شظف الملاحم - خماسيّة قصصيّة

مولي كرابابل | فايس

 

(1)

نضال

إنّها الليلة الثانية للأحداث. في الأمس، بدأ جيش الاحتلال بعمليّة الاجتياح؛ هبّ الشبّان محاولين التصدّي للآليّات العسكريّة على مداخل المدينة.

كان الصمت جاثمًا، وكأنّ وباء حلّ بها، ولم يُبقِ فيها بشرًا. تبدّى صوت قادم من بعيد إلى الآذان، دويّ الصوت يتّضح أكثر. البيوت على جانبَي الطريق أصبحت تهتزّ مع مرور الدبّابات بمحاذاتها، فقط أصوات جنازير الآليّات العسكريّة المحتكّة بالأسفلت حاضرة في هذه الليلة.

قفز نضال من مكانه إلى النافذة المطلّة على الشارع الرئيسيّ، مع سماع هدير الأصوات في الخارج، رفع الستار، وألقى نظرة بحذر. "الجند يفيضون في الشارع، الدبّابات تنتشر في كلّ زقاق، لقد حوّلوا الحيّ إلى ثكنة عسكريّة"، قال مخاطبًا والديه، محذّرًا إيّاهما من الاقتراب، يطلب منهما أخذ الحيطة عند السير بجانب النوافذ.

أضواء الكشّافات الّتي يحملها الجنود، تتنقّل بين نوافذ البيوت، باحثة عن جسد حيّ لتُرديه قتيلًا.

ظلّ أفراد العائلة مستيقظين، متتبّعين أخبار البلاد المنهكة في هذا الوقت، وسكون الليل يحمل أصوات اشتباكات متفرّقة، تبدو أنّها آتية من الجهة الغربيّة للمدينة، أصواتًا أيقظت لُبّ نضال، وأشعلته.

 

(2)

رصاص الفداء

ينقل المدى إلى الأبصار أطرافَ المدينة. مصابيحها المعلّقة في الهواء وبيوتها الّتي تَصطفّ أسرابًا، تتقلّص كلّما ابتعدت رؤاها عن العين، ومآذنها أعمدة مفرَّقة، وبعض قباب حدباء لا لون فيها ولا صوت لها يُسمَع.

اعتلت الشمس السماء لتعلن للشبّان المجتمعين على قمّة الجبل بداية نهار جديد، اعتادوا على تكرار أحداثه مع مرور الوقت. في الصباح يتحضّرون في صفوف تمتشق البنادق، يتناولون بعض أرغفة الخبز المرطَّبة بالماء طعامًا، ويفترشون الأرض أسرّة في ظلّ الأشجار الكثيفة الشاهقة.

أصبح الجبل مأواهم ومسكنهم.

خلال النهار، تنقّل أبو مرزوق بمشيته المترنّحة بين صفوف المقاتلين الجدد؛ ليشرف على تدريبهم كما يفعل في كلّ يوم. أبو مرزوق رجل في الخمسين من العمر، قويّ البنية، طويل الجسد، ذو ملامح صارمة برغم شخصيّته الّتي لا تخلو من الطيبة. قد خاض في زمانه معارك عدّة جعلته يكتسب خبرة عالية في القتال، وهو لا يكتفي أبدًا بالحديث عنها أمام المقاتلين، متفاخرًا بتاريخه وتجاربه الكثيرة، خاصّة تلك المعركة الّتي أصيب فيها بقذيفة جعلته أعرج، يمشي على ساق واحدة وعصًا تسند ميلان جسده.

عند ساعات الليل، يمضون في طريقهم نحو المدينة الّتي أصبحت مرتعًا لجنود الاحتلال، فهم من دون الوصول إليها لن يتمكّنوا من الاستمرار في القتال، فهي تزوّدهم بالخبز وبالرصاص، وفي زقاقها يستهدفون الدوريّات العسكريّة وبعض جنود المشاة المنتشرين بين البيوت.

 

(3)

خطى المدينة

هدوء يعمّ المدينة وأحاديث كثيرة تنتشر. منذ أسبوع أقدم سعيد، وهو من سكّان أحد أحيائها، على استهداف دوريّة احتلاليّة، وأصاب أحد الجنود. أُعلِن مقتل الجنديّ بُعيد وقوع العمليّة. أُغلقت الطرق منها وإليها. نُصبت الحواجز في كلّ مكان. اكتظّت مداخلها بطوابير من البشر، ينتظرون دورهم في التفتيش، حتّى يتمكّنوا من الوصول إلى منازلهم.

