كنزة

دينيس جونسون

 

صوت المطر الّذي يقرع النوافذ يوقظ في داخلي الكثير من الأسى النائم.

لطالما أصابني المطر بالحزن الشديد، ولطالما شعرت بقطرات المطر وكأنّها عبرات مريرة، وبأنّها دلالة على أنّ في الكون ألمًا كافيًا لجعل السماء تبكي!

 

(1)

كم كان ذلك اليوم مختلفًا! مع أنّني ظننته يومًا آخر من التظاهر بأنّ حقيقة الأمور هي كما تبدو تمامًا.

كنّا نقطن بيتًا جميلًا في مبنًى لا يسكنه إلّا الأثرياء الّذين ترى في عيونهم حظًّا كريمًا، ولدينا أربعة أطفال يلبسون ثيابًا ثمينة، ووظيفتان أنيقتان؛ واحدة لكلٍّ منّا. بدَونا كمن يمتلك هذا العالم...

عندما أقبل مساء ذلك اليوم، عاد ثابت كعادته إلى المنزل.

كان يلصق نظراته ناحيتي في ما قصدت أن أبدو منفّرة. قلت لنفسي حينئذٍ: "إن لم يفقد أعصابه لسبب أو لآخر، فإنّني أرجو ألّا أثير رغبته ثمّ أضطرّ إلى مشاركته جسدي كغانية حمقاء".

بعد أن تناول عشاءه وأملتُ أن تطلق عيناه سراح جسدي، تململ قليلًا ثمّ طلب منّي أن أرافقه إلى غرفة النوم، فتبعته مدركة أنّ مظهر شعري المبعثر وملابسي القبيحة لم يُجديا نفعًا.

سوّلت لي نفسي أملًا متبقّيًا قبل أن ألحق به. حاولت المماطلة قليلًا، لكنّني سمعته يناديني، فقرّرت التوقّف عن المحاولة. كان عليّ أن أستجيب له حالًا؛ لأنّه وإن غلبه النوم فسوف يستيقظ باكرًا لحاجته في كلّ الأحوال.

كانت الإضاءة خافتة جدًّا. بعد أن كنت قد أقنعت نفسي بالذهاب إليه، قلت له:

"أنا آسفة، سمعتك تنادي".

لا جواب.

عندما اقتربت منه لم يكن يشخر كعادته، فأمسكت بكتفه أحرّكها، لكنّني شعرت بثقل. عدت أكلّمه وأهزّ كتفيه، لكنّه كان جامدًا بلا حراك.

لطالما ظننت أنّ ثابتًا بمنزلة خالد قدرًا، وكنت أظنّه رجلًا خارقًا لا يشبه الآدميّين الطبيعيّين، فهو قويّ لا يضعف أبدًا أمامي ولا يشعر بشيء. كنت أؤمن بأنّه لا يمكن أن ينتهي. من الممكن أن يصيبه خطب ما كما ظننت في تلك الليلة، لكنّه سيعود من جديد لأسباب كثيرة، أهمّها أنّ قدري المحتوم أن أعيش عالقة معه.

أخذت أصرخ خائفة من منظره الساكن وسط الظلام، وخرجت مسرعة من الغرفة وأنا موقنة أنّها ذبحة قلبيّة، وعليّ أن أطلب المساعدة.

في طريقي إلى الخارج أدرت مقابض غرف الأطفال موصدة الأبواب، فليس ثمّة حاجة إلى إفزاع الصغار. كنت كلّي ثقة بأنّ ثابتًا سيكون بخير فور مساعدته.

 

(2)

أذكر كم كان مباغتًا لي عندما ضربني لأوّل مرّة. كنت حينذاك أحاول الحصول على اهتمامه، في ما كان هو مشغولًا بأشيائه الأكثر أهمّيّة. كان يريد أن يستعجلني في الخروج، وأنا لم أستجب له بسرعة. ولمّا استقرّت يده تصفع وجهي، لم أستطع تصديق ما حدث. ذهبت مسرعة أرتدي ملابس الخروج وأنا أردّد "لا يمكنني الاستمرار معك بعد الآن"، لكنّه لحق بي فورًا، وأخذ يعتذر قائلًا إنّه لم يكن يقصد ذلك، وإنّما كان يريدني أن أصغي إليه. وأخذ يتوسّل إليّ ألّا أترك المنزل، ويعدني أنّ ذلك لن يتكرّر ثانية. كنت حاملًا في طفلتي الأولى في ذلك الوقت. شعرت بأنّه من الممكن أن يكون صادقًا فعلًا وأنّه لن يعيدها. لم أجرؤ على إخبار أحد، وأنا أفكّر في كلام الناس وفي الطفلة الّتي لا تستحقّ أن تفقد فرصتها في عائلة سعيدة؛ لمجرّد صفعة واحدة وأخيرة!

