بحر يتأمّل قاربًا في موجة، بنعاس

لوحة للفنّان فوكا

سراب اللّيلة ضحل، منسوبه بالكاد يلامس الخصر. سراب بملامح متواضعة: أغراض مطبخ ومصفاة معدنيّة لجرن الحنفيّة. لا مشهد مركّبًا في الذّاكرة. صفاء. لا يشوبه عمق ولا سرياليّة. تحلّ خيبة خفيفة عليّ: أهذه كلّ ثروة لا وعيك؟ أين الرّؤى الشّائكة الغامضة؟ أين كبريات المعاني المستخرجة من مناجم بسيط الصّوَر؟

حسنٌ أنّ السّراب اللّيلة قليل الماء. فما معنى أن تسلّم نفسك لوداعة النّوم ثمّ تجد نفسك بعد خمسة أنفاس عظيمَ خيال الفكر وراسيات المعاني، ولكن غارقًا في عمق بينما تنهشك أنياب الكوابيس؟

وفيما أنا مشغول به، راح السّراب يذوب كقوس قزح غطّت شمسَه المبلّلة غيمةٌ، فانطفأ جسرُ اللّون في قبّة الهواء كزبد قليل العمر غاب في بحر من خواء.

ومن الخواء خرج 'سوبرمان' بديل. سرابُ مَنْ يتقن زرع الرّعب في قلوب من جليد وعقول من حديد، لها نهم ضباع وأملاك بمليارات، ليقول لهم: تمهّلوا فقط، كفى، حتّى هنا، انظروا فيما تفعلون بمليار جائع وضائع، ببشر مثل أمّهاتكم. كفّوا الآن، تمهّلوا، توقّفوا وإلّا، فسأنسف أكبادكم.

الهامش غير السّويّ في الدّماغ ينطق: ولتُطْلَقَ أولى الرّصاصات في جبين غودو، فلن ننتظر أحدًا. ولتعد هذي الحياة سُحْقًا للّيلة ما قبل رفرفة روح الفشل على وجه الغمر، حتّى لو كان الثّمن إجهاض قصص السّماء التّالية. فلا يُعقل ومستحيل ومحظور ديمومة سفينة نوح تائهة في وجهة الظّلم. فليفنَ وإلى الجحيم ولو بحدّ البندقيّة أو الكلمة إن لم يتساوَ الجميع، في الكمّ والكيف.

لقد وصلت قذارة الـ(ب)ـشر أواخر حدود الاحتمال ونهايات انتظارات الخلاص. الإرهاب والحرب على قاذورات المال القاتل هي الحلّ.

***

يدمع في الحرب القلب قبل العين على درج حجريّ عتيق بقي كوشم على ضلع التّاريخ. عتيق يعلوه الآن جنديّ من جزمته كي يفتح طريقًا لسلطان لا تشوّش خططه رهبة حجارة غائرة في جبل منذ ألف. هذا العتيق التّاريخ الّذي حفره كادحون طيّبون مغلوبون على أمرهم، صار ندبة في خاصرة التّاريخ تحت حراب جند آخرين، لسلطان آخر.

البشر أبقى من الحجر، نقول عجزًا، لكنّه في الحقيقة أنظف منهم منّا: الجند والحراب والسّلاطين، مع أنّهم لم يكفّوا أمس ولا اليوم عن تلطيخه بجزماتهم.

أيّتها النّحلة الكادحة الّتي تطنّ على بتلات وردة حمراء منزرعة في ضفاف درج الحجر، وحدك من تعيد الأمور إلى نصابها.

