في طويلة البوكر: مقطع من "وارث الشواهد"

قرية عين حوض المهجّرة قضاء حيفا | فلسطين في الذاكرة

"وارث الشواهد"، رواية لأستاذ الإعلام في جامعة بير زيت، وليد الشرفا، وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالميّة للرواية العربيّة "البوكر"، لعام 2018، ضمن 16 رواية ينتمي مؤلّفوها لـ 11 جنسيّة عربيّة، أعلنت عنها إدارة الجائزة الأربعاء الماضي.

صدرت الرواية عن الأهليّة للنشر والتوزيع في الأردنّ، وتقع في 160 صفحة من القطع المتوسّط، صمّم غلافها الشاعر زهير أبو شايب، ولوحة الغلاف كانت بعنوان "الإرث"، للفنانّة الفلسطينيّة تمام الأكحل.

الرواية حفر عميق في الأزمنة الفلسطينيّة الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، عبر عدّة أجيال، يكسر فيها الزمن الروائيّ الحواجز بين الأحداث التاريخيّة التي جرت على أرض فلسطين، وهي تعرية لمحاولة سرقة الذاكرة الفلسطينيّة من قبل المستعمِر الذي لم يكتف بسرقة الأرض، كما أنّها دفاع واضح عن الحقيقة القائمة على الأرض بتجلّياتها الواضحة، مقابل الأسطورة القائمة على الوهم والوعد الإلهيّ الزائف.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الرواية بإذن من صاحبها.

....................

القارئ شريك في المعجزة، لكنّه ليس شريكًا في الإثم...

سأل نبيّ ﷲ سليمان، أو ملك ﷲ سليمان − وهذا من لعنة الروايات التي ستصيب القارئ، فلا يفلت منها − عفريتًا من الجنّ عن الكلام، فأجاب: تبدّده الريح فلا يبقى، فقال: ما قيده؟ قال: الكتابة.

تتحقّق المعجزة بمجرّد القراءة، من على جبل الكرمل، وهو جبل المعجزات منذ الإله بعل، وهو كذلك عاصم المظلومين والمكلومين. سيتمكّن القارئ من تحقيق المعجزة، حيث ستقيّد الريح خيالات فلسطينيّ، وعذاباته وجروحه وكسوره. وهو يُدعى "الوحيد" لقبًا، وصالح تسمية، ويقبع الآن في سجن الدامون، ليس بعيدًا عن بلدته الأصليّة عين حوض، التي أصبحت في رواية أخرى (عين هود) بعد احتلالها عام 1948 على يد اليهود المهاجرين من أصقاع الأرض، والمواطنين الفلسطينيّين – سابقًا − بعد أن استجابوا لدعوة الربّ بعد ثلاثةآلاف عام بقتل جيرانهم. وهذه رواية ستدخل الوحيد في التيه والعتب. ربّما على الروايات المنسوبة للربّ جلّها.

الوحيد هذا مؤرّخ فلسطينيّ، أو مشتغل بالتاريخ، جدّه هُجِّر من عين حوض، تربّى على روايات الجمال والبحر والكرمل والعصافير والوديان، تربّى على أنّ البحر في عين حوض يكون أرضيّة البيت وعتبته، والريح سقفه، ولا طعم لأيّ شيء خارج عين حوض. ترك جدّه البيت على فراخ الحمام، تركه مهجّرًا، لكنّه ظلّ يعود إليه تذكّرًا، حتّى بنى منزلًا في نابلس نسخةً عنه، وهكذا فعل ما تبقّى من المهجّرين الصامدين داخل النبي، الذي أصبح أرض (إسرائيل)، فأنشؤوا مقابلها عين حوض جديدة، مقابل الفنّانين الذين ورثوا منزل جدّ الوحيد، ليصنعوا فنًّا!

سيدخل القارئ عقل الوحيد، وسيتتبّع أحلامه ورواياته، حتّى يصبح أقرب إليه من حبل الوريد، ويدخل كنهه، وهذه إحدى معجزاته، فكيف لا؟! وإن كانت عين حوض نفسها معجزة في نشأتها، فقد رُوِيَ أنّ أبا الهيجاء، وهو أحد قادة صلاح الدين الأيوبيّ، في معركة حطّين سنة 1187، حين جاء محرّرًا لفلسطين أو غازيًا، كما يقول الوحيد: ظلّ لحظة تشنّج للروايات المسيحيّة والإسلاميّة.