خلال ثلاثة أشهر من ذلك الزواج كنت قد أيقنت أنّني ارتكبت أكبر خطأ في حياتي. لم يكن ثمّة انسجام بيننا، والحبّ الّذي كنت أظنّني أشعر به كان مجرّد افتتان فتاة بأوّل شابّ يظهر في حياتها. لم نكن نجد بيننا شيئًا مشتركًا، ولم يكن بمقدورنا إجراء نقاش حقيقيّ في أيّ شيء. فكنت إمّا أن أتكلّم بالطريقة الّتي تعجبه وتتماشى معه، وإمّا تكون بداية جدالات دراماتيكيّة في كلّ مرّة.

بعد أن صُعقت من تكرار تلك الحادثة، وكانت قد أصبحت دون أسف، قلت لنفسي: "حسنًا، حان وقت الطلاق".

إنّها الحقيقة. ما كان ينقص هو الحقيقة، حقيقة الجميع... أنا أردت مثل أيّ أحد أن أبقى حقيقيّة مع نفسي، ألّا أكذب وألّا أتصنّع، فتوقّفت عن محاولة إرضاء ثابت بالتظاهر بأنّني سعيدة معه. لم أكن أشعر بالسعادة معه لأسباب كثيرة، وكان ذلك لا بأس به بالنسبة إليّ، لكنّه كان ذا بأس شديد بالنسبة إليه.

وظلّ ما بدا ناقصًا منذ البداية ناقصًا حتّى النهاية.

 

(3)

بعد موت ثابت، أخذت أفكّر في ما سأفعله، مقاومةً بذلك رغبة الأهل والعائلة في أنّ عليّ العودة إلى بلدي، والعيش بالمال الّذي تركه لي ولأولاده، خاصّةً أنّه كان أكثر كثيرًا ممّا ظنّوا جميعًا. لكنّني وبعد سنوات طويلة من البُعد عن عائلتي للتمكّن من تقبّل حياتي مع ثابت، بعيدًا عن الخزي الّذي كنت أشعر به حولهم، كنت قد فقدت علاقتي بهم، ولم يعد لديّ ما أشاركهم فيه. والمال الّذي ورثته ضَمِن لي الاستقلال عنهم جميعًا. وحفاظًا على حرّيّتي الّتي لطالما أردتها، اخترت أن أبتعد عنهم جميعًا.

إنّه موسم الشتاء الآن، وما زال المطر يثير الشجن ويجتاحني بلا رحمة، كفراق حبّ كبير أو كوداع بلا أيّ مبرّر.

كنت وحيدة تسكنني ترهات لا تُعَدّ ولا تُحصى، حتّى التقيت بآسر.

بدا آسر منذ البداية مألوفًا، ذلك الشخص الّذي تشعر بأنّه سبق لك لقاؤه في مكان آخر منذ زمن بعيد. بدا متماسكًا واثقًا بنفسه في منتصف الأربعينات. كان يستمع لي، وأنا لم أعتد قطّ أن يقضي أيّ أحد معي وقتًا بلا غاية. كنت منبهرة بثقافته. أنهى تعليمه في الخارج، وكان الحديث إليه غاية في السهولة والسلاسة.

بلا الكثير من التفكير اخترت ولأوّل مرّة في حياتي أن أتبع قلبي. ثمّة شيء مختلف في هذا الرجل. هو طبيعيّ وصادق جدًّا، ومن الصعب أن تجد أحدًا هكذا، في ما أقرب الناس إليّ لم يكونوا بهذه النزاهة معي. فأنا من تجربتي مع ثابت كنت أرى كلّ الناس ملوَّثين بالشرّ الموجود في هذا العالم. كلّ الناس يرتدون الأقنعة. كلّهم يطالبونك بأن تتكلّم بطريقة معيّنة وتتصرّف بطريقة معيّنة، ولا يمكنهم تقديري كما أنا.

