إلى غزّة، مع حفظ الألقاب

عدسة إبراهيم فرج

 

يا بحر الجبل، تعال إلى جبل البحر/ هكذا تنادي المدن قريباتها من فوق أسوار الحدائق والأسلاك الشائكة، وتنتظر.

يا فتيان البحر، اصعدوا إلى فتيات الجبل/ هكذا تنادي العاشقات على الأحبّة في سرّهنّ، وينتظرن.

يا فتيات البحر، انتظرننا، نحن فتيان الجبل/ هكذا ينادي العشّاق على حبيباتهم في العلن، ولا ينتظرون. يطلقون صراخهم في وجه المسافة، ولعنة الجيوش المتتالية، ويلعنون الحبّ والتضاريس: هل لنا أن نطير في المسافة الهوائيّة صوب الحبّ؟ هل لنا أن ننسى التراب وقطّاع الطريق والقتلة على الجانبين، ونصل سالمين إلى حبيباتنا اللاتي من ماء؟ وينتظرون.

والانتظار يستدعي المجاز ليصبح ممكنًا، لكنّ المدن التراجيديّة تحتاج إلى افتتاحيّات عظيمة، ومجاز حقيقيّ، كي تصدّق أنّها لم تُنْسَ. المدن التراجيديّة تحتاج إلى مخيّلة كي نراها ونصدّق نحن أنّها ممكنة.

وأنا لا أحبّ المجاز، أحبّ الحقيقة أكثر.

لهذا، كنتُ أَدْفِشُكِ في مخزن الذاكرة، وأُبْعِدُكِ عن مخيّلتي، كنتُ أستبعد ممكنكِ، كنتُ لا أحبّ صفاتكِ التي تذكّرني بالماء، كنتُ أنساكِ من بين المدن، وأنساكِ من الخريطة، وأنساكِ من الشجر، وأنساكِ من الحجر، وأسلّمكِ للهواء، وأسأل: هل استطاع الشعر شيئًا في الحقيقة؟

في الحقيقة، كنتِ تسيرين ضدّ الأشياء، وأنا أسير معها، ولم أفهم عنادكِ ولا كثافة ملحكِ. لم أفهمكِ، ولم أحاول، لم أصدّق حروبكِ ودمكِ الذي سال، لم أصدّق أوجاعكِ المزمنة، ولا صفاتكِ التي من نار، ولا سعالكِ الذي من غبار، ولا هدوءكِ الذي من أزل، ولا صراخكِ الذي من عنفوان. قلتُ: مدينة مثل هذي لا بدّ وأنّها مُتَخَيَّلَة، مدينة مثل هذي لا بدّ وأنّها سقطت من معجزة ما، وأنا لا أصدّق المعجزات، بل أصدّق الحاجز العسكريّ، لا أصدّق الزهد، بل أصدّق القوّة الكامنة، لا أصدّق الإيمان، بل أصدّق الفكرة الحيّة التي تخرج منه، لا أصدّق الماء، بل أصدّق اللعنة التي فيه.

وأنتِ لعنتي، وأنا أحبّ اللعنات عندما تعلّمنا الدرس.

أخبرتني الحياة أنّني ناقصة، ناقصة الماء، ناقصة الملح، ناقصة المخيّلة، وناقصة الحقيقة. وكان عليّ أن أكتمل، لأنّه درسي، ولأنّني في دورة الروح لا بدّ وأن أعترف بما ينقصني لأكمله، وأصعد سلّم الأرواح سالمة وطيّعة وخفيفة.

وفتحتُ بابي إليكِ، طواعيّة فتحتُه، أيّتها البحريّة الخائفة المخيفة. وصرتُ أخاف عليكِ ومنكِ، وأدركتُ أنّكِ الناقصة منّي، وأنّه لا فراغ بيننا، وأنّ عاطفتي استدلّتْ إلى حكمتها عندما أدركتْ أنّكِ فاتحة ومنتهى، وأنّكِ تحتاجين إلى افتتاحيّة تليق بك، افتتاحيّة تليق بنا نحن الواقفين على باب قوّتك الكامنة، وتليق بإدراك أنّنا صُنعنا من مادّة واحدة: مادّة العاطفة.

بسم الله الرحمن الرحيم، أبدأ احتفائي بك، ميمّمة وجهي وقلبي صوب وجهكِ، وأقف تحت قدميكِ الآن وأختار لنا (أنا وأنتِ) احتمالًا آخر: أن أراكِ كما أريد أن أراكِ، وأن أقول لكِ الحكاية.