أبلى أبو الهيجاء بلاء منقطع النظير، فأراد صلاح الدين تكريمه، فأمر برمي طبل، فطار الطبل، من حطّين بين طبريّا والناصرة، وحطّ على صخرة، حتّى حفر بها ظلّه، وأقسم أناس أنّهم رأوا الطبل مجسّدًا على الصخر، فقال صلاح الدين: هذه الأرض لك ولنسلك من بعدك. وليس غريبًا أنّه حتّى لحظة تقييد هذه المعجزة، ما زال آل أبي الهيجاء هم من يسكنها.

ورواية المعجزة قد تؤدّي إلى حالة إعجاز، فالوحيد فلسطينيّ دفع ثمن روايات الأرباب، وبها خلق معجزته، وربّما يكون نبيًّا معجزًا، يذكر نعمة ﷲ عليه، فالأرض التي يكتب منها وفيها وعنها، "فلسطين"، أرض المعجزات؛ ففيها رُزق إبراهيم بإسماعيل، أو إسحق في رواية أخرى. ولعنة الروايات سترافق القارئ طيلة إنتاجه للمعجزة بعد أن فقد الأمل بالولد، وفيها نجا يوسف من كيد إخوته، وفيها قام المسيح الربّ، أو النبيّ في رواية أخرى، بعد أن صُلب وقُتل، وقيل في رواية إنّه لم يُصلب أبدًا، وقبل أن تقطر قطرة دمه الأخيرة، حدثت المعجزة عندما أخبر اليهود بخطبة الإفصاح عن أنّه المسيح، حدثت معجزة الربّ بقفزه عن جبل القفزة في الناصرة، ليكمل دربه وليقول كلمته، قفز من بين مخالبهم ولهاثهم في اجتماع اغتياله.

وأقسم من رأى الصخر أنّ آثار جرّه وبصمات جسده ماثلة، وصدى دقّات قلبه يُسمع من كلّ زائر مؤمن بالربّ.

ويُروى أنّ النبيّ محمّدًا أيضًا، عرج بمعجزته الكبرى إلى السماء من القدس، ليس بعيدًا عن طريق الآلام، وهي الرحلة الأكبر في معجزته ودينه، حيث التقى الأنبياء وصلّى بهم في ظلال ﷲ! وما زالت الصخرة المفتوحة نحتًا تتّجه نحو السماء، وتعيد مجد الربّ إلى المسجد كلّ ليلة.

ولأنّ الذاكرة والخيال تشتّتهما الريح، كما قال الجنّ للنبيّ أو للملك سليمان، فإنّ القارئ الذي يقرأ هذا الكتاب شريك بالمعجزة والكرامات، لكنّه ليس شريكًا في الإثم، ولا يتحمّل وِزْرَ زور الروايات أو زيغها. لكنّه لا بدّ أن يتحمّل ما يحمله مخيال الوحيد وعقله من آلام. منذ اللحظة الأولى لمقتل والده على مشارف نابلس عام 1967، عندما احتلّ النبيّ (الدولة) (إسرائيل) بقيّة فلسطين، وعمره كان بضع سنوات، فلم يستطع الصبيّ نسيان صورة جثّة والده في القبر، فظلّت تحفر عقله. لقد دُفن مرّتين، وفي قبرين! فجزع لذلك جزعًا شديدًا.

وكذلك، فإنّ الريح هنا توصي القارئ بالصبر على أدقّ التفاصيل التي سيوردها الوحيد عن المنزل في عين حوض، وللجدّ الذي عاد إلى عين حوض، ودار حول منزله ميتًا بمساعدة طبيب فلسطينيّ مسيحيّ نصرانيّ أُصيب بالشكّ والإثم من الرواية كلّها!

ولا يفوت رسول الريح هنا أن يشير إلى أنّ القارئ لا يتحمّل أيّ إثم من أحلام الوحيد، ولا نزوات الطبيب النصرانيّ، إلى حين، ولا حتّى لغو ريبِكا، زوجة الوحيد غير الموحّدة، وابنته الرسّامة الصغيرة ليلى. وهكذا فإنّ كلّ قارئ يقرأ عقد الجنّ هذا، ستكون قراءته بمثابة إعادة الروح للوحيد ولروايته الوحيدة الحاضرة الآن، التي رغم إعجازها تُرى بالعين المجرّدة وتُسمع. ولأنّ الأمانة واجبة أن تُردّ إلى أهلها، فإنّ ميثاق الكتابة هنا يدعو القارئ بألّا يفزع ولا يصدّق الافتراء أنّ الوحيد غدا قاتلًا أو دمويًّا أو حتّى ناكرًا للجميل، فهذه إمارات لا تجتمع في نبيّ صدّيق، عدا عن بعض روايات بني إسرائيل في كتابهم وأسفارهم وجنّهم. وإذ يوصي المقيّد القارئ الآن، الواثق بروايته، بأن لا يجزع ولا يقنط ويكون من الصابرين على الآلام التي ابتُلي بها سليمان الصالح، حتّى لا يحيد، ويضيع دينه من بعد ثبات! ويعود كالعرجون القديم، فقد تمّ كلّ شيء، وما تقاسونه من صبر فهو عند الربّ لا يضيع.