وقف آسر إلى جانبي مساندًا، في ما كنت أواجه عائلتي الّتي كانت تريدني أن أترك عملي وأعود إلى بلدي حيث يسكن أهلي وأهل أولادي؛ لأنّ المسؤوليّة الّتي أصبحت تقع على عاتقي صارت كبيرة، ولا يمكنني تولّيها وحدي.

أصبحت أشعر بأنّي قادرة على التعامل مع الجميع. لن أشعر بالضعف أو قلّة الحظّ؛ فأنا أستحقّ الحبّ والتقدير، ولا أشعر بالأسى على أطفالي، وأؤمن بأنّهم أصبحوا في مكان أفضل.

إنّها قوّة الحبّ. قوّة آسر طغت على كلّ القوى بما فيها قوّة المنطق.

ذلك الرجل الاستثنائيّ بدا كلّ ما كنت أحتاج إليه في حياتي؛ مليئًا بالحياة، حالمًا، داعمًا لي ومفرط الحساسيّة. كانت كمّيّة الحنان الّتي تقطر من حضوره تجعلني مأخوذة به بعد مغادرته المكان بساعات. كلّما جلست معه أكثر زادني دهشة. كنت أظنّ أنّ أشخاصًا مثله لا يوجدون إلّا في عالم خياليّ، ذلك العالم الّذي أمضيت معظم وعيي أعيش في داخله وحدي.

رويت لآسر كلّ شيء عن حياتي السابقة، واستمع لي بدون إطلاق أيّ أحكام. منحني القوّة والصبر، وكان صخرة لي في تلك المرحلة الانتقاليّة من حياتي.

كنت أثق بآسر ثقة عمياء. كنت أحدّثه عن أيّ شيء، حتّى علمت أنّه لا يريد الزواج بي.

- أنا سبق لي الزواج، ولا يمكنني الزواج بك.

- لماذا أنت معي إذن؟ إذا كان ما بيننا ليس في طريقه إلى الزواج، يجب ألّا نبقى معًا بأيّ حال. أنا أريد الزواج ولا أريد الحبّ فقط.

- أنا آسف، لا يمكنني الزواج بك.

- وماذا عن الحبّ؟

وسط كلّ التفسيرات والسيناريوهات داخل عالمي وخارجه، لم يخطر ببالي قطّ أنّني كنت أتعامل مع ثلاثة رجال في آن معًا.

بعد أن تركت آسر، عاد ثانية وهو يعتذر عن تردّده في الارتباط، وأخبرني بأنّه لا يمكنه العيش بدوني. واتّفقنا على أن نبني عملنا الخاصّ معًا، وأن نخطّط لمستقبلنا معًا.

افتتحنا "فلفل"... مقهًى صنعناه بعفويّة وتلقائيّة، في ما سخر منّا الجميع قائلين: "كيف تحاولان استضافة الناس في مكان ناءٍ كهذا؟".

كان آسر في مرحلة مختلفة من حياته. للمرّة الأولى يستطيع أن يستقلّ مادّيًّا ويثبت لعائلته أنّه متميّز بشكل إيجابيّ، أنّه متفرّد ويمكنه التفوّق على أقرانه بقدراته. كان "فلفل" بالنسبة إليه ليس مجرّد تجربة يخوضها مع امرأة يحبّها، بل مغامرة مضمونة ليصبح سيّد نفسه في العمل وبالطريقة الّتي يراها. كانت هذه طريقته في التعبير عن نفسه وعيش الحياة الّتي يريدها. كنت أظنّها تجربة نخوضها معًا، وكان آسر يراها أساس حياته القادمة بأكملها.

بلا تردّد، افتتحنا المكان الّذي أصبح آخر صيحة في أوساط الشباب. كانت عائلته داعمة للمقهى. كان يخبرني دائمًا بأنّ شراكتنا في العمل معًا تجعل ارتباطنا منطقيًّا للغاية، بالرغم من كلّ العوائق، بالرغم من وجود أطفال لدى كلٍّ منّا، بالرغم من اختلاف هُويّاتنا بين شقَّي وطننا المبعثر بين الضفّة الغربيّة والقدس.