يُدرك كلّ مَنْ في المدينة، ومَنْ وصله الخبر، أنّ العواقب لن تطارد سعيدًا وحده.

داهم جنود الاحتلال بيوت العائلة، وكلّ بيت في المدينة تفتّش دون أثر كان لسعيد. توالت الاعتقالات لكلّ مَنْ ربطتهم علاقة به. وأمّ سعيد بجسدها السقِم، وانحناءة ظهرها، وعكّازها الّذي لا يفارق يدها، كلّ هذا لم يمنع الجند من اعتقالها.

مجموعة من الجنود أحاطت بها متّجهة نحو آليّة الاعتقال.

فُتح باب الزنزانة. وضعوا طبق الطعام ورغيف خبز فوقه. أخذت أمّ سعيد الرغيف بيدها، ووضعته جانبًا وقالت في سرّها: "أيزال حيًّا؟". لقد امتنعت عن الطعام والشراب منذ دخولها مركز التحقيق. فُتح الباب مرّة أخرى، وأخذوها إلى غرفة الاستجواب؛ لتبدأ الأسئلة المعتادة: أين سعيد؟ متى آخر مرّة رأيتِه فيها؟ أين تُخبّئينه؟

في الغرفة أربعة محقّقين أجاد كلّ واحد منهم دوره ببراعة، فلا ينتهي الأوّل من توجيه الأسئلة بهدوء حتّى ينقضّ الثاني عليها بالشتائم والصريخ.

مضت ساعات على التحقيق، لمّا أعادوها إلى الزنزانة فاقدة توازنها من شدّة التعب.

تُركت أمّ سعيد في الزنزانة وحيدة تائهة لا تعلم الليل من النهار. أرض بمساحة الجسد تعلوها فرشة رقيقة نتنة تفترشها للنوم. لا وقت يمرّ من حولها، لا ونيس لها سوى أربعة جدران تخاطبها باليدين. هكذا تظلّ إلى أن يُفتح باب الزنزانة في اليوم التالي، وتتكرّر الفصول نفسها دون كلل أو ملل.

بعد أسابيع حاصر جنود الاحتلال سعيدًا في إحدى البلدات المجاورة. قيل إنّ أربعين رصاصة اخترقت جسده. ولم يكتفِ الاحتلال بأخذ القصاص من الأرواح والأجساد، ففي ساعة متأخّرة من إحدى الليالي تقدّم فيلق من الجيش، اقتحم منزل العائلة وطرد منه ساكنيه. عند كلّ ذكرًى لأهل البيت نبتت، زرعوا قنبلة متفجّرة. في ضغطة واحدة سُوّي البيت بالأرض. غيوم الغبار تصاعدت منه محلّقة فوق المدينة، تخبر كلّ مَنْ لم ير التفجير بعينيه أنّ البيت أصبح الآن أكوامًا من الحجارة، أصبح ركامًا في الأرض.

لم تخرج أمّ سعيد من الأسر. حتّى سعيد اعتُقل جثّة من بعد قتله.

 

(4)

حصار

بدأ الحصار ببطء يقترب، يقترب. أُغلقت السبل من حولهم.

أرجَعَ رأسه إلى الخلف متّكئًا على جذع شجرة. عصر بيديه معدته لعلّ الأصوات الصادرة منها تصمت. شبّ واقفًا مستندًا على بارودته، فجلوسه مترقّبًا ما سيحدث دون تدخّل، يجعلها كأيّ عصًا لا وظيفة لها سوى التعكّز.

سار باتّجاه زجاجة الماء وأخذ آخر رشفة خضّل بها شفتيه، ثمّ ألقى بنظره أسفل الجبل. حصار مطبق، عشرات الدوريّات تلتفّ حولهم كالجدار العازل. نظر إلى رفاقه. كانوا يبدون جثثًا هامدة، بطونهم فارغة كبئر جوفاء، سيأكلون الصخر على أن يموتوا جوعًا وعطشًا.

كلّ يوم يمرّ عليهم دون طعام أو شراب تضمر فيه قواهم أضعاف ما قبله، فيغدون فريسة هشّة لا تقوى على المقاومة.

أطال النظر نحو رفاقه وقال:

-              سأتسلّل.

كان الجواب حاضرًا من أحدهم:

-              الحصار مطبق، لا تُجهد نفسك.