***

جُمَل الأيديولوجيا الصّارمة تُغتصب أحيانًا، مفسحة مكانًا رحبًا لمكانة السّلطان، لأنّ هذا يلبي للحشد الطّيّب رغباته من سيناريو التّطوّر المأمول، كما وصفه له رواة الطّوابق العليا، تلك الّتي أ

ضيفت فوق ما كان مرّة مجرّد بيت أرضيّ دافئ محاط بحبق وبصل، وقبل أن يصبح للأيديولوجيا سلطان ورواة، وقبل أن يصبح الأهل حشدًا، مجرّد حشد، وقبل أن تتقلّص صورة الحياة إلى بورتريه السّلطان حدّ بزوغ ذهب الشّمس خلف شعره الملتمع كزيت الصّخر الأسود، وقبل أن تروح فكرة شقيّة تزاحم وتتسلّل وتجرح طرف الصّورة، فيتّسع المشهد على حقيقة أنّ البورتريه مدقوق بمسامير صدئة على أجساد ميتة اسودّ دمها، كان لا بدّ من تشذيب أرواحها لتظلّ السّرديّة واقفة على رجليها، تحمي السّرايا العليا الحاملة السّلطان وروايته ورواته، إلى أن يتمتم أحد الرّواة برعب: الآن فقط أدرك إلى أيّ عمق أغوص في دماء هذي الجريمة.

***

'أحيكُ بقلبي أسطورة وأعتلي صهوتها.' يحكي الفتى، 'رمح ذهبيّ في يمناي وباليسرى مغامرة وتِرْسُ يؤجّج نار جذعي فأثمل برائحة سفر. أرسم تاريخًا بزمن الخلود، أفتح صدري على آخره، أزرعه بالمجد، أعتلي آخر القمم، ألهب الجمر في عروق الثّلج، أطلقُ شموسًا، أحرّر أقمارًا، وأنير قلبي شمعة لسجون البؤساء. ممتلئًا، منتشيًا، طافحًا بالحلم، أروح أعلو وأبتسم أعلو وأبتسم وأعلو وأعلو وأبتسم...' يقول الفتى، حين تبادره بغتة رصاصة الشّرطيّ.

***

مرارًا نظرتَ في الجند قليلي الإرادة، علّك تستعيد رأفة بإنسان محتمل مأمول لا زال فيهم. تقول: لا أتمنّى لهذا الشّاب سوى الخير. أتخيّله يعيش مع امرأة وطفلين يحبّهم ويحبّونه، يتبادلون الكلام واللّعب، وأحيانًا بعض الغضب العابر بابتسامة واحدة. يعمل الشّابّ بانتظام وتعب وضغوط هائلة، وزوجته تعمل مثله، وفي البيت أكثر. يفرح لانتظار طفليه الرّحلة وزيارة الجدّين وشاطئ البحر وجلسة المطعم الصّاخبة في بعض نهايات الأسابيع.

يميل القلب إليهم حين تعصف بهم وعكة أو دَيْن لا يقدرون على سداده، وينفرج الصّدر حين تُفْرَجُ عليهم، لكن حين يرتدي الزّوج الوالد بزّته العسكريّة ويكسر في ساعات الدّوام الرّسميّة ذراع فتاة تحمل بيدها لافتة عليها كلمة صغيرة: عدالة، وبحنجرتها تصدح تصرخ تصدُق بكلمة أصغر: حرّيّة. عندها يتقلّص العالم بحجم غصّة غضب لا يبقى فيه متّسع لخير تتمنّاه لهذا الشّابّ الّذي يعيش مع امرأة وطفلين يحبّهم ويحبّونه، يتبادلون الكلام واللّعب، ويكسر الأيدي في ساعات الدّوام الرّسميّة.

***

في دقائق البرد أفطن بالله.

ليس لأنّه مدفأة ولا لثقة قديمة عندي بأنّه سيشعل لي شجرة موسى. في دقائق البرد أفطن بالله لأنّني أفطن بجدّتي الّتي كانت تحبّه، هو الله، ربّما أكثر ممّا أحبّت جدّي.

في دقائق البرد تكفيني استعادة رائحة جدّتي؛ 'ميرميّة ودخان حطب جليليّ وملبّس على روح النّعنع من زنّارها في مَلَس الثّوب النّابلسيّ ،وعكّازة من خشب مَلّ الجليل'، حتّى ينتشي قلبي وجسدي دفئًا.

