بلى... أستطيع الحضور

يؤدّون الباركور لدى جداريّة لبانكسي في غزّة | عدسة محمّد عبد

ذرعتُ وإيّاه شوارع رام الله المحتلّة شارعًا شارعًا، من ميدان أسود عائلاتها الخمس إلى ميدان شهيد حصار الاحتلال والحصار العربيّ، إلى ميدان شارع ركب، واسمه الحركيّ شارع بنت جبيل؛ وما لبنت جبيل من إيغالٍ في الذّاكرة والشّهادة الفلسطينيّة، ولبطولة تماهى بها دمّانا الفلسطينيّ واللّبنانيّ ذات ملحمة.

ذرعناها شوارع رام الله أنا وعلي مواسي، باحثَيْن عن فدائيّ؛ نعم فدائيّ، نستطيع من خلاله تحويل بضعة شواقل لا تتعدّى قيمتها الأربع مائة دولار إلى شقّ رئة مربوط بأجهزة حياة وتنفّس صناعيّ، فقد كان لكتّاب غزّيّين شباب استحقاق مقالات نُشِرَت في 'فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة.'

كنّا كلّما دلفنا محلّ صرافة نسأل صاحبه إن كان بالإمكان تحويل مبلغ من خلاله، فيبشُّ الصّراف في وجهينا ويبتسم ويعطينا بيده وصوته إشارة للدّخول، يبادره عليّ أو أبادره أنا، سيّان: إلى غزّة. تمّحي الابتسامة عن محيّا الصّرّاف ويعتذر خجِلًا، أو ربّما وَجِلًا! آسف... إلى غزّة! ويهزّ رأسه يمنة ويسرى: لا يمكن.

قلنا فلننشد صرّافًا آخر... وآخر... أو بنك... وطفقنا نبحث عن فدائيّ يتحدّى أجندة المحتلّ وزبانيته وإمعانه في حصار أهلنا في غزّة الّتي ما زالت محتلّة، لكنّها لقمة العيش الفلسطينيّة المغمسة بالدّم والتّهديد.

علمتُ لاحقًا أنّ عليًّا تمكّن من مجابهة التّحدّي بإيجاد وسيلة لإيصال الحقّ لصاحبه.

يا لتواضع أحلامنا وأمانينا... نقلّب مؤشّر المذياع ومحرّك البحث وجهاز التّحكّم عن بعد، باحثين عن بارقة.. نستقبل يومنا ويدنا باتّجاه القلب، وندعو ألّا يلوّن يومَنا دمٌ. لماذا وحدهم البسطاء الواقفون على حدود البين بين، لا هم بأحياء ولا بميّتين، لا هم مواطنون ولا هم بمنبوذين، تلفظهم المعابر والحدود وتتلقّفهم الحواجز؟ تغتال أمانيهم ربّما بعلاج أو بحث عن أمل؟

أردّد مع درويش: لا يصل الحبيب إلى الحبيب إلّا شهيدًا أو شريدًا. واحد من أحبّة فلسطين الغزيّين أخذت به الأنواء مآخذها حينما التحق للدّراسة بجامعة الإسكندريّة، بعد أن حاز وثيقة سفر مصريّة، فكانت له بوّابة عبور، ربّما شكّلت له بعض نعمة، لكنّها ظلّت نقمة عليه تلاحقه... غزّة الّتي غادرها الشّابّ كامل مسلّم قاصدًا أرض الكنانة قبيل عقود لينهي لقبه الجامعيّ الأوّل، ويحوز على منحة لنيل درجة الدكتوراه في الجيولوجيا. وإذ تنتهي صلاحيّة وثيقته المصريّة، يتوجّه إلى سفارة مصر في مدينة بون الألمانيّة آنذاك، فتماطل في تجديد الوثيقة، وفي النّهاية تحرمه منها ومن حقّ عودته إلى غزّة... إلى فلسطين.

استقرّ كامل في ألمانيا لتمنحه بعد سنوات جنسيّتها، وقد ضنّت عليه بها أنظمة حكم بني جلدته، ليعود إلى بلده، فلسطين، ألمانيًّا.

تحضرني حكاية الدّكتور كامل مسلّم وحكايات كثر تترى عن الفلسطينيّ المقتصّ من دمه ثارات لآثام لم يقترفها... حكايات تترى أقتنص منها حكاية غِياث الّذي استحقّ حقّ عودته بجدارة... جدارة العودة وجدارة الحياة.

غياث المدهون؛ هذا الشّاعر الواخز الّذي ما فتئ ذات مساء في متحف سادن الشّعر، محمود درويش، أن يُسلّط على عقولنا المروّضة وتواضع أحلامنا، وخزاته، لتعمل في النّفس عمل الرّحى في الحَبّ؛ تطحننا وتوقظنا من سباتٍ آثرناه هروبًا من واقع الصّحو.

هذا الغياث الفلسطينيّ الهوى والهويّة، مجدليّ الجذر دمشقيّ المولد و... سويديّ الجنسيّة! هذا الغياث الّذي ما انفكّ يبحث عن وثيقة ينتسب إليها فعزّت عليه الجنسيّات (السّايكوسبيكيّة)، ولم تمنحه جهة عربيّة أيّ وثيقة. انتسب بكلّيّته لفلسطينه، ووسم سمات أهله اللّجوء من فلسطين عام 1967 ذات نكسة، لـتأخذ بهم المنافي ويطلق صرخته مبشّرًا بالحياة عام 1979، في يرموك دمشق.

عاد غياث إلى حيفا المحتلّة بعد أن عزّت عليه وثائق عبور عربيّة، عاد ممتشقًا شعره وصوته وملامحه ووثيقةً سويديّةً حازها بعد أربعة أعوام من لجوء ثانٍ، وربّما ثالث ورابع، تتقاذفنا المنافي ولا نعلم أين نحطّ سوى أنّنا نبتدع السّبل للعودة إلى فلسطيننا. عائد إلى فلسطين بجنسيّة سويديّة. عاد غياث المدهون واشمًا سماءها بجليِّ صوته وعميق شعره، جاحدًا بكلّ نواميس حقوق الإنسان الّتي تجاوزت عن حقّه في العودة إلى مجدلِهِ.

يقول غياث في ديوانه: 'لا أستطيع الحضور'، ص 48، وكم يُحدث  هذا الرّقم في القلب غصّة، يقول: 'نحن الّذين تُغلق مطارات بلادنا أبوابها في وجهنا للحفاظ على حقّ العودة، والّذين تُفتح مطارات بلادنا أبوابها على اتّساعها لنا ويستقبلنا موظّفو أمنها بالابتسام حين نعود إليها بأسمائنا نفسها ورؤوسنا نفسها وملامحنا نفسها وأصابعنا نفسها وحقائبنا نفسها وملابسنا الدّاخليّة   نفسها ولكن... بجنسيّاتٍ أخرى."