ولأنّ كشف الغيب أبسط درجات المعجزة والنعم، سيقوم الطبيب بعمل كان يحقّره ويصغّره، ولا يؤمن به أبدًا، وهو الكتابة، التي لا يتبعها إلّا المفتونون والمرضى وأتباع الشهوات. سيأخذ الطبيب ميثاق الروايات الظاهرة من سيرة الوحيد وصبره معه، وكيف هداهما الربّ إلى فلسطينيّتهما خارج فلسطين؟ وكيف حاد عن سؤال المحبّة إلى سؤال العدالة من خلال سفره مع الوحيد ومعايشته لأخباره؟ ذلك أنّه عندما رأى شاهد منزله في عين حوض منقوعًا بالبول والبراز وما ينتأه السكارى تحت أقدام المتغوّطين، بعد أن نقله الفنّانون الجدد من أعلى باب المنزل إلى أسفل أرض الحمّام، فرأى برهان نفسه، واتّخذ الحجر ذراعًا.

وسيقوم الطبيب بدور الترجمان لجنّ اللسان، وسيحاول أن يجري عمليّة تحويل اللغة التي كتبت بها زوجة الوحيد عن تفسيراتها لنبوّته، وهي غير الموحّدة، إلى اللسان العربيّ المبين، وهو لسان الفلسطينيّين قبل الروايات جلّها، وسيقرأ لبني إسرائيل وغيرهم من الناس في يوم النشر الأكبر مدى حزنها وصدقها ورفضها لأن يكون الوحيد قاتلًا جبّارًا، وتعلن أنّها من المهتدين إلى رسالته، وأنّها تعلن ميلاد دين خاتم، هو دين الوحيد، وتعلن أنّ فكرة الإنسانيّة عندها كانت كذبًا.

وربّما، وهذا ليس مؤكّدًا، ربّما يقوم الطبيب بترجمة مغايرة، لرسالة ليلى ابنة الوحيد، التي رسمت منزليها، دون أن تراهما، الأوّل، منزل الجدّ في عين حوض، والثاني منزل الجدّ والأب في نابلس.

وفي ختام هذه الفاتحة بين العجيب والأرضيّ، فإنّ كلّ قراءة باسم الوحيد، ستعيد إحياءه، وإحياء آلامه وذكرياته في وجه شرّ من خلق. وربّما − وﷲ بكلّ شيء عليم − تساهم في تحقيق رؤياه وما سيقوله في المحكمة التي تسبق الخاتمة في هذه الحادثة الغريبة، بأنّه يعلم الغيب وما أخفى، ولا يقتله الرصاص، وعليه تكون النار سلامًا وبردًا، ولا يمكن لدمه أن ينفد، مثل ماء البحر ونسيم الريح.

أزمنة هذه الروايات عميقة، عمق الروايات نفسها، وأمكنتها ضاربة ممتدّة تعبر عليها هذه الروايات، وهذه المعجزة، مثل: حيفا وعكّا ونابلس وبيروت والقدس والصحراء وبلاد الغرب الجديدة والمخيّمات، فعلى القارئ أن يطمئنّ لسلامة روحه، لأنّ شراكته في الإعجاز، لا تعني شراكته الآثام الواردة فيه.

اقتربت نهاية الحكاية منّي، الحكاية التي سمعتها طوال أكثر من أربعين عامًا تقترب من رقبتي، لتنهي الترنّح والتنقّل بين الحكايات، ولم يبق أحد ممّن شهد الحكاية الأولى إلّا هذه المرأة الوحيدة، أمّي، لكنّها ستنهي الحكاية كما بدأناها سويًّا، أنا وهي وجدّي. إنّه الفصل الأخير: قبل نحو خمسين عامًا كنت أنا ابن الرابعة بين أمّ وجدّ، أنا الذي كنت أمرح وألهو وأنتظر خبرًا عن عودة والدي إلى المنزل. غابت شمس ذلك اليوم، أوصل جدّي أمّي إلى بيتنا، وذهب هو إلى المنزل الكبير، نمت أنا وقتها بين يدي أمّي، وبقيت هي تنظر إلى النافذة وتمسح على شعري، وجهها كان أحمر، أحمر جدًّا، وعيناها مبتلّتين.