تفجّر "فلفل" حياة وإبداعًا. زوجان لطيفان يديران المكان ذا الطابع الفنّيّ المتواضع. أصبح المكان مسبّبًا للإدمان في كلّ المنطقة، وترك آسر وظيفته ليتفرّغ للعمل فيه، في ما بقيت متردّدة بشأن تَركي وظيفتي، وظيفتي الّتي أردتها بشدّة وعملت جاهدة للحصول عليها. لكن زملائي أصبحوا مختلفين بعد افتتاح "فلفل". صاروا أكثر عصبيّة وشدّة معي، حتّى فقدت رغبتي في تلك الوظيفة. ثمّ إنّ هذه الوظيفة تمنعني من البقاء إلى جانب آسر الّذي يحتاج إليّ. عند أقرب فرصة تركت الوظيفة، وأصبحت بقرب "فلفل" وآسر طوال الوقت.

 

(4)

كان قرابة الخمسين من عمره، مشتَّتًا كأنّه يهرب من فكرة داخل رأسه، أو أنّه يتلافى ورطة قادمة كالعادة. ربّ عائلة وأب مثاليّ لخمسة أطفال. صابر رجل محبَّب عند الجميع في العائلة. طيبته وقدرته على تقبُّل الآخرين تجعلانهم يتغاضون عن كسله معظم الأحيان. لكن كونه يبدو مقتنعًا بأيّ شيء تقوله له يجعل من السهل جدًّا عليك أن تشعر برغبتك في مساعدته طوال الوقت. في الواقع هو متفهّم وسهل التعامل معه لدرجة أنّه لا يفكّر في نفسه أبدًا. هو على استعداد ليمنحك أكثر ممّا يمنح نفسه طوال الوقت. كان صابر يشعر بالسعادة فقط عندما يتسبّب بسعادة مَنْ هم حوله.

في شبابه كان جامحًا، يفعل ما يحلو له، وعائلته كانت دومًا تحبّه من فرط طيبته، وذلك جعلها تشعر بالحاجة إلى حمايته دومًا. كان أفراد العائلة يتوقّعون أنّ طيبته وبراءته ستجعلانه عرضة للابتزاز والمراوغة. لم يكن أحد فيهم يخطر بباله أنّه عميق التفكير ولديه القدرة على التمييز، لكنّه مخلوق قلبيّ، قلبه يدلّه على الأشياء. لم يتمكّنوا يومًا من احترام خياراته أو حكمه على الأشياء؛ لأنّ حبّه لهم لم يسمح له يومًا أن ينفّذ رغبته المطلقة مهما كان مقتنعًا بها.

عندما عاد صابر إلى عائلته بعد سنوات من التحرّر في الغربة، كان في الثلاثينات من عمره. كانت العائلة تحبّ أن تراه مستقرًّا وعاديًّا كبقيّة رجال العائلة، كإخوته وككلّ الشباب الّذين في سنّه. كان صابر في تلك الفترة مُتخَمًا بمغامراته وتجاربه المتعدّدة، وأراد أن يُسعد العائلة ويدخل في أجوائها بعد تقزّزه من الغربة والوحدة، فوافق على الزواج، غير مهتمّ بمواصفات العروس المنتظرة. أرادهم أن ينتقوا له إيّاها.

كانت العائلة كالعادة مستعدّة لمساعدة صابر؛ "ابنة خالك البريئة الجميلة". أحبّ صابر الفكرة، فهي من جهة أمّه. تعيش في الخارج، وبلا تجارب سابقة، وتبدو غنيّة. كان صابر معتمدًا على العائلة مادّيًّا، وهي عائلة مالها مشترك، وكان يقدّس أمّه ويستمتع بإسعادها أكثر من أيّ أحد آخر في هذه الدنيا.

مع أنّ العروس لم تكن كما توقّعها، ولا كما أكّد له الجميع، بقي يستمع لتبريراتهم في هذا الأمر: إنّها لا تزال صغيرة في السنّ، وعليك أن تكون صبورًا. كن محبًّا لها وحنونًا، وستصبح كما تريد تمامًا.