لا أحتاج الله لأتدفّأ في دقائق البرد، لأنّ شفيعتي هي جدّتي الّتي كانت تحبّه، هو الله أكثر ممّا أحبّت جدّي. ولو كان الله كريمًا فعلًا فلن يجد مبرّرًا ليبخل ببعض دفء على حفيد - ولو كان ملحدًا - لجدّة يجب أن يسعد الله ويمتنّ على ما كَرُمت عليه من حبّ وخشوع وركعات وصلوات وسكينة، رغم أنّه تركها تموت كادحة فقيرة، ولم يكلّف نفسه أن يغدق عليها من نعمه السّماويّة والأرضيّة الشّهيرة الّتي لا تُحصى، ولو حفنة بحجم كفّها الهشّة الّتي طالما جدّت وخشنت وهي تلملم من أرضها حبّات زيتوناتها القليلة، متمتمة باسمه – هو الله - الحبّة بعد الحبّة.

لزيتون جدّتي تداعيات. تناصّ مع وطن.

الآن تحضرني يافا الّتي اغتالت مشاريع الصّهينة روحَ عمارتها العريقة؛ تاريخ ملفوف بالبارود وبالبُرود المؤقّت، ولزوجة السّياحة الّتي لا تحترم أهل البيوت وحرمتها، وإن غابوا عنها قسرًا.

تسكن في القلب غصّة مرّة.

وفجأة يأتيك صوت الأذان، فيُستعاد المعنى للحظة باتّساع الله أكبر، ويُستعاد الأذان إلى وطن حقيقته، صوت صادح برهبة التّاريخ وقرون عابقة بالحضارة، وليس زعيقًا يطلقه جهلة لا يفقهون وهم يزرعون فتن الخراب.

في يافا القديمة ينعش الأذان روحًا في المكان، روحًا في الزّمان، وروحًا في الصّدور.

لزيتون جدّتي تداعيات. تناصّ مع وطن.

الآن تحضرني وردة صفراء صغيرة واحدة على هذا الامتداد الأخضر، تفضح كلّ الجفاف في هذي القرية الّتي كانت. فراشة بيضاء فوق كل هذا التّهجير، تفضح ضجيج الموت المؤجّل. جوقة عصافير في شجرة كثيفة على الطّريق، تفضح صمت القبور. غدير يرسم أوائل العشب بالأخضر، يفضح بطون جبال حبلى بالذّاكرة. بقايا ذخيرة صدئة، تفضح عنفًا راكدًا تحت كلّ حجر؛ وتكشف 'الأيادي القذرة'. حسّ طفوليّ قديم يشتعل ويفضح هشاشة مشاعرنا. يبدو أنّ كلّ من يشعر بالموت يكتب. يبدأ بتشييد خندق أبجديّ لمواجهة ما لا يُصاغ بالكلام؛ الموت. ربّما هو التّفاؤل السّاذج ما يجعل المرء يستلّ الحروف للمقاومة، وكأنّه في قرارة نفسه يقول: فلأضربْ بها بطن الموت الرّخوة، تلك الخاوية من الأبجديّات.

لكن تظلّ تعشّش في القلب غيمةٌ من النّوع الرّديء. لا تحمل مطرًا، لا تردّ على مداعبات الرّيح، لا ترسم عصفورًا ولا أرنب للأطفال. تظلّ في القلب قصّة من النّوع الرّديء، لا تحمل حزنًا ولا فرحًا، تأخذك لأيّ سفح، ولا تحبس فيك ولو شهيقًا، لا تستدرج بسمة ولا دمعة ولا لهفة ولا خلجة ولا ولا حتّى صمتًا. غيمة وقصّة من النّوع الرّديء. يظلّ في القلب حزن من النّوع الرّفيع، لا يحملك على تحسّس الوقت، لا يدفعك للبكاء، لا يعلّمك الانتظار، لا يستنطقك شعرًا، ولا يحيلك نظرة مبدّدة. حزن من النّوع الرّفيع، معلّب في قلب من النّوع الرّديء.

