عصمت منصور: عشرون عامًا في الأسر جعلتني روائيًّا

عصمت منصور

كتب الأسير المحرّر عصمت منصور (1976)، الذي قضى في سجون الاحتلال الصهيونيّ نحو عشرين عامًا، بين عامي 1993 و2013، روايتين؛ 'سجن السجن' (وزارة الثقافة، رام الله، 2011)، و'السلك' (دار الرصيف، رام الله، 2013)، إضافة إلى مجموعة قصصيّة بعنوان 'فضاء مغلق' (دار أوغاريت، رام الله، 2012)، وهو ما دعانا في فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة إلى محاورته، في سبيل التعرّف إلى تجربته الأدبيّة داخل سجون الاحتلال، وكيف انتصر بالكلمة على سجّانه، كاسرًا القيد بالكتابة والإبداع. كما دار الحديث بيننا عن 'أدب السجون' في فلسطين المحتلّة، فكان هذا الحوار في ظلّ إضراب الحرّيّة والكرامة للأسرى الفلسطينيّين، المستمرّ منذ 14 يومًا.

حدّثنا، بداية، عن ظروف وأسباب اعتقالك على يد قوّات الاحتلال الصهيوني

اعتُقلت عام 1993 بسبب مشاركتي في عمليّة فدائيّة قُتل فيها مستوطن قرب رام الله (مستوطنة بيت إيل)، كنت أبلغ من العمر 17 عامًا، ولم أزل طالبًا في المرحلة الثانويّة. كانت العمليّة فرديّة، إذ كانت الانتفاضة الأولى تخبو وبدأت عمليّة السلام، وقد أردت ومَنْ كانوا معي، من خلالها، أن نعيد تصعيد المواجهة مع الاحتلال. كنّا أربعة شبّان، جميعنا صغار في السنّ، تحت العشرين، وقد أثّرت فينا الانتفاضة الأولى وكوّنتنا، وأعادت تشكيل اهتماماتنا وأولويّاتنا؛ كنّا نبحث عن دور أكبر من إلقاء الحجارة، وكتابة الشعارات، وباقي فعاليّات الانتفاضة، وحين أتت الفرصة نفّذنا العمليّة، وقد حُكم على باقي أعضاء الخليّة بالسجن المؤبّد، وأنا حُكمت 22 عامًا، لأنّني قاصر.

 

ما هو أوّل ما تعلّمته من تجربة السجن، ماذا أضافت لك، وما الذي أخذه منك السجن؟

تجربة السجن مؤلمة وقاسية، وفيها الكثير من المعاناة، لكنّها، أيضًا، في حالتنا الفلسطينيّة، تجربة خصبة وغنيّة؛ بقدر ما يأخذ السجن من عمرك وشبابك وأحلامك، وبقدر ما يخلّفه من ألم وشعور بالحرمان، فإنّه يقدّم لك ويعطيك ويعيد تكوينك. لقد أخذ السجن عشرين عامًا من عمري، وهي فترة أطول من العمر الذي عشته حرًّا، لذا أستطيع أن أقول إنّني تربّيت في السجن، ومن بين أسلاكه، ومن خلف جدرانه بدأت تتكوّن نظرتي لذاتي وللعالم.

للسجن أثر كبير في تكويني الشخصيّ والثقافيّ، وفي تشكّل وعيي وإدراك دوري ومساهمتي في الحياة، أنت لا تنظر من داخل السجن إلى العالم عبر ثقب الباب، أو من بين فتحات السلك الشائك. يمكن لهذه الصورة، ربّما، وعلى نحو رمزيّ، أن تعبّر عن حال الأسير، لا سيّما الأسير المثقّف والمبدع؛ أي أنّه ينظر من المكان المظلم إلى الفضاء الأوسع والأكثر إشراقًا، ويرى الغد والحياة الأخرى التي يناضل من أجلها بكلّ يقين، حتّى لو من كوّة صغيرة وغير مرئيّة. أنت ترى في السجن العالم من خلال قضاياه، من خلال ميزان قيميّ مختلف. أنت تدفع هنا كي تحصد هناك، وهناك لك وينتمي لعالمك ولمشروعك، حتّى لو لم تكن موجودًا بالمعنى الفيزيائيّ، ويتحوّل الجسد والعمر والأحلام الشخصيّة إلى ثمن؛ هذه هي المعادلة التي تجعلك تعيش السجن وتواجهه من دون أن تنهار أو أن تفقد القدرة على مواصلة الحلم.