بعد زواجه بفترة طويلة، ولأنّ صابرًا كان يملّ من تكرار المحاولة، اقتنع بأنّ هذا هو الزواج في واقعه، وعليه أن يتقبّل هذا الواقع.

في الحقيقة، صابر لم يقتنع يومًا بأنّ الزواج يعني الحبّ أو الانسجام، إنّه فقط لإنشاء عائلة، لإرضاء العائلة! بالنسبة إلى صابر، إن كان الكلّ سعيدًا، فسيكون سعيدًا بشكل تلقائيّ ... "ما دمت أشبه الآخرين، فسأكون بخير".

كان صابر يشعر بحاجته إلى عائلته دائمًا، وخاصّة من ناحية مادّيّة، لكنّ المشكلة الحقيقيّة كانت حاجته إلى رفيق حياة. كان يحتاج إلى امرأة يشاركها قلبه، روحه وجسده، لكن ما يدريك أنت يا صابر؟ العائلة تدري أكثر منك.

كان صابر رجلًا واقعيًّا ويحبّ الأطفال كثيرًا. أصبح لديه أطفال. الحياة جميلة، ولديه حرّيّته الخاصّة الّتي يعيشها دون اعتراض من العائلة أو الأولاد أو أمّهم. ومقابل أنّه لا يطالبها بأيّ شيء، هي لا تطالبه بأيّ شيء.

كان انفصالهما يمنحه حياة جديدة، يختار مغامراتها وشخوصها كما يحلو له.

لم أنتبه لوجود صابر في أوّل مرّة قابلته فيها. كان جزءًا من عامّة الناس، حتّى كاد يكون غير مرئيّ.

لم يخطر ببالي قطّ أنّ صابرًا على وشك أن يصبح جزءًا من شراكتي مع آسر. صابر الّذي لا يمكنه أن يتصرّف وحده، عليه أن ينتج الكثير من المال وعلى وجه السرعة.

لم أكن أخاف شيئًا ما دام آسر كان معي فيه، لكنّه كان يتركني مع صابر طوال الوقت، صابر الّذي أصبح شريكًا يسيطر على "فلفل".

كان آسر يريد منّي أن أظلّ أحارب لأجل هذا الحبّ وحدي.

لم يعد بإمكاني البقاء إلى جانب آسر بوجود صابر، مع حاجته هو و"فلفل" إلى وجودي بجانبهما، فطلبت منه أن أترك "فلفل" لصابر ويبقى هو وحده. لقد رأى آسر ذلك تخلّيًا منّي عنه وعن كلّ ما كان بيننا، فهدّدني بالرحيل.

رحلت أنا قبله، ولم ألتفت ورائي قطّ.

لا أمانع في أن تواصل السماء بالبكاء وتنتحب. لم أعد قادرة على السماح لأيّ متطفّلين بالدخول إلى عالمي بعد اليوم والعبث بخيالاتي. ما زال قلبي مزدهرًا بالحبّ الّذي عرفته من حبّي وقبولي لنفسي، وهو أهمّ من أيّ حبّ من أيّ مكان آخر.

دعها تمطر، وإن لم يكن آسر مَن هو مقبل على هذا العالم، فلا يمكن صابرًا أن يتسلّل إليه بأيّ حال. صرت أعرف أنّه ليس بآسر، ولآسر أن يتوه وأن يهزم كما يحلو له، وسيعرف طريقه إلى عالمي، طريقه هو وحده.

 

 

* تُنشر هذه المادّة ضمن ملفّ بعنوان "حَبْكَة"، بالتعاون بين فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة ومركز خليل السكاكينيّ.

 

وفاء سلام

 

 

تعمل مديرة مركز لتعليم اللغة الإنجليزيّة، حاصلة على شهادة في الأدب الإنجليزيّ، ودبلوم ترجمة. تكتب منذ المرحلة الثانويّة باللغتين العربيّة والإنجليزيّة. نشرت الشعر في "جريدة القدس" وقصّتين فازتا بجائزتَي نشر: واحدة بالعربيّة "وطن"، وأخرى بالإنجليزيّة "Filfil".