ديوان "الحبّ والضياع": غزّة تتحدّث شعرًا بالإنجليزيّة

لوحة للفنّان محمّد الحاجّ

.

آه يا صغيري، الّذي لم يتخطّ الثالثة عشرة من عمره

كنت أتمنّى لو أنّ تلك الرصاصة أضاعت طريقها عن رأسك

بينما أنت في طريق العودة لحلمك

كنت أتمنّى أن تعود مجدّدًا لأمّك

بعد يوم دراسيّ متعب

تشاهد مسلسلك الكرتونيّ المفضّل

تتناول غداءك

وتعلّق آمالك على الرفّ

ثمّ تضع رأسك في سلام حالم

 

كان الدم لا يزال رطبًا في الحيّز الّذي اختارته رصاصة القنّاصة الإسرائيليّة، لتنهي حياة طفل فلسطينيّ، ونُواح الحزن يتردّد في غرفة التشييع الّتي تعجّ بالوجوه الجامدة، وقد أحالها الحزن إلى قوالب جبسيّة، بلا حركة تفتق عن ملامحها، حين كتب الشاعر محمّد موسى قصيدته باللغة الإنجليزيّة "رثاء آخر"، الّتي وُلدت بعد ساعات من قتل الطفل محمّد أيّوب - 14 عامًا – خلال مشاركته في مسيرات العودة وكسر الحصار على حدود غزّة في نيسان (أبريل) الماضي.

 

غلاف الديوان من تصميم الفنّانة البريطانيّة ريتشل غادستن

 

الـقصيدة الّتي شيّدت نفسها من لحظات الطفل محمّد الأخيرة - والمقطع الّذي يفتتح هذه المقالة مترجم منها – وجدت طريقها مطلع هذا العام إلى "قاعة شولمان" في "جامعة أوكسفورد" البريطانيّة، إلى جانب قصائد شعراء غزّيّين آخرين يكتبون باللغة الإنجليزيّة، حيث قرأها شعراء أجانب احتفاءً بصدور أوّل ديوان شعريّ بالإنجليزيّة يصدر من غزّة إلى العالم، عنوان "الحبّ والضياع".

التقت فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة بعضًا من القائمين على التجربة والمشاركين فيها، وتحدّثت معهم عن التجربة.

 

مجتمع شعراء غزّة

يتألّف ديوان "الحبّ والضياع" من مجموعة قصائد لشعراء شباب من غزّة، هم: أحمد سالم، وأمل صقر، وغادة هنيّة، ومحمّد الكرنز، ومحمّد موسى، وهو أوّل إصدار لفريق "مجتمع شعراء غزّة"، الّذي شكّله كتّاب اللغة الإنجليزيّة في غزّة في أيّار (مايو) من العام الماضي، وبات الفريق الّذي انضمّ إليه أكثر من 30 شابًّا، تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عامًا، وبات يعمل مؤخّرًا كمنصّة شبابيّة فاعلة للكتّاب والشعراء الشباب، الّذين يكتبون بالإنجليزيّة والعربيّة أيضًا. يمارس الفريق نشاطاته الاجتماعيّة والتفاعليّة من إمكانيّات أعضائه الذاتيّة، وينظّم أمسيات شعريّة بشكل مستمرّ في القطاع.

يصف مؤسّس المجموعة ومشرفها محمّد موسى، أمسيات الشعر بالإنجليزيّة لفُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، بأنّها "محاولة لاختراق جمود الاهتمامات المجتمعيّة في غزّة وهيمنتها"، ويرى أيضًا "أنّ الاهتمام الّذي يبديه الحضور الآخذ بالاتّساع في كلّ مرّة، يدلّل على أنّ ذلك ممكن؛ كأن يكون الشعر باللغة الإنجليزيّة في مكانة متكافئة نسبيًّا في غزّة مع العربيّة، وهو ما سيحفّز هواة الإنجليزيّة بشكل أكبر على دفع إبداعهم إلى العلن؛ لوجود حاضنة شعبيّة".

