شيخة حليوى: على قصتي أن تكون انقطاعًا مفاجئًا للكهرباء

الكاتبة شيخة حليوى

 

الهندسة الّتي تخطّط لعمران نصوص القاصّة شيخة حليوى، تبدو قادمة من أماكن شديدة الاختلاف وشديدة الشبه في آن؛ فأساساتها الاجتماعيّة والنفسيّة متنوّعة، طبائع شخصيّاتها لا تتكرّر، وعلائقها متجدّدة تتمظهر في أشكال مثيرة للفضول، في كلّ مرّة ندوس عتبة قصّة، لكنّها تتشابه في أنّها تحتوي على شرفات دقيقة المساطب، وشبابيك شاهقة، ستولّد عند القارئ مساحات كأنّها آمنة، لكنّها تثير القلق والارتياب. ربّما هذا ما تريد شيخة أن تشعر به قبلنا؛ فالأماكن المريحة لن تفضي بها إلى قصّة جيّدة، كما تقول، والأماكن تلك لا تمثّل الأدب والأسلوب والتقنيّة فحسب، إنّما الأماكن الوجوديّة والهُويّاتيّة. فما يركّب هُويّة شيخة؛ كونها امرأة بدويّة، فلسطينيّة، كاتبة، إلخ .. مفتوح على الأسئلة والمدّ والجزر والتأويل والصراع.

عن جميع هذه الأمور، وعن الكتابة بشكل خاصّ، القصصيّة منها والشعريّة أيضًا؛ كان لفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة هذا الحوار مع الكاتبة شيخة حليوى. 

 

حاورتها أسماء عزايزة.

 

فُسْحَة: من أين تلتقطين أفكار قصصك وشخصيّاتها؟ ما مقادير الواقع والخيال، إن صحّ التعبير، فيها؟ هل لديك عادات معيّنة في الكتابة تساعدك على الالتقاط؟

شيخة: ألتقطها من كلّ شيء حولي، كلّ شيء يتحوّل إلى حكاية وقصّة، أستنطق الجماد وكلّ الكائنات. الأحاديث العابرة الّتي تصل سمعي في المقاهي والطرقات والمجالس، هي أيضًا تتحوّل إلى فكرة أشكّلها كما أريد وأحبّ. أمارس فضولًا قصصيًّا يتحوّل إلى قصّ أثر مدعوم بكلّ الحواس، ومشفوع بحسّ بدويّ قد يكون أهمّ ما حملته معي من بيئتي الأولى، ومن رعاة قريتي الّذين كانوا يخاطبون الشجر والحجر، ويعودون بألف قصّة وحكاية. فتًى يقف عند واجهة أحد المحلّات يراقب الدمية/ العارضة، آخذه وأزوّجه بها. ابني الّذي يفقد قطّته أُخرجه للبحث عنها وأُربك أزمنته. أُصغي إلى الكلب الجريح في الشارع وهو يتحدّث عن الحرب والخوف، وأكتب قصّته. العجوز الّتي تهرب من واقعها إلى الثقوب. وأنا حين أفعل ذلك لا أميّز بين الواقع والخيال، ولا أضع مقادير لأيّ منها؛ هي تفرض نفسها على الحدث وعليّ. أنا أتحدّث هنا عن المجموعتين الأخيرتين "الطلبيّة c345" و"النوافذ كتب رديئة"؛ إذ فرضت الموضوعات فيهما تداخل الواقع والخيال، من دون أن يمسّ ذلك بمصداقيّة الحدث و"طبيعيّة" القصّة. في "سيّدات العتمة" فرض الواقع نفسه؛ فكنت أسترجع حكاياتي وحكايات الناس في قريتي "ذيل العِرج"، في مواجهة حقيقيّة مع ما كان هناك، قبل أن تكوّم الجرّافات البيوت وتسوّر الأرض، وتمحو كلّ أثر لأهلها. كنت فقط أستنطق الذاكرة والصور الباقية فيها، لم أسمح للخيال أن يُربك التفاصيل الّتي أجمّعها بحذر شديد؛ هكذا كان وهذا ما حدث.