لم أكن وحدي. اتّفقنا من الجبل المطلّ على سمائكِ أن نغنّي، لأنّنا لا نستطيع سوى الغناء، وأن نشهد أنّكِ حبيبتنا، لأنّ الحبّ يحتاج إلى الكلام حتّى يظلّ طريًّا، واخترنا أن نحاول شيئًا ما لأجلكِ، لأنّ المحاولة إعلان عن النوايا، واخترنا أن نستحضركِ، وأن نُجْلِسَكِ إلى جوارنا في المقاعد، وأن نباركَ أنفسنا بالصعود فيكِ إليكِ، واخترنا أن نسخر من العزلة بكسر العزلة، وأن نقطع الطريق إليكِ جيئة وذهابًا بمدّ الآه، واخترنا أن نقول أشياء كثيرة لم تعرفيها.

ولم يكن من مجاز في ما حدث.

عشرات من المحبّين، نادوا أبناءك وبناتك واحدًا واحدة. كنّا متعبين وخائفين، وأربكنا الحدث: كيف يصدّقنا مَنْ يكتبون من حفرة الألم؟ كيف سيسمعنا مَنْ يسلكون طريق العدم ونحن ننادي بأسماء أجسادهم التي غيّبها الحصار؟ كيف سيعرفون حقيقة جرحنا وهم الذين نزّوا حبرًا في عتمة حالكة، ونحن نجلس في الضوء مترفين "مجازًا"؟ هل سيرون رجفتنا في عدسة الكاميرا؟ هل سيسامحوننا من هناك على أنّنا هنا؟ هل يكفي أن نقرأ شعرهم وقصصهم ونصوصهم من على بُعْدٍ كي يفهموا أنّنا نفهم المعجزة/ معجزة الألم الذي يصنع مثل هذا الجمال/ معجزة العدم الذي يتحرّك كي ينقذ الأرواح بالشعر؟ هل سيقبلون لأصواتنا أن تقرأ خساراتهم وموسيقاهم وأشجارهم وأمواجهم وعاطفتهم وملحهم؟ هل سنحملهم كما يجب؟ هل سنفهمهم كما يجب؟ هل يكفي أن نعتذر على أنّهم ليسوا بيننا؟ هل تكفي كثافة الشعور كي ترفعنا وإيّاهم إلى ما وراء الموت (مجازًا وحقيقة)؟ هل تكفي النوافذ والأبواب في الروح كي نتبادل الأدوار؟

وهذا ما فعلناه: على مدار يوم كامل بكينا. كنّا من الوطن الممتدّ شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، وكنتِ أنتِ الغائبة الحاضرة. من أجلكِ لمعتْ فينا نجمة قديمة، ونزلنا إليكِ، إلى بحركِ، موقنين أنّ الحبّ الذي فينا ستعرفينه، وتلمسينه، وتصدّقينه.

ورضيتِ. كان الرضا فيكِ يبلّلنا بملح البحر، وبالفتوّة، ووجوه الفتية الذين يركضون بكِ في الضيق ويصلون إلى الشهادة واثقين، ونحن غنّينا معًا: يا وطن الشهداء تكامل.

أمّا أنا، فأشهد أنّكِ الآن أمّي، وحبيبتي، ونجمتي اللامعة، وسماء خوفي، ويقيني، والشعاع.

الآن يمكنني أن أناديكِ، وأصعد بأحبّتي فيكِ إلى الله: يا أصدقائي الطيّبين، أنا أحبّ لعنتنا، ولن أكتمل إلى أن أراها.

أنا أحبّ لعنتي، وجنيّتي، ووجهتي في الطريق إلى الله/ غزّة.

وأسألكم:

يا أصدقائي الطيّبين: ما الذي ورثناه نحن أبناء التعب؟

ورثنا الكلام، فلنكتبه.

 

** بوحي من "نصوص غزّيّة - تظاهرة أدبيّة"، يأتي هذا النصّ، وقد شارك في التظاهرة الطوعيّة والمستقلّة، 40 كاتبًا وإعلاميًّا وفنّانًا فلسطينيًّا، قرؤوا خلالها نصوصًا لكتّاب غزّيّين، رفضًا لسياسات الاستعمار الإسرائيليّ، وللحواجز والمسافات والحصار التي يفرضها على الشعب الفلسطينيّ، وتأكيدًا على وحدة الثقافة والإبداع.

 

هلا الشروف

 

شاعرة فلسطينيّة من مواليد طرابلس عام 1977، وتقيم في رام الله. درست الأدب الإنجليزيّ والترجمة في جامعة بيرزيت. صدر لها "لم أقطع النهر" (الدار الأهليّة - عمّان، 2014)، و"سأتبع غيمًا" (دار الآداب - بيروت، 2004)، وهي حاصلة على جائزة عبد المحسن القطّان للكاتب الشابّ - حقل الشعر.