شجار الجمادات ونصوص أخرى

Dmitri Posudin

 

شجار الجمادات

نهمد في الأسرّة بأجساد آلهةٍ قديمة، وتسكن أرواحُنا في لوحات الصالة: رجلٌ قاتمٌ استُبدِلَ رأسه بمكنسةٍ ذات عصًا طويلة، امرأةٌ خضراءُ يبني طائرٌ في إبطها عشّه، أفواهٌ مطليّةٌ بالقشطة وأخرى تتشابك أغصانٌ بين أسنانها، زاجلٌ يتخبّط في الإطار من الجهات الأربع يحمل بساقيه بناية بريد، رجالٌ ونساءٌ يبحثون عن ورقة توتٍ، أو بالأحرى يبحثون عن عورةٍ طريّة. ما إن تغادرُ أرواحُنا حتّى يسود السلام في البيت والمجرّات، وتصير لنا ذكرياتٌ في أجساد بعضنا. يتحوّل الصراخ إلى عملاتٍ نافقةٍ كانت معاشاتٍ للجنود، أو فراشاتٍ في أيدي الشحّاذين، بينما حاكي الأسطوانات يوزّع الشمس بالتساوي، على نوافذ دور العبادة، والقمار، والمشافي.

*

كلّ ما أردته من الشعر هو أن يرانا في السرير لوحةً، مقرفصَيْن. متهجّدَين. أو في قيلولة النوكى. كلّ ما أردته من المرأة هو أن تنتظر معي الشعر حتّى ينتهي من إصلاح ساعة الكون، تنتظر، أنتظر، ننتظر إلى أن ترفع يد النهار عنّا الغطاء، فنجدنا هيكليْنِ عظميّيْنِ فرّقهما السأم، كلّ جمجمةٍ تنظر في اتّجاه.

 

 

نواةٌ مشوّشة

أيُّ ملاذٍ له

رأسي الّذي يتدحرج منذ عام 1983

جرّبَ أكتافًا كثيرةً لآدميّينَ، وحيواناتٍ، وزواحفَ

جرّبَ أن يتدلّى ثمرةً على غصنٍ

وتكوّم كصخرةٍ مشتعلةٍ في صحن المنجنيق.

*

رأسٌ نام فوق التيجان لا تحتها، مرّتْ ملاعق الذهب على شفتيه، ولحست الجراءُ الكوابيسَ الملوّثة بالورود والأحذية عن ملامحِهِ. ركض أنفُهُ نحو النشوق المنبعثة من مسامات السحرةِ/ حدّقَتْ عيناه في الجينات الّتي نحتته في مَرسم الظلام نواةً من الصلصال المتململ والمشوَّشِ.

أيّ ملاذٍ له غير الاختباء في الأفكارِ، في السُّكْرِ، في المرأة تاركًا الجسد يعيش في تابوته المفتوح كشُرفةٍ كاسدةٍ تطلّ على الرموز.

*

جسدي يتنصّت على أطفال إخوتي... يروون حوله القصص والأساطيرَ

أكبرهم قالَ: جسدُهُ بلا رأسٍ، كالسُّلمِ لا فرق إن وقف على يديه أو قدميْهِ

وأشبهُهم بي قالَ: ركلَهُ جدّي آسفًا على رأسه الّذي عاش حياةً كاملةً في الجوارير.

 

 

أشكال الوهم

يمنعهم القفل، إلّا أنّ زفيرهم يَعبر من أسفل الباب، هؤلاء الّذين استيقظوا فجأةً ولم يجدوا أنفسهم ميّتين. أضمّد بالقطن المبلول أسفل الباب، وأنفي من زفَرِ أفواهٍ التهمت الحياة لتوّها، جاؤوا بظلالهم المُهانة لأهزّ أكتافهم الطريّة حتّى تتخشّب/ حتّى يأخذ الوهم شكل أمنياتهم الّتي تبكي وتضحك، وتشبع وتجوع.

*

أنا أيضًا أريد شكلًا لوهمي:

ما كنتُ لأصدّقَ ألم ركبتي لولا شرائط المسكّنات

لا أتيقّن من نقودي إلّا حين أُطعِم المدفأة أوراقًا من الفئة الكبيرةِ

لن يكون اليوم هو الثلاثاء إن لم تقطفه يدي عن الرزنامةِ

ولن أقول هو الربيع إن لم ترشق الفراشةُ

حيْضَها على الستارة.

*

الأمّهات هنّ شكل اليُتْمِ، والخسارة هي شكل الربحِ، ما إن تُقِعينَ بملامحي حتّى أدرك كم رقصتُ وضحكتُ في ليلة الأمس، ولولا البقشيش في اليد الخزفيّة ما انكسر الصمت بتلويحةٍ كانت البرهان على ضجيج يدينا، وتضخّمِها في الجيوب حتّى مزّقتها.

