أمجد ناصر: خوف الشاعر من أن يتلفّت وراءه فيرى نفسه

 

"على الشعر أن يفاجِئ بالإفراط المحبّب لا بالتفرّد، عليه أن يصدم القارئ بتعبير لغويّ عن أفكاره العليا، على أن يبدو أنّه ذاكرة" جون كيتس – "عن البديهيّات ودهشة الشعر".

 

شرعيّة جماليّة لقصيدة النثر

ليس بالإمكان تجاهل العلاقة بين مفردات شاعر وثيمات نصوصه من جهة، وحضور سيرته وفيزياء ذلك الحضور من جهة أخرى؛ بمعنى ما يتعلّق الأمر بما يحمل وجه الشاعر من روح، أو إذا كان الشاعر أو الفنّان – بعامّة - يحمل وجهًا كافيًا لحمل روحه. في رائعة جيمس جويس "صورة الفنّان في شبابه"، يشرح بطل القصّة، سيتفن، نظريّته الجماليّة لصديقه لينش، فيقول إنّ الحسّ الفنّيّ التراجيديّ وجهٌ ينظر باتّجاهين: أحدهما باتّجاه الشفقة والآخر باتّجاه الذعر. الشفقة تأسر العقل وتوجّهه إلى صاحب المعاناة، والذعر يأسر العقل أيضًا لكنّه يوجّهه إلى سبب المعاناة، أو بتعبير خاصّ وفريد للشاعر أمجد ناصر، وبكثافة فلسفيّة تليق بكاتب على درجة رفيعة من التأمّل والفهم: "خفتُ أن أتلفّت ورائي فأراني".

تضعنا الإحداثيّات والنقاط لارتكاز ذلك التلفّت، أمام شاعر راكَمَ على مدى سنين طويلة، خبراتٍ شعريّة وجماليّة ومعرفيّة لا تنحصر، بالتأسيس لشرعيّة جماليّة لقصيدة النثر العربيّة (بتعبير الشاعر الراحل محمود درويش)، بل تتجاوزها إلى خلق ثيمات وخيارات شعريّة حيّة ومستدامة، ورفع سقف تلقّي الشعر عن طريق مخاطبة القارئ، بطاقة سرديّة عميقة تأخذ بالنثر والشعر إلى منتهًى واحد، حيث يجمعهما توتّر لذيذ، هو توتّر الحالة الشعريّة.

 

مدينة وبادية

هنا نتكلّم عن الذاكرة في قصيدة أمجد ناصر، كمنجم لغويّ شعوريّ غنيّ، استفاد منه الشاعر في خلق حسّ تراجيديّ معقّد، وثيمة مكرّرة وراسخة في قصائده، منذ السبعينات حتّى اليوم.

الذاكرة في قصيدة أمجد ناصر فعل ديالكتيكيّ جادّ، بلا حكم قيميّ أو تلاعب عاطفيّ. ثمّة شفافيّة مريحة وحسّيّة تحيل إلى خيارات شعريّة أصيلة وغير مساومة؛ فمنذ أيّامها الأولى في الأردنّ، ثمّ في بيروت، حملت معادلة الوطن الخاصّة بأمجد ناصر (يحيى النعيمي) فرصًا جماليّة أكبر، وقيودًا أخلاقيّة وأيديولوجيّة أقلّ من تلك الّتي واجهها شعراء فلسطينيّون معاصرون، ممّن كتبوا القصيدة الغنائيّة الوطنيّة في الفترة ذاتها، فعلى الرغم من وفرة مفردات النوستالجيا الوطنيّة في العالم العربيّ، إلّا أنّ قاموس الشاعر جنح في جوهره ومُجمله إلى العالم الواقعيّ المادّيّ، وأنسنه ورمْنَسَه بشكلٍ أقلّ صراخًا وعسكرةً من القصيدة الّتي وُلدت على الضفّة الأخرى، أو في ظلّها المجازيّ. هناك أخذَت فكرة الرعويّة والتضادّ بين المدينة من جهة، والريف والبادية من جهة أخرى، مدًى شاسعًا للجدل والإبداع. وهناك بدأت تمثيلات التذكّر تخطّ مساراتها الخاصّة في الشكل والمضمون.

 

مدّ وجزر

في النصوص الأولى، الذاكرة مدّ وجزر، لعبة المخيال غير محدّدة، وليس للواقع تشكيلات نهائيّة أو صلبة. "انحسار الرضا" والنزعة العدميّة ثيمة مهمّة في غنائيّات عمّان/ بيروت.

"لا نجمة في الفضاء الّذي يكسر الظّهر

منذ انحسار الرضا

صحيح!