***

ركضٌ بجانب البحر. هرولة على امتداد المسار المرصوف. تتنفّس تلهث بعمق تترك يديك تترنّحان كما لو أنّهما ليستا لك. عند لحظة مفاجئة، تستقلّ أيضًا ساقيك بحرّيّة مطلقة. تواصلان الرّكض وحدهما. هنا لا يعود الأمر ركضًا، بل كمن ينساب في حركة يصبح فيها قاربًا في موجة يحلم بالارتقاء قليلًا كريشة في هواء.

***

مؤخّرًا، لم يعرف كيف فقد القدرة على التّجريد. لا يمكن القول إنّ ذلك حدث فجأة، لأنّه لم ينشغل بتجريد شيء منذ وقت غير معروف. أو أنّه لا يذكر مدّته على الأقلّ. بالتّالي، ربّما أنّ القدرة انحسرت رويدًا رويدًا، كما يحدث للبحر في الجَزْر خلال نصف يوم، أو كما يحدث للقمر في عودته إلى عهده المحاق وهو ما يستغرق شهرًا – هذا لو كانت قدرته على التّجريد كاملة كالبدر التّمام.

كتابة القصيدة تحتاج منك روحَ شاعر، لا أكثر. القصيدة تطالبك بشيء من روح متحرّرة ممّا نفخه الله في الطّين، وإلّا فلن تكون سوى مزمور أو وصيّة أو فرض أو إكراه. بيتُ الشّعر سينهار لو ملأته بالطّين (أو الإسمنت)، سيسقط سقفه على تحته وسيقتل روح الشّاعر الّذي يسكن في القصيدة؛ سيقتل ما قلنا إنّه أوّل ما تحتاجه القصيدة.

تبًّا لهذا الكفر، سخطًا لهذا الإلحاد، هل تحاول القول يا هذا إنّ القصيدة لا تكون إلّا بنفي الطّين وإقصاء النّافخ فيه روحًا؟ هل تزعم أنّ الشّعر خلقٌ خارج عن طوع الخالق الرّسميّ المعتمد المسجّل في أسفار الزّمن الغارب السّحيق؟

صنعة الشّعر خطيرة كما يتّضح، ربّما لهذا لا تميل الرّوح المنفوخة في الطّين، عمومًا، إلى الشّعر بقدر انجذابها للمزامير. ها هي المسألة اتّضحت إذًا، لو أردتَ طمأنينة الإيمان. مع هذا، فلماذا اختار النّافخ العظيم في الطّين صياغة مزاميره بكلّ هذه الشّعريّة الدّقيقة الرّقيقة الّتي تؤلّف قصّة الخلق من كلمات وصور وموسيقى تهدهد المؤمنين كأطفال حانت ساعة إيداعهم خزائن طمأنينة الغفوة وسلطان النّوم؟ لا شاعر كما يبدو سوى الشّاعر الأكبر، ذلك النّافخ في الطّين حياة؛ ذلك الخالق أرواحًا تتمرّد من حين لآخر، زاعمةً قدرةً على خلق أرواح لا طين يأسرها ولا دين يزجرها. فأيّ روح هذي الّتي تطالبك القصيدة بها؟ دَعْكَ، دَعْكَ من شغل القصائد هذا وفعل الكفر... وأعلن أنّ هذا الكلام ما هو إلّا مناجاة، وكلّ ما ورد أعلاه قد يكون أيّ شيء، ما عدا قصيدة!

ما الشّعر؟ غير واضح لي، لكن من الشّعر ما يحيّرك أصل حلاوته. كطفل رأى شمسًا تسقط بصمت في بحر قبل أن يقوى لسانه على السّؤال مبهورًا حالمًا خفيف الوجود: وأين هسهسة احتراق الماء وغمائم البخار؟

لا زال يركض. نظر في تأمّلاته فوجدها تجرّ ذكريات ثقيلة راحت تلتفّ على هدوئه. اتّخذ القرار سريعًا، استلّ الذّكريات، عرّج راكضًا نحو البحر ورماها في موجِهِ. حين عاد إلى مسار ركضه، شعر كيف عاد لينساب في حركة كقارب في موجة. وابتسم حين تخيّل جسده يتحرّك كريشة في هواء.