*

قيل: الوهم هو تلك الغرغرينا، تفغم العالَم بدءًا من عورته. وقيل: هو الأمل الّذي يدفعنا إلى ضبط المنبّهات. بينما الشعراء الّذين اصطادوه بإلقاء القبّعات عشوائيًّا في الجهاتِ قالوا: هو الشعرُ. فانهار على أوراقهم مثلَ بنايةٍ شاهقةٍ شربت الزلزال دفعةً واحدة.

 

 

بركة وحل

اصعَدْ أيّها القلب وافرد كفّيك على الطاولةِ أعرفُ أسماء مَنْ شوَوْا أصابعك، دوّنتَها على ظهرك حتّى صرتَ أشبه بدفتر ديون. اصعَدْ فقد مضى وقتٌ كنتَ فيه خنزيرًا طيّبًا قايضَ العالم ببِركة وحل. صرتَ أشبه بِكُرةٍ طيّعةٍ كلّما التقطوا شوكةً أو مسمارًا عن طريق أقدامهم تذكّروها. صرتَ أشبه بجمهرةِ ديدانٍ متخشّبةٍ/ بقنفذٍ يتكوّم على رعبه... أزرقَ أزرقَ مثلَ إبهام الخيّاط.

*

لماذا، إلى مثلي، يرسل الليل زعرانَهُ

ويلقون بي في النوم حيث الكابوس في بطنه يزمجر ويتوعّدُ

لم تكتفِ عضلاتهم بتعليقي على ناب القيلولةِ.

استحلفتُهم بعشائي الّذي لمّا يَحِنْ وقته بعدُ

بالمرأة الّتي ما زالت في طريقها إليّ من رحم أمّها

بالليل رئيسُهم/ بالخمرة الّتي ثملت بها مراياهم

بالخوف الّذي يقبض بيده على ركبتي ويهشّم بها الركبة الأخرى

بألّا يقطعوا عليّ انتظاري من منتصفِهِ

ألّا يسكنوا مستقبلي الّذي كلّما صارتْ أيّامه ورائي

بدت كأنّها الفردوسُ.

*

اصعَد، اصعَدْ أيّها القلب بفضولٍ وبوَجَلٍ نحو فمي المفتوح كالشبّاك، اصعَدْ مثل رأس الغريب حين يصير عنقُهُ سلّمًا/ مثل زهرة العبّاد تفكّر لو بمقدورها أن تكوّم ملامحَها في حقيبة امرأةٍ صفراءَ كالشمس، راقبْ كيف يدخل الغراب في كيس الطحين، وكيف تغادره حمامةٌ بيضاء. قل إنّ ذلك يذكّرك بالنساء اللواتي أدخلتَهنّ إليك، كيف غادرْنَك نحو مراياهنّ، وكأنّك صندوق الأمنيات. قليلًا وتنزاح الستارة عن الفُرجة، وستشاهد أصدقائي يبلّطون البحر تحت أقدام سمكة، وإذا شئتَ أُجلسك أيّها الأشعث بالشوك والمسامير على كرسيّ حلّاقٍ تدرّبَ مقصّه على تشذيب ألسنة النار الشاذّة عن الموقد.

*

ها أنا أدلف إلى بطن النوم حيث سلطة الكابوس

مثل قطارٍ وقودُه العمر والذكريات

بينما أنت أيّها القلب وجهٌ ملتصقٌ بزجاج نافذته.

 

 

رأس الحكمة

خشيةً من عُمدة المدينة أغادر البار على دفعتين. أدحرج رأسي أوّلًا وقد استبدلتُهُ بيقطينةِ هالُوين، ثمّ أغادر بجسدي ذي الحبكة الرخوةِ، أجتاز عتاولةَ العُمدةِ، أنسى وأشعل سيجارة يدخّنها شبحٌ أو مهرّجٌ يَمُطّ شفتيه إليها من ثقب اليقطينةِ، بما يُبهج مزاج طفلٍ نكِدٍ لم يجد ما هو أزرقُ في مدينتِهِ خارج اسمها. ثمّة شبابٌ يغادرونَ، بالطريقة ذاتها، حاناتِهم. هكذا نترك للنُّدُلِ مهمّة التقاط رؤوسنا ليحملوها إلينا مع الطلبات في سهرةٍ لاحقة.

النُّدُل يُعَنوِنونَ أجسادنا.

 

 

محمّد عريقات

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ يقيم في الأردنّ. صدرت مجموعته الشعريّة الأولى تحت عنوان 'أرمل السكينة' بطبعتين، عن المركز القوميّ للدراسات والتوثيق في فلسطين 2009، وعن المؤسّسة العربّية للدراسات والنشر في بيروت 2010. صدرت مجموعته الشعريّة الثانية 'أكلتني الشجرة'، عن المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر في بيروت 2016. حاصل على عدّة جوائز أردنيّة وعربيّة. يعمل في مجال الكتابة الدراميّة في المركز العربيّ للإنتاج الإعلاميّ.