 

تغيير عبر الشعر

أمّا الفكرة الّتي سبقت إنجاز ديوان "الحبّ والضياع"، أو "الهُويّة الرحّالة لغزّة"، كما يصف الفريق تجربتهم فيه، فكانت في إنشاء جسم يجمع هواةً لأمر غير مألوف، في مجتمع ذي اهتمامات بعيدة عادةً عمّا يتطلّع إليه الفريق، نظرًا إلى أثر الأوضاع الخاصّة الّتي يعيشها القطاع، ظروف شكّلت اهتمامات سكّانه وأولويّاتهم. إلّا أنّ الفريق تحوّل مؤخّرًا من فكرة إلى بوّابة تشجيع لكثيرين كانوا يبحثون عن فرصة مشابهة، يُظهرون عبرها ما يكتمون. يقول محمّد حول ذلك: "الفكرة الّتي اعتقدنا أنّها ستلقى تهميشًا، حظيت بالامتنان من كلّ الّذين شاركوا، بعد أن وفّرت لهم جوًّا من التشجيع، كان ذلك تكرار قولهم إنّهم تعبوا من السلبيّة الّتي أصبحت كالتخدير، وأنّهم يبحثون عن حياة حيويّة".

 

محمّد موسى، مؤسّس "مجتمع شعراء غزّة"

 

الشعر - كما يقول محمّد - وسيلة ناجعة في تغيير ولو شيء بسيط في عيش شابّ فلسطينيّ داخل غزّة، وهو أداة مهمّة في دفع السوداويّة المطبقة على هذا المكان، وهنا كانت الرغبة في دفع الحيويّة داخل مجتمع أنهكه الركود السياسيّ، وهي النقطة الأكثر تحفيزًا لفريق "مجتمع شعراء غزّة"، للمحافظة على استمراريّتهم، وأن يخطوا في مشوارهم الّذي شقّه إنتاج ديوان "الحبّ والضياع".

 

قصائد حرّة

ينفّذ الفريق دوريًّا فعاليّات تحثّ الشباب على مشاركة كتاباتهم مع الجمهور، وتستهدف هذه الفعاليّات - بخاصّة - الشباب الكتّاب الّذين لم يقرؤوا نصوصهم أو قصائدهم أمام جمهور، حتّى يساعدهم الفريق على كسر هيبة المسرح والجمهور، ويدفع بإنتاجيّتهم الأدبيّة إلى الأمام؛ والفريق يرى أنّهم رغم كلّ المعيقات الّتي يعانيها الشباب الفلسطينيّ في غزّة، فإنّهم يشعرون بأنّهم يتحمّلون مسؤوليّة جماعيّة في مكان متعطّش للفنّ.

يقول أحد أعضاء الفريق، الكاتب بسمان الديراوي (30 عامًا)، لـفُسْحَة: "المشاركة المتجدّدة في الأحداث الّتي ينظّمها الفريق شكّلت لنا تجربة مثيرة وغنيّة، لم نكن معتادين عليها من قبل، وهذا سيدفعنا أكثر إلى تحرير الخيال من القيود الوهميّة الّتي كنا متعلّقين بها. المشاركة في أوّل ديوان باللغة الإنجليزيّة، كانت خطوة جديدة من الإلهام تشرع أبوابه أمامنا، وقد حرّرت قصائدنا من الجدران الّتي وُلدت بينها، الآن أصبحت حرّة، وقد غادرت غزّة الشائكة، لتكون خطابًا للعالم".