 

إصدارات شيخة حليوى

 

فُسْحَة: صدرت لك مجموعة النصوص الرابعة عن "منشورات المتوسّط"، بعنوان "الطلبيّة C345"، بعد ثلاث مجموعات: "النوافذ كتب رديئة" و"سيّدات العتمة" و"خارج الفصول تعلّمت الطيران"؛ كيف تنظرين إلى كلّ تجربة منها، كمحطّة فنّيّة وشخصيّة معًا؟

شيخة: في "سيّدات العتمة" - مجموعة قصصيّة - و"خارج الفصول تعلّمت الطيران" - نصوص - كنت طفلة تتعلّم الكلام، وتفرح لكلّ كلمة تلفظها، كنت أتعرّف عوالمي الداخليّة الحاضرة والماضية، وأقولها بدهشة كمن يكتشف أنّ له اسمًا وحياة وعالمًا. لم أكن مهتمّة بالشكل عمومًا، وما لم أستطع أن أُقولبه ليكون قصّة واضحة المعالم، أدرجته ضمن نصوص "خارج الفصول تعلّمت الطيران"، وما اتّخذ شكل حكاية يمكن أن أسردها على مسامع أمّي أو خالتي، أدرجته في "سيّدات العتمة". صدر الكتابان عام 2015 بفارق شهر واحد، وهو ما يفسّر الشبه الكبير في فحوى الكتابين، وكأنّهما شهادة ولادة لتوأمين! بكلّ ما قد يحمله العمل الأوّل من أخطاء ومجازفة، إلّا أنّي أدين لهما بكلّ كلمة كتبتها بعد ذلك وسأكتبها. كانا أيضًا محطّة لم أتوقّف عندها طويلًا؛ أقصد أنّ ما كتبته لاحقًا لم يكن يشبههما في العوالم والمواضيع. أمّا "النوافذ كتب رديئة"، فكانت محاولة للخروج من عباءة البداوة والمرأة، أو بتعبير أدقّ، من عباءة المرأة البدويّة، في تحدٍّ واضح لتقييد هُويّتي الكتابيّة "كاتبة بدويّة". لا أريد لأحد أن يقيّد قلمي وكلمتي، كما قيّدوا مرّة لساني وقدميّ. "النوافذ كتب رديئة" 2016، و"الطلبيّة "C345 2018، مجموعتان اختبرت فيهما العوالم الأخرى الّتي تشكّلت منها هُويّتي المركّبة، منذ حملتُ البدويّة المراهقة وأنا أدير ظهري لقريتي، وأواجه بها المدينتين الكُبريين: حيفا ويافا.

 

فُسْحَة: لا تمشي قصّتك بخطّ متوقّع؛ ففي لحظة ما، يشعر القارئ بأنّ الحبكة والشخصيّات والدلالات تباغته، تقلبين ظنونه وتوقّعاته لكن من دون أن يفزع، أقول: بسلاسةٍ قاتلة؛ لِمَ - في رأيك - يتكرّر هذا الأسلوب في قصّتك؟ وماذا يعني لديك؟

شيخة: إذا لم تدهشني القصّة بعد اكتمالها، وكأنّني أقرؤها أوّل مرّة، وأتعرّف تفاصيلها كما يتعرّفها القارئ؛ فلا أُبقي عليها! أحذفها مباشرة. على القصّة أن تفاجئني أنا أيضًا، إن لم يكن ذلك في الحدث، فلتكن نهايتها غير متوقّعة ومفاجِئة، عليها أن تصفعني حيث أكون مطمئنّة، تباغتني حيث أكون مستكينة. أريد القصّة شبيهة بالحياة الّتي عشتها وما زلت أعيشها؛ حياة لم تسرِ يومًا في خطّ واضح مستقيم، حياة فيها تمرّد على المفاهيم السائدة والمعروفة، وانقلاب عليها، وسقوط مفاجئ مباشرة على الوجه، فيها باب يُغلَق فجأة على المألوف، ويُفتَح باب آخر على المجهول الغامض.