ولكنّه كفن واحد ثمّ ترتاح!" (مديح لمقهًى آخر، 1978).

بعد ذلك بسنوات، الصفات لم تتغيّر، والأمل بتغيّر الصفات لم يتغيّر أيضًا:

"أرأيتِ؟

نحن لم نتغيّر كثيرًا

وربّما لم نتغيّر أبدًا:

الألفاظُ المشبعةُ

النبرةُ البدويّةُ

العناقُ الطويلُ

السؤالُ عن الأهل والمواشي

الضحكةُ المجلجلةُ

رائحةُ الحطبِ القديم

الحطبِ المخزَّنِ في الحظائر

ما تزالُ تعبقُ في ثيابنا". (منفى، 1982).

 

بين الواقعيّ والتجريديّ

قدرة شاعر ما على المصالحة، وتوفير التوازن بين الواقعيّ والتجريديّ في نصّ شعريّ، بلا نشاز في الصورة أو المجاز، ليست بالأمر الهيّن. قصيدة أمجد ناصر رائدة في هذا المجال، وقد تأثّر بأسلوبه الكثير من الشعراء في ما بعد:

"لأنّني ما نجوت من أمل حتّى وقعت في غيره وما بشّ

لي قناعٌ إلّا واتّخذته نجيًّا فقد متّ لا كما يموت

الماشي مرَحًا بين أقرانه اليقظينَ ولكن كمن مات

كثيرًا، فلمّا جاء الموت ضاحكًا تحت قنزعته الخضراء

وأسبل عينيّ على شعاع الوداع الطفيف لم أُصَدّقْهُ

فقد كنت أظنّ الموت جلجلةً، ’صرخةً عظيمةً تودعُ كلَّ ما استسلمنا

إليه فاغتنى وهَجَرَنا‘

لا مجرّد غفوةٍ في سريرٍ قاحلٍ

سريرٍ وحيدٍ

في عراء البياض." (أطراف النهار: إلى جميل حتمل).

 

إلى مكان مرتفع

الذاكرة تدور في مواضع أخرى، وتلوي عنق الزمان/ المكان. في قصيدة قديمة له بعنوان "حديث عاديّ عن السرطان" (مُهداة إلى صالح العزاز)، تتخطّى طاقة الشاعر السرديّة كثافة الغناء، وتحفر في الذاكرة بشكل حلزونيّ؛ إذ يمسك الشاعر برأس المستقبل ويجعله نقطة ارتكاز، ثمّ يعود به إلى الوطن والأمّ، وربّما الجنّة:

"لست متأكّدًا أيضًا من أنّ الشعراء قادرون على التنبّؤ بموتهم، على رغم أنّ سيزار فاليخو مات في باريس وفي يوم ماطر، تمامًا كما تنبّأ بقصيدته ’حجرٌ أبيضُ على حجرٍ أسود‘، وأنا أتوقّع في هذه القصيدة الّتي أكتبها الآن أن أموت بلندن في يوم ماطر (يوم ماطر في لندن؟ يا لها من نبوءة!) موصيًا، منذ اللحظة، أن أُدفنَ بالمفرق قرب أمّي، الّتي ماتت وهي مقتنعة بأنّه لن يضمّنا حيّز ذات يوم؛ فالجميع يعلم أنّها ستذهب إلى الجنّة الّتي لن تطأها قدماي".

وهو بذلك يسحب حبل الذاكرة إلى مكان مرتفع، حيث النبوءة في صورة قريبة من صورة أيّوب النبيّ المكروب، أو من صورة الشاعر "راهب اللامرئيّ"، بتعبير والاس ستيفنز. في قصيدة قديمة، يناشد الشاعر بشكل طلليّ حديث أقرانه بألّا يتركوه وحيدًا يسمّي مذابحه، ويعدّ الندوب الطويلة في وجه أمّه وضحة، الّتي فارقتها النبوءات:

"ولا تتركوني

أسمّي المذابحَ من أرض جلعادَ

حتّى قميصي الأخير،

أعدّ انتهاكات لحمي،

وأمّي الّتي فارقتها النبوءاتُ

أعدّ الندوب الطويلة في وجهِ،

وضحةَ" (صحراء عودة أبو تايه، 1979).

 

 

د. أشرف الزغل

 

 

شاعر وباحث من فلسطين. له أربع مجموعات شعريّة؛ 'دواليب الرماد' (بالاشتراك مع عبد الرحيم الشيخ)، و'نوم كما أرى'، و'صحراء في المترو'، و'صورة العائلة البشعة'. حصل على جائزة الكاتب الشابّ – حقل الشعر، من مؤسّسة عبد المحسن القطان عام 2001.