 

غياب الرعاية الرسميّة

تغيب عن الفريق الرعاية الرسميّة من المؤسّسات الفلسطينيّة، كوزارة الثقافة مثلًا، إلّا أنّ المظلّة الّتي أسهمت في تحقيق جزء ممّا يطمح إليه الفريق، كانت الاهتمام والاحتضان الخارجيّ من شعراء أجانب بارزين، من مختلف دول العالم، وقد كان ذلك سببًا في إصدار الديوان الأوّل للفريق، الّذي عرّفه محمّد موسى قائلًا: "هنا بين دفّتَي الديوان، تجد حياة المخيّمات والرحيل، هنا حلم سابح في بركة ضيّقة، هنا حنين الضرورة إلى العودة إلى الماضي ورغبتها، بعيدًا عن اليأس المتلبّس في المكان"، كلّ هذه القصائد تنطق عبارة واحدة، حسب ما يضيف محمّد: "إنّ هذا المكان رغم كلّ ما فيه، يختزن الحبّ والأمل، معًا سنعلن من فوق الركام ولادة حبّ أبديّ في غزّة".

 

بسمان الديراوي، أحد الشعراء المشاركين في المشروع

 

صدر ديوان "الحبّ والضياع" بغلاف تبرّعت بإعداده الفنّانة الإنجليزيّة ريتشل غادستن، وقد حضر حفل التقديم إضافة إلى محبّي الشعر، والمتضامنين من بريطانيا، شخصيّات بارزة كالمؤرّخ اليهوديّ أفي شلايم، والشاعرة الفلسطينيّة هنا حازم، والموسيقيّ والشاعر الإنجليزيّ مارك وودارد، الّذي قدّم الديوان بنصّ عنوانه "موسيقى القلوب المنكسرة"، وترفق فُسْحَة ترجمته: "هذا الديوان يحضر الأصوات اليافعة من غزّة، الّتي يجب أن نستمع لها، وهي أصوات أقرب إلى موسيقى القلوب المنكسرة، الّتي ترفض الاستسلام وتصرّ على الغناء، قصائد تختزل إنسانيّة شعب وواقعه، يعاني القمع والاستبداد، هذه التفاصيل الواضحة الّتي وصلتني، كأن يمسك شخص يدك ويمدّها إلى خارج النافذة، لتشعر بالمطر المنهمر بعيدًا عنك. اقرؤوا هذه القصائد الحماسيّة والمعبّرة؛ وآمنوا في ذلك البعث لمستقبل مليء بالحيويّة".

 

من قصائد الديوان مترجمةً إلى العربيّة:

 

كانت هناك زهرة | غادة هنيّة

كانت هناك زهرة

تراقبني

وأراقبها

كنّا نسترق النظرات

تضحك لي

وأضحك لها

حكاية عشق نُسِجت

على حدود الوطن

حكاية جميلة حدّ العذوبة

صلّينا لأجل الحرّيّة

صلّينا كي يحيطنا الله بحمايته

كم تمنّيت لو أنّ اللقاء طال، ولو قليلًا

كنت سأخبرها الكثير

كنت سأروي لها قصّتي

قصّتي الغريبة

الغريبة جدًّا

ودّعتُها

وودّعتني

تركتها تبكي

كسرت قلبي

تلك الجميلة

همستُ لها

لنا لقاءٌ آخر، لا تحزني

 

 

في الحبّ | محمّد الكرونز

في الحبّ،

تسقط الأقلام

ويسقط الحبر،

تسقط الكلمات،

ويسقط المنطق

في الحبّ،

يسقط صوتي

وكقطعة ثلج خائفة داخل كوبٍ مثقوب

تسقط حواسي،

واحدة تلو الأخرى،

تسقط حواسي

كقطرات ماء باردة على قلبي.

في الحبّ،

يسقط كلّ شيء،

إلّا قلبي

يقف متأرجحًا، مترنّحًا من على حافّة الهاوية.

في الحبّ،

يسقط كلّ شيء،

إلّا قلبي

يبقى دائمًا

مثل الثمل الّذي أفقده الشرب صوابه،

يبقى دائمًا

فاقدًا صحوته

خائفًا من السقوط

 

 

عمر موسى

 

 

صحافيّ من غزّة. خرّيج قسم الإعلام في جامعة الأزهر. يكتب في عدد من المواقع الفلسطينيّة والعربيّة.