أتنفّس من رئة الغابة | نصّان

جايا برايم

 

وقود

الهواء، وهذا الصوت الذي يصدر الآن من حركة الأشجار، هذا الحفيف، الخفيف الرقيق، لكن الهادر في نفس الوقت، يناديني. أجري باتّجاهه فيجري في أوردتي كقطار. القطار الذي مشى على فحمك يومًا. الآن تذهبين وتجرّين فحمك وراءك. أصبحتُ واقفًا على ضفّة النهر مع جرح غائر، ورأسي في الأرض أمامي مثل نعامة خائفة.

أتعلّق بأشجار الصنوبر، ألتصق بحجر مثل حشرة لزجة، أصير أخًا للجبال. أخرج من المدن، من هذه الصناديق البشريّة التي تعجّ بالكلام والنقاشات البالية عن السياسة والاقتصاد. أخرج مثل متوحّد أو ناسك عجوز. لا أشعر بالوحدة هنا. فالأشجار تبدو مثل عائلة متماسكة. أبادلها الحديث، وأستمع لأصواتها كأنّها موسيقى. أصادق شجرة رخت ظهرها فوق ظهري لكي ترتاح من عملها في إنتاج الأكسجين، وفي جعل هذه الغابة رئة العالم. إنّ تعلّقي برئة العالم يشبه تلك السحليّة التي تحبّ العنكبوت الصغير. حين كانت تذهب إلى بيته وتتعلّق بخيوطه التي ينسجها، كانت تتمايل وتتراقص مثل راقصة الباليه. ذاك أنا عالقة روحي بين أغصان الأشجار والصخور.

أتنفّس من رئة الغابة، وهذا الذي ينبض في داخلي هو قلبها هي. ينبض ويضيء كمصباح ينير عتمتي. أحتسي قهوتي كلّ صباح في نفس المكان الذي تعرّفت إليك فيه أوّل مرة. أبدأ يومًا عاديًّا، قد أقول لطيفًا، بعد أن أفسح مكانًا في الذاكرة لكلّ الأحداث الدراميّة التي حصلت بيننا. أستنشق الهواء النقيّ الآن، أرفع رأسي نحو السماء، كأنّها مرصّعة بالأبيض، يبدأ قطاري بالتحرّك نحوها. نحو تلك الغابة الناشطة، المفعمة بالحياة، أو، بالحرّيّة.

 

 

صانع الابتسامات

لماذا يجب عليّ أن أصنع ابتسامات زائفة في عملي في الفندق، رغم التحطّم الذي يحدث داخلي؟ رغم الألم الذي يصعّب عليّ الوقوف؟ أصبحت عامود كهرباء فوق رصيف الشارع. أصبحت روبوتًا يستجيب إلى مشغّله فقط. أبيع ساعاتي بدلًا من أن أمتلكها في حياتي. أصبحت عجوزًا في سنّ العشرين. قدماي كقدمي حصان مكسورتين وذابلتين.

جسدي أصبح هشًّا مثل مبنى كبير من قشّ. لا بل صرت مزهريّة لا قيمة لها في مجتمع المزهريّات. هل ثمّة قانون يجبرني على أن أقول للناس: "صباح الخير" و"أهلًا وسهلًا"؟ لكنّي لم أسمع أحدًا يقولها لي يومًا ما. لماذا يجب عليّ أن أحترم الآخرين، أقصد المزهريّات؟ مَنْ قال إنّ عليّ أن صحو باكرًا إلى عملي لكي أجني المال؟ أهو الله؟

نحن البشر نعمل ونكسب المال. هل يكسب الجماد شيئًا غير المال؟ إشارات المرور التي تدلّنا على الطريق، هل تجني شيئًا غير المال؟ الأشجار، وبعد صنعها للأكسجين، هل تجني شيئًا؟ الثور، وبعد مصارعته للثيران في الحلبة، هل يجني شيئًا بعد العذاب؟ من الواضح أنّ ثمّة أخطاء في تأسيس الحياة. فلا عدل بين عمارة كبيرة وكوخ صغير بناه رجل لا يملك منزلًا.

سرّ جمال الغابة يكمن في ابتسامتك، وأنت جالسة على غصن معرّض للكسر وتنتظرين أن تسقطي لكي أبتسم، العكس من ذاك الشعور الذي يطفو عندما تصبحين سفّاحة بعد أن تنهشي عضلات قلبي ويفشل في الخفقان أيّامًا وسنين. أنت لست مقاس الملابس التي أرتديها. كنتِ مثل عود البخور حين أشعله ويشعرني بالسعادة لوقت قصير. أنت مثل ضوء القمر في ليلة دامسة وسرعان ما يختفي في النهار. أنت مثل برج حدث خلل في بنائه، سقط، فأصبح حطامًا.

أنت كوخ صغير احترق وأصبح رمادًا. لست الوحيدة التي كسرتني. لكنّك كنت المكان الذي أزوره كلّ يوم؛ الحلم الذي ضاع. حبل السعادة الذي انقطع. النصوص التي أكتبها وتتبعثر في ذهني. أنت الأيّام التي مضت فأصبحت مسجّلة فقط على الروزناما. كيف لي ألّا أَكِلّ من صنع الابتسامات الزائفة؟ وأن أقاوم ذاك الشعور البائس وأنا أتخيّل شخصًا آخر يضع قناعًا قبالتك؟ كيف لك أن تخرجي من البيت معه وأنا الذي علّمتك أين الباب؟

 

نور مرعي

 

من الفريديس ويقيم في حيفا. مهتمّ بالأشغال اليدويّة، ولا سيّما المعتمدة على الخشب والطوب، بالإضافة إلى اهتمامه بالكتابة، والتجوال في الطبيعة واستكشاف المناطق الأثريّة.

 

 

 

 

*  يُنشر  النصّان بالتعاون مع مبادرة "فناء الشعر"، وهما نتاج ورشة للكتابة الإبداعيّة بإدارة أسماء عزايزة، صدرت نصوص المشاركين فيها بعنوان "خلل طرأ لحظة ولادتنا".