لم أُرد لهذا "السيناريو" أن ينتهي

الروائيّ سليم البيك

 

أمسك برواية "سيناريو" (الأهليّة، 2019)، أضعها في حقيبتي الصفراء، الّتي حملت في الوقت ذاته رواية لجورج بيريك اقتنيتها مؤخّرًا. مضت ساعة، تكبّدت فيها عناء منع نفسي من تناول روايتي الجديدة، كجائع يحمل كعكة ساخنة تفوح منها رائحة الفانيلا، كنت أقرأ اقتباسًا لمارجريت أتوود، تقول فيه: "إنّ الرغبة في لقاء كاتب نتيجة الاستمتاع بما كتب، كالرغبة في التعرّف إلى إوزّة نتيجة الاستمتاع بطعم جبنة الفيتا"، عندما آثرت سليم البيك على جورج بيريك وتناولت روايته بنهم!

يفنّد سليم البيك ما تدّعيه أتوود، فلا يمكن قراءة "سيناريو" دون الشعور بحاجة شديدة إلى التعرّف إلى كاتبها، لا يمكن أن أنتزع سيرة البيك الذاتيّة من قلب هذا النصّ... حقيقيّ هو في حضوره هنا بلون لحيته، ورمّانه، ولهجته الفلسطينيّة المطعّمة بما تيسّر من لسان أهل الشام، وذكيّ هو في حضوره ككلّ فلسطينيّ لاجئ، مُغترب، مُبعَد، مُهجَّر، مهاجر. يحمل فلسطينيّته وتحمله، يصوغ تعريفها وتحدّد قِبلته، تُملي عليه النصّ، ويملي عليها التفاصيل المشبعة بالمشاعر.

 

مَنْ الّذي يروي؟

تراوغنا هذه الرواية فلا نعرف حقًّا مَنْ الّذي يروي لنا، أهو سليم العارف بكلّ شيء، يروي لنا قصّة عن سيناريو، كتبه وخلق شخصيّاته على صورته؟ أهو كريم الراوي البطل، الّذي لا يجد حرجًا في مشاركتنا تفاصيل علاقاته الجنسيّة، بلهجة تتحدّى قواعد الأدب، كمن يشارك مغامراته مع شلّة من رفاقه، في أثناء تناول البيرة عصر يوم السبت؟ أم ثمّة راوٍ شاهد يطلّ من عليائه؛ ليصوغ حكاية تجمع ثلاثيّة سليم وكريم - وسليم آخر يظهر لحظة ثمّ يغيب - بأسلوب الكرّ والفرّ؟ واللازَمان الّذي يجعلنا نعود بأصابعنا صفحات إلى الوراء لنقول: أقرأت هذه الأحداث من قبل أم شُبّه لي؟

 

غلاف "سيناريو" لسليم البيك

 

شهيّة هذه الرواية، بكلّ ما فيها من سلاسة وبساطة وتعقيد، بكلّ ما فيها من جرأة لتجمع بين شتيمة لاذعة ومقال جدّيّ. ربّما يكون هذا تجلّي الفلسطينيّ العصريّ، الّذي يحيا متعدّد الصفات والهويّات، إنسان لا يراوح أرض فلسطين المأمولة، ومساحات الذكريات الموروثة، في ما تستمرّ قدماه بالمسير على أرض أوروبّيّة ربّما تسعفه بيروقراطيّتها، وتلبّي له إشباع رغبة لم تنجح بإخمادها ثلوج باريس ولا أمطار تولوز، تتأجّج نار هذه الرغبة كلّ مرّة من جديد يُسأل فيها عمّن هو، ومن أين جاء؛ فتتكرّر الحكاية ذاتها الّتي بدأت ذات 1948، ولمّا تنتهِ.

 

أربع نساء

فضفاض هذا الفلسطينيّ، كريم، الّذي يحمل في قلبه وعقله وذاته كلًّا من حيفا والمخيّم وباريس، وأربع نساء! لم يأتِ باريس حاملًا معه رائحة أُمّ أو جدّة، ولا حفنة تراب أو شتلة زيتون، لا مكان في هذه الرواية للرمزيّات الوطنيّة الصاخبة، وسط الشتائم المتكرّرة الّتي صاغها الراوي بأسلوب ساخر، يجعلنا نعيش مع البطل تقلّب مزاجه وعصبيّته؛ فنضحك وخيالنا قادر على تصوير حاجبيه المنعقدين وسط جبينه قليل العرض.

ثلاث من نساء كريم يشبهن الأماكن الّتي يأتي منها وإليها؛ فشارلوت كالمخيّم الّذي يعيش كريم علاقة مؤقّتة به ثمّ يغادره، وميلاني كباريس الّتي تغريه ليغازلها، يسترق النظر إلى تفاصيلها، يشتهيها، ثمّ تدفعه خشيته من المجهول ثانية إلى المخيّم، وريما كحيفا الّتي يلاحقها فتصدّه، ثمّ تقترب منه لتكشف له وجهًا ما كان يرغب في أن يراه، حيفا الّتي شكّل جغرافيّتها في خياله، تتجسّد أمامه بصورة امرأة مزاجيّة، عصبيّة، متقلّبة لا تثبت على حال؛ فتخيفه وتبعده... كم هي جميلة وهي بعيدة! أمّا كلارا فهي مرآة كريم، حنينها أبدًا إلى بلادها وتراثها وأصلها وثقافتها، لكنّها تائهة بين هويّاتها الأكثر حميميّة، تضع نفسها في التجربة علّها تعثر على مرادها، وهو مثلها التائه بين تكوينات هويّته ومركّباتها الّتي لم يختر أيًّا منها، ويخشى التنازل عنها فرادى أو مجتمعة.

 

توليفة

عظيم كريم بقدرته على أن يكون توليفة، تجمع بين حيفائيّته وسوريّته ولجوئه واغترابه، عظيم بقدرته على حمل النكبة الّتي لم ترد بكلّ ثقلها في السطور، لكنّها هنا في الفراغ البارد، الّذي أشعر به بين رئتيّ وأنا أتابع خطواته، الهادئة السائرة إلى لامكان.

غريب هذا العالم الّذي يقرأ لدرويش وسعيد، ولا يملك من القدرة ما يجعله يفهم هذه التوليفة العاطفيّة، الّتي تجمع بين "هون وغاد" وبعض الذكريات، في إنسان واحد!

قصير هذا السيناريو، أما من مزيد؟

 

 

سماح بصول

 

 

تسكن في الرينة، شمال فلسطين. صحافيّة، محرّرة 'دوغري نت' بالعربيّة، ومركّزة مشروع الإعلام العربيّ في مركز 'إعلام'. حاصلة على البكالوريوس في اللغة العبريّة وأدبها، طالبة ماجستير في ثقافة السينما.