"مشاةً نلتقي مشاةً نفترق": غير البكاء وغير طريقةٍ في الحبّ

الراقصات والدكتاتور | وسام الجزائريّ

كِدْتُ أقول 'أخيرًا'، لكن أخيرًا هذه يستخدمها البعض لما تنشرح له نفوسهم، مَنْ يستطيع أن ينشرح لكتابةٍ عن مخلّفات الحرب؟ حتّى لو كان معجبًا بالوصف الدقيق لكلّ ما هو مؤهّلٌ للخسارة؟ لكن وصف رائد الوحش في 'مشاةً نلتقي مشاةً نفترق'* ذهبت به المأساة إلى غير تعبيرٍ عن البكاء والأمّهات، 'وحين يبكين تسيل الكحلة والطرق.'

أكتب هنا كقارئٍ يحسب خطواته ألف مرّةٍ قبل أن يمسك كتابًا يتكلّم عن الحادث الكبير، ثمّة من يقول إنّ الكتابة تحت تأثير الانفعال قد لا تمنح كاتبها نصًّا قادرًا على التنفّس خارج الواقعة.

سيصاب أحدهم بلعنة التنظير ليقول عن عدم جدوى التعويل على مستقبلٍ ما للكتابة، في جوٍّ من الحرب والاقتتال، وأنّ يومًا واحدًا خارج زمن الحرب لن يكون بمقدوره قراءة تاريخها الشعريّ، كما لن يكون من اليسير أبدًا قراءة هستيريا الحرب بعيونٍ تكتشف البكاء الميكانيكيّ في المطابخ.

إنّ قارئ ما بعد الحروب لن يفهم كيف يمكن أن 'نحسد القتلى على موتهم، ونلوم القتلة على تكاسلهم، في الإجهاز على آخرنا.' في الغالب سوف يحمل القارئ على هذه الروح في النصّ، متصدّيًا للحديث عن الضعف وعن الاستسلام بسهولةٍ هكذا. أضحك من حديثه عن 'السهولة'، كما أضحك من تصوّر أنّ من يكتبون في زمن الحرب يستطيعون الرهان على زمنٍ بعده؛ إنّها حياتهم الآن، ولا مكان لحديث عن مستقبلٍ غير منظورٍ، 'ولو كنتُ إنسانًا لقتلت التمنّي.' نترك هذا المقطع للذين سوف يهاجمون رائد الوحش في زمن ما بعد الحرب، سنقول لهم هاجموه منذ الآن، لكن أوقفوا الحرب أوّلًا.

مرّةً واحدةً ضحك رائد الوحش في 'مشاةً نلتقي مشاةً نفترق' حين حاول أن يجد في الحروب ما يشكرها عليه ولأجله: 'شكرًا أيّها الرصاص، شكرًا أيّتها المدافع، شكرًا أيّتها الحروب، أخيرًا... أخيرًا اختفى البعوض.'

في رواياتٍ تاريخيّةٍ تُعرّفنا بالذين اختاروا قتل أبنائهم بأيديهم، قبل أن يفعلها الغزاة بطرقٍ أكثر وحشيّةً. تخيّلوا أنّ للقتل طرقًا رحيمةً حين يكون البديل أكثر قسوةً، 'من أحبّوكِ تنقصهم شجاعة ديك الجنّ الحمصيّ، كان يجب على أحدهم قتلكِ.' إنّها لعنة الحروب حين لا تبقي للحياة صوتًا، وحين تزدحم عليك الصور الأكثر وحشيّةً عن البشر، وكيف أنّهم قادرون على عكس المفاهيم، 'التقينا، بعد النفَس الأخير مباشرةً، في موتٍ عائليٍّ حميم.'

هذا هو ابنك أيّتها المدينة الضائعة، كانت لديه أحلامٌ سعيدةٌ عنك، حتّى أنّه كان يملك خطّةً لتهريبك حين ينتشر الليل في وضح النهار، وفي أحلامه لم يكن يرفض أحدًا:

'أكتب إليك من تلك الأحلام القديمة، من رغبتي بامتلاك نايٍ يلامس سقف السماء، كي تلتفّ حلقة دبكةٍ عملاقةٌ، تشارك فيها الكائنات كلّها... كلّها، اثنتين اثنتين، ولا حاجة بعدها إلى سفينة نوح.'

لن تفرح المأساة مرّتين، مرّةً بالخراب، ومرّةً أخرى بتفويت فرصتنا بملاقاة شعرٍ مختلفٍ.

...

* صدرت المجموعة الشعريّة 'مشاةً نلتقي مشاةً نفترق'، مؤخّرًا، عن دار المتوسّط، وهي الإصدار الأدبيّ السادس للشاعر والكاتب الفلسطينيّ - السوريّ رائد وحش (1981).

 

مهنّد السبتي

 

 

شاعر فلسطينيّ من مواليد بنغازي، يحمل الجنسيّة الأردنيّة. له في الشعر مجموعتان؛ 'سمّني ما شئت' (2010) عن دار الغاوون اللبنانيّة، و'أيّنا الدخيل أيّها الضوء' (2012) عن الدار الأهليّة في عمّان. يكتب المقالة الأدبيّة.