يردّ:

-              نحاول. تفتعلون اشتباكًا من جهة الجنوب وأتسلّل شمالًا.

ما إن أطلقوا بضع طلقات حتّى فُتح وابل من الرصاص، وأخذ الجنود بالتحرّك نحو مصدر الصوت. انطلق هو كالسهم لا يلتفت خلفه حتّى اختفى أثره بين الأشجار، ومصيره عُلّق بين الرصاص. أحيّ بقي أم مات؟

 

(5)

هجرة البيوت... بقاء الأقحوان

وجوم مميت يحضر في طرقات البلدة. كلّ شيء جامد لا حياة فيه، البيوت الّتي تكسوها الحجارة القديمة، الأرض وما عليها والسماء مِن فوقها. لم يتبقّ أحد من ساكنيها بعد أن أحدقت المستعمرات بالبلدة من كلّ صوب، وهُجّر مَنْ كان يسكنها مع مرور الوقت.

وحيدًا بقي أبو جميل في منزله الواسع المحاط بمساحة خضراء تزيّنها أشجار اللوز. كبقاء الأقحوان الممتدّ في الأرض المتروكة، لبث هو وزوجته فقط في بلدة تتّسع لآلاف البشر. عُزل، سُيّج بيته بالأسلاك الشائكة، مُنع من الدخول والخروج إلّا بقرار عسكريّ تُحدَّد فيه أوقات الذهاب والإياب، وحارسان لا يفارقان مدخل البيت للتفتيش.

ألِفوا حياة كهذه يملؤها الحذر، حياة يضطرّون فيها إلى البقاء داخل أسوار البيت، حتّى لا يُسلَب منهم ما تبقّى لهم. فطوال سنين مضت لم يُترك البيت خاليًا تمامًا، كان أحدهما يلازمه إذا ما خرج الآخر. حياة معزولة، خروج كليهما يعني رحيلهما عن البلدة دون عودة. المحتلّ لا يكفّ عن الحضور في كلّ ليلة، سوى يوم السبت؛ لتخريب البيت ومحتوياته، مستوطن لمّا يبلغ عام الرشد بعد، يصول ويجول حول البيت برفقة أقرانه، لا يترك حجرًا على حاله، ولا شجرًا يَرحم.

عشر سنوات على حياتهما في قرية مهجورة منسيّة، يقتلها البرد والأرق، يكسوها التعب والخراب، يطوف فيها السكون وهرج المستوطنين. يسير أبو جميل في طرقاتها كلّ فترة، هنا كان دكّان القرية، وهنا كان المقهى، عند هذا الزقاق كان يجلس مروان الخضرجي مع جيرانه لشرب القهوة. أصوات الأطفال كانت حاضرة طوال الطريق من قبل. يلقي السلام على كلّ شيء يقع نظره عليه، لا ردّ.

 يجيء المخاض في غير موعده مبكّرًا، ستضع أمّ جميل مولودتها الجديدة. الوقت يقترب من الفجر. وحيدة وزوجها داخل أسوار البيت.

خروجها في وقت كهذا بحاجة إلى قرار عسكريّ، قد يأخذ ساعات أو أيّامًا ليصدر.

يصدح صراخها في البلدة، صراخ حادّ متقطّع يتردّد في كلّ بيت، وكأنّ البيوت تردّ عليها بمثل الألم، حتّى يصل إلى المستعمرات فيخرج مَنْ فيها إلى البلدة جماعات، ظنًّا منهم أنّ السكّان عادوا.

 يحيطون البيت، يبدؤون بالزعيق، يقطعون مصدر الماء عنه، يرشقون الحجارة على النوافذ، يطرقون الأبواب، يُشعلون النيران في الأشجار، يدمّرون، يكسرون، يخرّبون، يقلعون، ويرهبون ...

 يرعبهم بعد كلّ هذه السنين، يقتلهم أنّ شخصًا جديدًا جاء إلى هذا البيت متجاوزًا كلّ هذا الحصار.

 

 

* تُنشر هذه المادّة ضمن ملفّ بعنوان "حَبْكَة"، بالتعاون بين فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة ومركز خليل السكاكينيّ.

 

أحمد جمال

 

 

من مواليد طولكرم. يدرس العلوم السياسيّة في "جامعة النجاح الوطنيّة". ينشط في عدد من الأطر الأهليّة والسياسيّة.