لا أريد قصّة لا تشبهني، تمسك يد القارئ بطُمأنينة، وتقوده إلى ما يعرفه ويتوقّعه. على القصّة أن تكون انقطاعًا مفاجئًا للكهرباء، ودروبًا مُعتمة تستنفر العيون والأقدام والأيدي؛ حتّى يعتاد الشخص العتمة، أو يبحث بجدّ عن بصيص ضوء.

 

فُسْحَة: لا شكّ في أنّ بيئتك الأولى البدويّة، حاضرة بشكل ما في نصوصك؛ هل تشعرين بأنّ هذا الحضور ثابت في مشاهد أو ذكريات منقولة في النصّ؟ أم متحرّك ومفتوح على التصرّف من قِبَلك؟ وكيف أثّرت هذه البيئة في شيخة المرأة والكاتبة؟

شيخة: هي حاضرة رغمًا عنّي، وقد تكون أكثر حضورًا في النصوص الشعريّة، حيث تكون الأنا العميقة العفويّة هي الّتي تتحدّث. علاقتي ببداوتي علاقة معقّدة وموجعة، أو ربّما غير مكتملة. عشت في قريتي البدويّة حتّى سنّ 18 عامًا، ثمّ تزوّجت وانتقلت بعدها إلى يافا، حيث كانت وما زالت "بدويّة" هي شتيمة مستخفّة ومحقّرة. تخيّلي أن تعيشي في ظلّ شتيمة! كيف لفتاة تريد أن تفترس العالم بلقمة واحدة، ألّا يكون سؤال الهُويّة سؤالها الوجوديّ الدائم؟ كيف لا تلعن بداوتها صباحًا وتعود لتصالحها مساءً، بتدريب قاسٍ على مخارج الألفاظ؟ أدين للبداوة بكلّ انتصاراتي، حتّى تلك الوهميّة.

كنتُ طفلة بساقين ماردتين

أمّي من مطبخ كوخنا: "تطوّلي"

تربط قدمي اليسرى بشالها إلى قدم الخزانة الخشبيّة

تترك لي مساحة أحبو فيها

أحبو

أزحفُ

لم أصل مرّة

لا أطال سوى طرف قيدي وقدمٍ ثقيلةٍ من خشب

أمّي البدويّة الّتي تتملّص يدها كلّما حميتها من شارعٍ مجنون

تقول عيناها من المطبخ البعيد

كوني ظهرك ويدك والأرض أيضًا

يوم كسرتُ زجاج الشبّاك

قصّرَتْ شالها ورحلتي

من مطبخ بؤسها رسمتُ مسافاتي كلّها

ما زالت خزانةٌ عملاقةٌ تتوعّدني

كلّما احتلتُ على شالها.

 

البداوة هي الخزانة العملاقة الّتي تتوعّدني... ولكنّ شالي طويل طويل.

 

فُسْحَة: النساء شخصيّات محوريّة تتمتّع بقوّة فنّيّة في قصصك؛ هل تتعمّدين هذا التوظيف مقولةً اجتماعيّة؟ هل توافقين على تسمياتٍ مثل "الأدب النسويّ" و"الكتابة النسويّة"؟

شيخة: لا أعرف إذا كنت أتعمّد هذا التوظيف، كأن يكون حاضرًا في اللاوعي، لكنّ القصص مرآة لما أريد قوله أو ما أشعر به. المرأة إنسان قويّ حدّ الدهشة، والنماذج الّتي نشأتُ في كنفها نماذج صلبة وحكيمة، وفي غاية الذكاء رغم أُمّيّتها وظلاميّة المجتمع. قد أكون أريد - أيضًا - إنصاف المرأة في القصص؛ فقد أراد المجتمع وأد كلّ ما هو جميل فيها، وسلبها شعلة القوّة. كتبتُ مرّة:

وأنا أكتب لا يساندني جيش من النساء ... وإن صفّقن لي عند النقطة

ورائي امرأة مكسورة وأخرى خائفة وأربع أخريات... يتناوبن في دور عمود وهميّ يصل مباشرة إلى الجنّة.

أنا من حظّي أنّني أعرفهن.

من حظّهن أنّهن لا يتذكّرن وجهي.