كتبت في معتقلات الاحتلال روايتين؛ 'سجن السجن' (وزارة الثقافة، رام الله)، و'السلك' (دار الرصيف، رام الله)، إضافة إلى مجموعة قصصيّة بعنوان 'فضاء مغلق' (دار أوغاريت، رام الله)، ما الذي قادك إلى أرض الكتابة؟ وما الذي يصنعه القيد بالكتابة؟ وكيف يؤثّر فيها؟

أؤكّد، مرّة أخرى، على أنّ التجربة في حالتنا الخاصّة، أسرًى فلسطينيّين، لها خصوصيّة عالية وفرادة، فهذه التجربة أنتجت مناخًا داخل المعتقلات ينمّي ويعتني بالثقافة، فهي (أي الثقافة) أداة نضال وسلاح في وجه الإلغاء، ومحاولات نسف روايتنا، وتاريخنا، وهويّتنا، وشطبنا شعبًا يعيش على أرضه. التجربة التي يعيشها كلّ مناضل، وإن كان بمستويات مختلفة، ويستخدمها، أحيانًا، على نحو قد يكون جافيًا وسطحيًّا وشعاراتيًّا، هي الأرضيّة والحافز الذي يدفع الأسرى للكتابة والتعبير، وتطوير مناعتنا على الصمود والاستمرار، وحماية وجود شعبنا وروايتنا التاريخيّة التي تحفظ حقوقنا من جهة، وتمنح نضالنا شرعيّة من جهة ثانية. في هذا المناخ عشت سنواتي العشرين داخل الأسر، وهناك بدأت قراءاتي الأولى التي قادتني إلى الكتابة.

الشاعر تحرير البرغوثي (ما زال معتقلًا) والروائيّ عصمت منصور في الأسر

الكتابة وعمليّة الإبداع في الأسر تتأثّر بالظروف التي يحياها الأسير، سواء الموضوعات أو الأسلوب والتقنيات؛ فأنت، عندما تشعر أنّك جاهز للكتابة ويولد لديك هذا الهاجس، ستكتب تحت ضغط اللحظة والتجربة المعيشة. إنّ مجرّد وجودك في السجن يملي عليك مسؤوليّات من الصعب التحرّر منها،  فتشعر أنّك ناطق باسم جماعة أو معبّر عنها، أو شخص يمتلك أداة تعوّل عليها الجماعة التي تعاني من البعد والعزلة والانقطاع عن العالم، في إيصال صوتها. أعتقد أنّ هذا الضغط غير المرئيّ هو أحد أهمّ العوامل في التحفيز على الكتابة داخل الأسر، من جهة، وطبع الإبداعات الاعتقاليّة بطابع الكتابة المباشرة والمحلّيّة، وعدم الالتفات على نحو كاف للأسلوب والشرط الجماليّ من جهة أخرى، وهو ما أضعف أدب السجون وأثّر فيه سلبًا لفترة من الزمن.

بدأت رحلة الكتابة في فترة متحرّرة، نوعًا ما، من هذا الظلّ الثقيل للجماعة وهمومها المباشرة، بفعل ما أحدثته اتّفاقيّة 'أوسلو' ووجود السلطة من آثار على بنية الحركة الأسيرة، والمجتمع، وثقافته، وتراتبيّته، ورموزه الملهمة... إلخ. عندما كتبت روايتي الأولى 'سجن السجن'، ونُشرت عن طريق وزارة الثقافة برام الله، عُدّت أحد أبرز معالم الرواية الحديثة في أدب السجون، للغتها وأسلوبها وموضوعها وشرطها الجماليّ. إنّها رواية تتحدّث عن الأسير الفرد ولا تتغنّى بالجماعة على نحو احتفاليّ وخطابيّ، رواية بطلها يواجه صراعًا، ليس فقط مع السجّان، بل مع الجدران والوحدة والذكريات، ويعيد من خلال هذا الصراع طرح الأسئلة من جديد، من دون أن يلتفت للخطوط الحمراء أو ما كان ينظر إليه بصفته مقدّسات. البطولة في هذه الرواية يُعاد تعريفها ضمن الشرط الإنسانيّ، فيضعف البطل، ويبكي، ويشتاق، ويشتهي حبيبته، لكنّه، أيضًا، ينتصر على ذاته، لكن ليس من دون جهد وعناء. قلت في هذه الرواية ما معناه أنّنا بشر أوّلًا ودائمًا، وفقط لأنّنا بشر ننتصر، وإنّ الانتصار يكمن في أن نجدّد رغبتنا في الاستمرار، على الرغم من رتابة السجن وروتينه، وأن نؤثّث حياتنا من جديد بأشياء بسيطة وعاديّة، لكنّها ذات أثر كبير في أن لا نفقد الأمل، أو أن ننهار وننكسر.

