عبدو الصايم

 

في بيت العزاء المقام لعبد الحليم، التزم المعزّون ارتداء ملابس ذات ألوان داكنة. مسحوا الابتسامات عن محيّاهم حال دخولهم بيت الأجر مطأطئين رؤوسهم. تعابير وجوههم محايدة، وثابتة كتماثيل صخريّة. مدّوا أيديهم نحو أهل الفقيد تباعًا، أولئك المصطفّين كسلسلة بشريّة قاتمة، فردّد المعزّون: "البقيّة بحياتكم، ويسلم راسكم".

لن تكون بقيّة حياة عبد الحليم، في رصيد حيوات أيّ فرد من عائلته. لا أدري إن كان أصلًا سيوافق على التنازل لهم عن تلك السنوات الّتي كان سيعيشها، لو لم تنزلق قدمه في حوض الاستحمام. أمّا احتماليّة أن تسلم رؤوسهم، فمشكوك بها.

عبد الحليم لم يكن شخصًا لافتًا، على الأغلب سينساه أهل الحيّ بعد شهرين على أقصى تقدير. كان شابًّا في الثلاثين من عمره، متوسّط الطول، يشغل وظيفة محاسب. باستثناء عينيه الواسعتين، كان مظهره رتيبًا، ولا يشارك في الأحاديث العامّة في المقاهي وسيّارات الأجرة. عبدو كان من الأشخاص الّذين يموتون ولم تُحببهم إلّا أمّهاتهم.

عادةً ما يخطفنا الموت برشاقة، أمّا الأصعب حقيقة فهو العزاء؛ للأحياء منّا طبعًا. وصلة أداء الحزانى تلك لا رشاقة فيها، تُنتشل فيها الأجساد الثقيلة عن المقاعد وتتصافح الأيدي، بينما يتمتم المعزّون كلمتَين على الأقلّ لمواساة أهل الفقيد. لحُسن الحظّ، يَسَّرت ميتة عبد الحليم المهمّة، فمنح معزّيه هديّة خالدة تنقذهم من عناء الموقف وغرابته. مات عبدو صباح السبت، الخامس من شهر رمضان، فأصبح بإمكان الجميع الاسترخاء والتصريح بثقة مِرارًا: "الحمد لله، نيّاله مات وهو صايم، لجنّات الخُلد إن شاء الله"، وكأنّه قدّيس مصطفى.

كانت ستكون مواساة ذهبيّة لو توفّي عبدو قبل ذلك بساعات والتحق بموتى يوم الجمعة: "الحمد لله، نيّاله مات برمضان، وهو صايم، يوم الجمعة، سبحان الله!". مرّت ثلاثة أيّام من محاولات المواساة بنيّة صادقة غالبًا، بائسة دومًا، وأمّه تستمع بهدوء، وقلبُها يعتصر.

دخلت الأمّ غرفته بعد انقضاء أيّام العزاء، مثقلةً بالحزن وغالونات من القهوة المرّة، وجلست على سريره تطالع الجدران البيضاء النظيفة. لم يسبق لعبدو أن وضع أيّ ملصق. لم يُحبّ أيّ مطرب، ولم يشتهِ أيّ عارضة. عبثًا تحاول أمّه أن تسترجع ذكرى واحدة معه في هذه الغرفة. تتذكّر فقط عناقًا واحدًا على أعتابها حين نجح في امتحان الثانويّة العامّة، وبّخته حينذاك لأنّها اكتشفت أنّه رشّ من عطر أبيه الباهظ، مجدّدًا. ندمت في أحيان كثيرة على توبيخه؛ لأنّه من بعد ذلك بات يشتري عطرًا رخيصًا يفوح برائحة الكزبرة وخشب الصندل، يثير الغثيان.

كادت تلك الرائحة تتلاشى من الغرفة في الأيّام القليلة الأخيرة. نهضت الأمّ لتشمّ ثيابه، ففتحت خزانته ببطء. لم تمضِ دقيقة حتّى أغلقتْ دفّتَيها. هبطتْ بجسدها على السرير مرّة أخرى، ثمّ غمغمت بصوت مرتعش: "مات وهو صايم".

هي تعلم الآن لِمَ قضى عبدو ساعاتٍ طوالًا من أسبوعه الأخير في غرفته، على غير عادته. نظرت إلى الخزانة بعينَين جاحظتَين، تحاول استجماع قواها للوقوف على قدمَيها، وسارت عائدة إلى الخزانة بخُطًى متأرجحة. مدّت ذراعَيها إلى الرفّ العلويّ، وأخرجت رغيف خبز، وعلبة جبنة مفتوحة، وقنّينة ماء شبه فارغة. ألقتها جميعًا في كيس بلاستيكيّ أسود، وأحكمت إغلاقه. ركضت بالكيس إلى الباب. تلفّتت حولها لتتأكّد أنّه لم يرها أحد، وألقت به في أقرب حاوية قمامة. في طريق العودة، عرّجت على الجارات لتقول: "الحمد لله، مات ابني صايم".

 

 

* تُنشر هذه المادّة ضمن ملفّ بعنوان "حَبْكَة"، بالتعاون بين فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة ومركز خليل السكاكينيّ.

 

لما رباح

 

تتعلّم عن الصحافة وفنّ الحكي منذ سنوات عدّة. حصلت على بكالوريوس في الصحافة من "جامعة بير زيت"، وهي تدرس الآن الماجستير في "جامعة أوريجون" في الولايات المتّحدة. عملت باحثةً في "مؤسّسة عبد المحسن القطّان"، وهي حكّاءة من باب الهواية.