 أحاول في الكتابة عمومًا، وفي القصّة على وجه الخصوص، أن أستحضر المرأة الّتي لا ترضخ لكسر "شوكتها"، ولا كسر "عينها"؛ المرأة الّتي تخلق عوالمها، وتحلّق فيها بحرّيّة، وإن كانت قدماها مقيّدتين بأوتاد الخيمة.

 

فُسْحَة: أنت تكتبين الشعر أيضًا، إلّا أنّك تبدين غير مهتمّة كثيرًا في نشره، إلّا في نطاق المجلّات، أو على صفحتك في فيسبوك؛ لماذا؟

شيخة: أعتقد ببساطة أنّني لا أملك مشروعًا شعريًّا واضح المعالم، لا أراه أكثر من فسحة حرّة لقول ما أريده في لحظة معيّنة. أنا تقريبًا لا أقرأ الشعر ولا أقتني الدواوين، وكلّ ما أملكه الدواوين الشعريّة القديمة، الّتي كنت أحفظ منها مئات الأبيات، ولا أريد للشعر أن يزاحم القصّة أو يشغلني عنها. صحيح، أنا أكتب نصوصًا وليدة اللحظة، وأنشرها على صفحتي في الفيسبوك؛ فيأخذها البعض وينشرها في المواقع والمجلّات، لا أضع لها تعريفًا ولا نوعًا، ولا أخطّط لنشرها في كتاب أقلّه في المدى القريب. الغريب في الأمر أنّ الكثيرين يتعاملون معي على أنّي شاعرة لا قاصّة، رغم أنّ القصّة شغفي الأوّل والأخير، وقد نشرت خلال ثلاثة أعوام ثلاث مجموعات قصصيّة. في الأمسيات والمهرجانات، وحتّى في موقع فيسبوك، أجد أنّ التفاعل مع النصوص الشعريّة أكثر كثيرًا من التفاعل مع القصّة، وأنّ معظم ما يُترجَم من كتاباتي نصوص شعريّة؛ وعلى هذا الأساس يتعامل معي الآخر غير الناطق بلغتي؛ أهي أزمة قصّة أم أزمة قارئ؟ لا إجابة لي عن هذا السؤال.

 

فُسْحَة: إلى أين تذهب رغباتك وهواجسك في كتابة السرد؟ أعني إلى أيّ شكل وجوهر تطمحين؟ هل منها ما يدفعك إلى كتابة الرواية؟ ما يدفعك إلى محو الحدود الواضحة بين القصّة والنصّ؟ فعلى أغلفة كتبك نجد التصنيفين!

شيخة: الرواية ستكون التحدّي الأكبر القادم بالنسبة إليّ، ستكون اختبارًا مرعبًا للسرد، أقول مرعبًا لأنّ القصّة - بما تحمله من اختزال وتكثيف - تُفشل معظم محاولاتي السابقة للغوص في عالم الرواية. في القصّة أشعر بأنّي مَنْ يطارد الشخصيّات والحدث، ويمسك بها بخفّة، أمّا في الرواية فيغلب عليّ الشعور بأنّني مطارَدة في متاهة واسعة، أبحث عن مخرج قبل انقطاع النفس.

أقول الرواية بعد أن اختبرتُ الشعر - بكلّ إشكالات التصنيف - والقصّة والقصّة القصيرة جدًّا، لكنّي؛ ولأنّي أعرف نفسي، سأعود إليها هذه المرّة "إمّا قاتلًا وإمّا مقتولًا". فإمّا أغلب خوفي، وأُكمل ما بدأته، وإمّا أقرّر أخيرًا أن أكتفي بكتابة القصص. أمّا التصنيف فلا يشغلني، ولن أتركه يُفسد عليّ الكتابة، يشغلني أكثر سؤال "ماذا" لا "كيف".

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها مجموعتان شعريّتان، "ليوا" (2010)، الحاصلة على جائزة الكاتب الشابّ - حقل الشعر، من مؤسّسة عبد المحسن القطّان، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة، مثل الإنجليزيّة والألمانيّة والفارسيّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. كما تعمل كاتبة مقالات ومديرة فنّيّة لمتجر فتّوش للكتب والفنون، وبار وجاليري فتّوش.