في الصباح، أقف بينهما ثانية تنظر، تنتظر، تعود. قال أحد الرواة ممّن جاء من المدينة: إنّ الجنود اليهود بينما كانوا ينصبون الحواجز قتلوا شخصًا عند المعسكر.

أحد هؤلاء الجنود يحرسني الآن، وأنا في طريقي إلى السجن أو الموت، والهواء الساخن مع العرق الملتصق بجسدي، يقرّبني أكثر من الحكايات التي سمعتها، وصنعتها فيما بعد. في صبيحة اليوم التالي صحوت مفزوعًا من فراشي تحت شبّاك منزلنا المطلّ على الوادي في أمّ البساتين، صرخت أمّي صوتًا جرح حلقها، وهرولت نحو الوادي، لحق بها جدّي، حاول الإمساك بها، وقعت على الأرض ثمّ قامت، وهكذا حتّى وصلها في آخر الوادي. وضع عباءته عليها، وأدخلها المنزل. عينا جدّي أراهما الآن سوداوين، حادّتين، شاخصتين دون أيّ حركة. أسنانه تطحن نفسها، وأنا أبكي في تلك اللحظة خوفًا عليهما، وخوفًا من خوف أمّي، وخوفًا من شكل جدّي الذي لم أكن ألفته من قبل.

قال أحد سكّان القرية: قبل يومين أوقف الجنود الذين احتلّوا مدينة نابلس شخصًا عائدًا من المدرسة، أوقفوه وقتلوه.

روى أحد المارّة من قرية مجاورة، أنّ الجنود أوقفوا الرجل أمام المدرّعة الحديديّة، وطالبوه برفع يديه عاليًا، بعد أن أخذوا كتبه، وعندما رفع يديه صوّب أحدهم من بعيد رصاصتين إلى صدره، فسقط على الأرض، وبدأ ينزف. انتظر الجنود حتّى العصر، وطلبوا من اثنين من الموقوفين أن يحفرا قبرًا إلى جانب الشارع الرئيس المؤدّي إلى المدينة؛ بين مدخل المدينة ومدخل معسكر الجيش، يبعد القبر تمامًا نحو ثلاثة أمتار. طلب الجنود منهما أن يدفناه قبل أن يتمّ اقتيادهما ثانية إلى المعسكر، في اليوم التالي من أيّام الحرب الستّة.

سمعت منذ تلك اللحظات الرواية عن موت والدي، وشعرت بعدها بأنّ أمّي وجدّي كانا من الأشرار؛ لأنّهما نقلا الحكاية. كنت متأكّدًا من ذلك الشعور، لأتيقّن أنّ هذا هو الشهيد المجهول - الاسم الذي أُطلق على قبره − بعد نهاية اليوم السادس من الحرب، وبداية تحرّك الناس نحو المدينة.

سيكون هذا القبر المجهول، وهذا الشهيد المجهول هو أبي، وسيعرف جدّي بعد أسبوع من انتظار الأخبار والحكايات، أنّ هذا الشخص هو المدرّس الذي كان عائدًا من مدرسته، وأنّه كان يرتدي قميصًا أبيض وبنطالًا أزرق، وبيده كتابان للصفّ السادس لمادّة التاريخ، طويل القامة، نحيف في العشرينات من العمر. وسيقول الناس في القرية المجاورة إنّ هذا المدرّس هو ابن سليمان الصالح المهجّر من حيفا، من قرية عين حوض، والذي جاء إلى أمّ البساتين، وبنى بيتًا يشبه بيته في عين حوض. وسأصبح أنا منذ تلك اللحظة الابن.

 

وليد الشرفا

 

أستاذ الإعلام والدراسات الثقافيّة في جامعة بير زيت. حصل على الماجستير عن أطروحته حول "بواكير السرديّة العربيّة" عام 2000، وحصل على الدكتوراه عن أطروحته حول "الخطاب عند إدوارد سعيد" عام 2006. صدرت له عدّة مؤلّفات منها: رواية "محكمة الشعب" (1991)، ورواية "القادم من القيامة" (2013)، و"الجزيرة والإخوان: من سلطة الخطاب إلى خطاب السلطة" (2013)، و"إدوارد سعيد ونقد تناسخ الاستشراق" (2016).