اسم الرواية 'سجن السجن'، مختلف وله دلالة تشير إلى أنّ السجن يمكن أن يحوي سجنًا آخر داخله، هو سجننا لأنفسنا في قوالب ونمط تفكير وحياة يعيق ويقيّد أكثر من السجن الحقيقيّ.

قبل الإفراج عنك، عام 2013، انتهيت من كتابة روايتك 'السلك' في سجن 'عوفر' المركزيّ، والتي تتحدّث عن تجربة سكّان قطاع غزّة في تجاوز الأسلاك الشائكة باتّجاه المناطق المحتلّة عام 1948. كيف وُلدت فكرة العمل لديك؟ وما الذي أملى عليك هذه الحكاية تحديدًا؟

وُلدت فكرة هذه الرواية بعد انقلاب حركة 'حماس' في غزّة وهروب الكثير من أبناء القطاع إلى الضفّة عبر السلك الحدوديّ، وكون جزء كبير منهم كانوا مطلوبين للاحتلال، فقد اعتُقلوا واقتيدوا إلى السجون. هناك استمعت لقصصهم ومن وحيها نسجت هذه الرواية، لقد شبّهت هروبهم بأنّه سير عكس خطا آبائهم وأجدادهم الذين هربوا أثناء النكبة إلى غزّة. لم تكن عودةً كما حلموا، بل نكبة جديدة، شعرت أنّ الشعب الفلسطينيّ وقضيّته قد دخلا نفقًا جديدًا، وأنّها مرحلة تدمير ذاتيّ تركت وستترك أثرها، ليس في القضيّة فحسب، بل في الناس وعلاقاتهم ولغتهم اليوميّة... إلخ، لذا أردت أن أوثّق هذا التحوّل، وأن أرصده من خلال قصص الناس.

 

هل يمكننا الحديث، اليوم، عن 'أدب السجون' في فلسطين المحتلّة؟ وما هي نظرتك لهذا الأدب؟ وهل يعكس هذا الأدب الواقع الفلسطينيّ داخل زنازين الاحتلال؟

أدب السجون موجود وله ملامحه الخاصّة ورموزه، ونلحظ في الفترة الأخيرة كثافة في إنتاج هذا الأدب، وهو ليس مقتصرًا على ما يكتب داخل المعتقلات، بل وخارجها أيضًا، ممّن تحرّروا حتّى بعد فترات طويلة، مثل المناضلة عايشة عودة، وغيرها. لكن، للأسف، هذا الأدب لا زال يراوح مكانه، وباستثناء تجربة عايشة عودة، لم يُسجّل اختراق كبير وملحوظ، عربيًّا ودوليًّا، ولا هو استطاع أن يصل إلى جمهور أوسع، وهذا يعود لأسباب قلّة الاهتمام به ومواكبته بالنقدـ

ألاحظ أنّ كلّ الندوات والورشات الأدبيّة والثقافيّة التي عُقدت لأجله، خصّصت للاحتفاء به وتمجيده! كما أنّه لا تُرصد ميزانيّات ولا خطط أو استراتيجيّات حقيقيّة لتطوير هذا الأدب، الذي يحوي قيمة أدبيّة وإنسانيّة كبيرة، ويعبّر عن تجربة فريدة وعميقة، ويحمل، أيضًا، قضيّة ورسالة كبيرتين.

 

أوس يعقوب

 

صحافيّ وباحث فلسطينيّ من مواليد دمشق، يتخصّص في الشؤون الفلسطينيّة والصهيونيّة. درس الصحافة وعلوم الأخبار في جامعة تونس، ويعمل مراسلًا صحافيًّا ومحرّرًا في عدد من المنابر العربيّة منذ عام 1993. له عدّة إصدارات، من ضمنها دراسات منشورة في 'أعلام العلماء والأدباء العرب والمسلمين' الصادرة عن المنظّمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو). عضو الاتّحاد العامّ للكتّاب والصحافيّين الفلسطينيّين.