من المسافة صفر: رسائل غزّيّة وثّقت العدوان

جدار إحدى مدارس الأنوروا في غزّة | عدسة أحمد سالم

حينما يكون أمل شابّتين غزيّتين طباعة رسائلهما المكتوبة أثناء ليالي الحرب، يغدو المطبوع بحدّ ذاته ثروة لا تضاهى ولا تقدّر بثمن، لا سيّما في ظلّ شُحّ المطبوعات الغزّيّة، الأدبيّة منها بخاصّة.

خلافًا لقسوة وخشونة ما يوحي به العنوان، تبدو نصوص رسائل المدوّنتين الغزيّتين، رنا العلي وآلاء القطرواي، ليّنة ودافئة، بل تدفق بالحميميّة، وعارفة لما تريد قوله في 'من المسافة صفر'، باكورة أعمالهما الصّادرة عام 2015 عن دار القمري للتّوزيع والنّشر في مصر.

النّصوص هي 'الدّرويش الّذي يجوب الشّوارع أثناء الحرب، والكلّ يخاف عليه، وهو لا يلقي بالًا.' هكذا تصف رنا وآلاء نصوص رسائلهما. النّصوص مؤرّخة باليوم والتّوقيت الدّقيق. كتبت كلتاهما يوميّاتهما دون تفكير بالطّباعة؛ فإن غيّبهما الموت، قد يلتقط عابر سبيل وريقاتهما من بين الرّكام، كما أملتا، فيعرف ماذا كان يدور في خلد كلّ واحدة منهما طوال أيّام الحرب الأخيرة على قطاع غزّة.

لماذا نضحك بعد القصف مباشرة؟

تدّون المعروفتان بنشاطهما في المنتديات السّاخرة يوميّاتهما وأحلامهما في 132 صفحة من القطع المتوّسط؛ لا تُعنيان بالبلاغة والبناء كثيرًا، بل تذهبان إلى شعرنة الحدث العاديّ، بلغة تبدو بسيطة، لكنّها ليست كذلك. هو 'انتصار للّغة البسيطة على تعقيدات الرّمز، في عصر غدا الأدب فيه أقرب للأحاجي منه للخاطرة الأدبيّة الّتي تُرْتَشَفُ بيُسر كفنجان قهوة'، كما جاء في تقديم الكاتب أدهم الشّرقاوي للنّصوص.

ثمّة اشتغال كثيف على تجاوز حتميّة الموت في عناوين عديدة؛ 'حوار نجا من الموت'، 'رسالة من الجنّة'، وغيرها. في عناوين أخرى، غلبت السّخرية شديدة الإيلام، مثل؛ 'لماذا نضحك بعد القصف مباشرة؟'، 'موت حتّى مطلع الفجر'، 'لماذا تقصف إسرائيل الفلسطينيّ بصاروخ يزن طنًّا من المتفجّرات؟'، 'لماذا تقصف إسرائيل العائلة بأكملها؟'، وغيرها.

أنسنة

في خاتمة الكتاب، تستوقف القارئ مفارقة عاطفيّة بعنوان: 'بتعرفي قدّيش بتحبّني؟'، ليكون المحتوى تقدير الحبّ بحجم كره المحتلّ: 'بتعرفي قديش بحبّك؟ قدّ ما قصفت إسرائيل بالمدفعيّة؟ كلّ 8 توان قلبي بنبض، وقذيفة بتنفجر. بحبّك قدّ ما ضحكنا تحت الأرض، قدّ مافي هاشتاقات لغزّة، قدّ اللّايكات والّتعليقات، قدّ مافي شعر انكتب، قدّ ماحكوا المخطوبين كلمة بحبّك عالجوّال في الحرب، ولك سامعتيني بحبّك، عرفتي قدّيش بحبّك، بسّ إنت حبّيني قدّ ما بتكرهي المحتلّ والحرب.'

النّفس الثّوريّ الرّافض للتّعدّي على حياته، والمتقبّل لكلّ الأحداث بروح غير عاديّة العفويّة، يفرض نفسه على اللّغة واللّفظ والمشهد ومساحة الخيال، لكنّ المدوّنتين أصرّتا على أنسنة الأشياء كلّها، وكسر حاجز الخوف وتعدّيه إلى الحياة بقوّة وجرأة واضحتين.

أحقًّا ستنتهي الحرب؟

علاقة المدوّنتين ببعضهما قديمة، قبل أن يتبادر لذهن مارك أن يخترع وسيلته الأكثر انفصاليّة عن المجتمع، الفيسبوك، كما تصف رنا. جمعهما المكان الّذي وُلِدَتْ فيه موهبتهما الأدبيّة، حيث مسقط قلميها، 'منتديات السّاخر'. كانت تكتب رنا باسم مستعار، 'مجاهدة الشّام'، وكانت آلاء تكتب قصائدها تحت اسم 'حلم نقيّ'، وهكذا أصبحتا صديقتين.

'رنا، باختصار، هي بنت المخيّم، حيث وُلِدْتُ، أعيش في مسافته الصّغيرة، الكبيرة بالألم والمعاناة والمأساة، والمكتظّة بكلّ أنواع البشر الّذين تاهت أحلامهم ونسوا أن يعلنوا عنها في الصّحف. حرّة، هكذا وُلِدْتُ، وأحاول إقناع النّاس أنّهم وُلِدوا كذلك.' هكذا تُعرّف رنا العلي نفسها.

تقول رنا: 'كنّا نعلم يقينًا أنّ الكتاب سيصدر، وبهذا تعاهدنا وتهامسنا خلال الحرب، وفي كلّ مرة كنت أكلّم آلاء كانت تردّد على مسامعي سؤالها المليء بالكثير من المشاعر المختطلة: أحقًّا ستنتهي الحرب، ونجمع ما كتبناه بين دفتيّ كتاب؟ وكنت أجيبها أنّني واثقة من ذلك، وأرى الكتاب بين يديك. وحين انتهت الحرب، تواصلت مع الرّفيق أدهم الشّرقاوي - مقدّم الكتاب - وهو ابن فلسطين المقيم في لبنان، ورفيق الكتابة في منتديات السّاخر قبل تركه لها وبعدها، فساعد على إصدار هذا المطبوع. هي رسائل يوميّة، لم تُنشر كلّها، بل اختير بعضها، على أمل أن تُنْشَر  باقي المجموعة في مطبوع آخر.'