراويّة (وهي الأحذية القديمة المهترئة التي لعب بها الفلّاحون الفلسطينيّون في الأرياف) هي البطل الأكثر وضوحًا؛ فكما قال الشّابّ ابن قرية سولم: 'بالفقراويّة ممكن تغلب الجيش الإنجليزي نفسه، مش بسّ الفريق.' (بردقانة: ص 62).

يظهر فايز بداية الرّواية بطلًا يفتّش عن بطولته وينتظر اعتراف الآخرين، كما يظهر من مشهد جلسته في المقهى بعد انتصاره على فريق رجب أبو دقنين؛ 'جلس مبتسمًا ابتسامة امدحوني أنا جاهز.' (بردقانة: ص24). لكنّ فايز نفسه بعد اختياره مدرّبًا للمنتخب الفلسطينيّ ودعوته لحفلة سينما الأهلي، ورغم تهنئة المطرب المصريّ الكحلاويّ له أمام الجمهور، ورغم هديّة الرّاقصة سامية جمال له، وتقاطر أعيان المدينة لتهنئته، إلّا أنّه رفض المضيّ بعدها للسّهرة معهم، رغم أنّه كان من الممكن أن يحظى بأفضل الإطراءات في جلوسه مع نخبة العالم العربيّ، وحين قال له صديقه إنّ سامية جمال معجبةٌ به، ذكّرهم بخطيبته ثريّا.

فايز 'بطل بلاد البرتقال' (بردقانة: ص71)، كان صلبًا في مشروعه؛ لكنّه لم يكن بطلًا في أزمته حين اتُّهم والده بالعمالة، فقد عزل نفسه عن المحيط وما كان ليخرج من هذه الحالة لولا صديقاه وأخوه وأمّه؛ لولا هذا المحيط الذي شدّه من عزلته وأعاده إلى الحياة.

علاف رواية 'بردقانة' لإياد برغوثي

نقص البطولات وتكاملها

كلّ أبطال الرّواية غير مكتملين، في كلّ واحدٍ منهم نقصٌ ما، وكلّ واحدٍ منهم يحتاج للآخر لتكتمل بطولته، لتصير البطولة في إجادة العمل التّكامليّ بين المركّبات والمتناقضات، تمامًا كالفريق، يحتاج إلى كابتن، لكنّ الكابتن نفسه ليس بطلًا دون فريقه. هكذا صار فايز بطلًا حين انتصر لحلمه، وثريّا لخطيبها، والصّحافيّ في سعيه للحقيقة، وأصدقاؤه في دعمه، ووالدته في نصرته؛ كلّ واحدٍ بطلٌ في ذاته وداخله، وبطلٌ حين ينتصر للبطل الّذي في الآخرين.

اختار برغوثي أن تكون نهاية روايته مفتوحةً، وسط مباراة كرة قدمٍ، دون أن نعرف هل سينتصر فريق فايز أم الفريق المقابل؟ هل سيعود للمنتخب أم لا؟ هل سيتزوّج ثريّا (الّتي حضرت هذه المرّة اللّعبة) أم لا؟ هي النّهاية المنطقيّة الوحيدة؛ فقد انتصر الفريق حين عاد فايز إلى الملعب، وانتصر فايز حين أتت ثريّا لتشاهد المباراة، وانتصر المشجّعون حين لم يصدّقوا إشاعة العمالة بحقّ والد فايز.

'الفريق خسر، بسّ إنت ربحت!'

قد تكون المقولة الأكثر أهمّيةً في رواية برغوثي ما جاء على لسان الهبّاب حين قال لفايز: 'الفريق خسر، بس إنت ربحت!' (بردقانة: ص54). استطاع الهبّاب رؤية إبداع فايز رغم خسارة فريقه، رآه بطلًا وسط الهزيمة، وعليه اختاره ليشكّل المنتخب الوطنيّ الّذي سيمثّل فلسطين.

ربّما هذا ما أراد اياد برغوثي قوله بالضّبط؛ وسط كلّ هذه الهزائم ثمّة أبطالٌ يكملون انتصاراتٍ غير مكتملةٍ تنتظر اكتمال شروط البطولة، كلّ واحدٍ بطلٌ معلّق الانتصارات، علينا أن نؤمن بالبطل الّذي فينا.

وكما تجاوزت عكّا آثار فشل الثّورة الفلسطينيّة عام 1936، نستطيع تجاوز آثار النّكبة عام 1948، وهذه الرّواية واحدةٌ من انتصارات الخطاب الفلسطينيّ في أراضي 48، حين يقشّر النّكبة ويعيد الخطاب إلى طهره الأوّل.

 

[2] . برغوثي، إياد. بردقانة. بيروت: دار الآداب، 2014.

*صورة الخبر الرّئيسيّة: إياد برغوثي برفقة جلال جرّار، لاعب كرة قدم في النّادي القوميّ الرّياضيّ بمدينة عكّا.