قصص تشبهنا: سعاد العامري من "شارون وحماتي" حتى "دمشقي"

سعاد العامري

.

عندما سمعت بـ "شارون وحماتي" (2007)، ظننت أنّه كتاب سياسيّ "آخر"، فلم أهتمّ بقراءته، حتّى سمعت إحدى محاضرات سعاد العامري، سردت فيها كيف أصبحت كاتبة بمحض صدفة. ضحكت يومذاك، لكنّي قرأت الكتاب أيضًا، ومن بعد ذلك "مراد مراد" (2011) و"غولدا نامت هنا". مؤخّرًا، قرأت آخر إصدارات العامري "دمشقيّ"، الصادر عن "المتوسّط"، ولشغفي بتعرُّف ترجمات الكتب وتنقُّل الكاتب من لغة إلى أخرى، كنت قد اطّلعت عليه بنسختَيه العربيّة والإنجليزيّة؛ لأفهم أنّ روح الكاتبة المرحة في الكتابة تصل إلى قارئها لبساطتها، رغم أنّ القصص فيها تحمل في طيّاتها ما "يحطّم الجبال". ولم أفهم أهمّيّة هذا السرد القصصيّ السلس والساخر من حين إلى آخر، حتّى عشت سنوات في الولايات المتّحدة مُحاطة بأشخاص أكبر همومهم اليوميّة التخطيط لـ "صفّة السيّارة"، وكيفيّة التخطيط لـ "مشروع" قطف ليمونة من ساحة المنزل لإعداد العصير، متفاجئين من إمكانيّة دمج البندورة والخيار لتكوين سلطة، وأنّنا نقطف ونعصر الليمون يوميًّا وعفويًّا، دون أن يكون ذلك في دفتر الأجندات.

 

شموليّة "القراءة والكتابة"

لا تخضع العامري في كتابتها لقواعد محدّدة، الأمر الّذي أكّدته في توقيع كتابها "دمشقيّ"، الّذي جرى في "مقهى فتّوش" في حيفا قبل أيّام؛ إذ تقول إنّها لا تكتب بشكل يعتمد كتابة أدبيّة أو قواعد لغة محدّدة: "أنا بكتب كيف بحكي... إذا إمّي حكتلي ‘تضربي‘ مرّتين، بكتب بنفس الصفحة: تضربي، تضربي".

 

 

في مادّتهم عن توسيع مفهوم "القراءة والكتابة" المنشورة عام 1996، تحاول مجموعة من باحثي القراءة والكتابة واللسانيّات، "مجموعة لندن الجديدة"، تحاول إعادة تعريف هذا المفهوم ليتوسّع أكثر من المفهوم التقنيّ للقراءة والكتابة، الخاضع لمعايير فوقيّة وأكاديميّة. من خلال هذا المفهوم، فإنّ القراءة والكتابة ليس فقط أن نقرأ ونكتب الكلمات، وأن نتقن القواعد، وأن نتّبع معايير محدّدة لما هو "أدب" أو "قواعد"، إنّما أن ندرك ونتعلّم أيضًا قراءة وكتابة محيطنا من رموز، وجغرافيا، وتاريخ، وعمارة، وغيرها الكثير. هذا المفهوم، "القراءة والكتابة"، لا يمكّننا فقط من أن نبدع، بل أن ننظر أيضًا إلى المشاكل حولنا بمنظور شامل متشابك.

تمثّل - في رأيي - إصدارات العامري، ولا سيّما "دمشقيّ"، نموذجًا لهذه الشموليّة لمفهوم "القراءة والكتابة"؛ إذ لا تخضع للمعايير الأدبيّة الصارمة من حيث الكتابة والسرد، ومن جهة أخرى دون أن تخوض في أيّ نظريّات حول "تفكيك الاستعمار". تتنوّع المضامين فيها لتعلّمنا أن نقرأ تاريخنا وقصصنا، ليس بصفتها "حقائق" فقط، إنّما مساحات وتجارب أيضًا، بحلوها ومرّها، غنيّة بالتاريخ والثقافة والفنّ والفلاحة والسياسة، دون أيّ رومانسيّات، وأن ندرك المعاني في قصص حياتنا وممارساتنا اليوميّة، وعدم تجريدها من الحياة.

 

أزمنة الشام

 تنقلنا سعاد العامري في كتبها إلى أزمنة تتخالط ما بين الماضي والحاضر، تتراوح مدّتها بين اللحظة ومئات السنين. ما بين الحديث عن الحصار على رام الله في اثنين وأربعين يومًا، من خلال قصص تبادلتها عبر الرسائل الإلكترونيّة مع أصدقائها في "شارون وحماتي"، وبين "مراد مراد"، حيث تروي مرافقتها للعمّال الفلسطينيّين من الضفّة الغربيّة إلى "بيتاح تكفا" مدّة 18 ساعة عبر الحدود، متنكّرة في زيّ رجل، لتكشف تفاصيل صراع البقاء في هذه الطريق الشاقّة، ومن ثَمّ "غولدا نامت هنا"، لتتحدّث عن بيوت القدس، والحياة فيها، وتهجير أهلها خلال نكبة عام 1948، حتّى "دمشقيّ"، لتروي قصص عائلة البارودي في بلاد الشام، مدّة تصل نحو 150 عامًا.

 

 

إنّ هذا التنوّع بالخطّ الزمنيّ يعبّر في رأيي عن الغنى في ثقافتنا في بلاد الشام: التجارب ذات الوتيرة السريعة، تارة بحكم الأدرينالين المتصبّب في أجسادنا عند الخطر أو الدخول في حالة "Fight or Flight"، وتارة تسير ببطء شديد، وحضارتنا الممتدّة عبر آلاف السنين، الّتي لا يمكن حصرها بفترة زمنيّة محدّدة، وتشتُّتنا عبر أزمنة وأمكنة مختلفة تنعكس في تجارب حياتنا اليوميّة بصفتنا فلسطينيّين وناسًا من بلاد الشام الكبرى.

في "دمشقيّ" مثلًا، تركّز العامري على القصص الشخصيّة بدل الرواية الجماعيّة، لتحكي تفاصيل العائلة المتناقلة عبر الزمان والمكان والأجيال. إنّ هذه القصص تشبهنا وتشبه دفتر يوميّاتنا، في محيط نتصرّف فيه على أنّ كلّ شيء على ما يرام لانشغالنا بحياتنا اليوميّة؛ فيجنّ جنوننا عندما نعيش في محيط "مريح" نكتشف من خلاله أنّ حياتنا - نحن الفلسطينيّين أو الناس في بلاد الشام - فيها من الجنون الكثير؛ فمفهوم الزمان والمكان لدينا مقلوب ظهرًا على عقب، بحكم ما شوّهه الاستعمار لبلادنا، وما نتج عن ذلك لاحقًا "وقريبًا". 

 

الخيال... الأمل

أمّا الخيال، فيُوظَّف في قصص العامري سردًا للماضي والحاضر والمستقبل، من خلال وصف الأماكن والشخصيّات، ومن خلال عودتها إلى صور من الماضي لعائلتها، تعيد سعاد العامري رسم هذه الصور لنا.

 

 

إنّ توظيف الذاكرة الشخصيّة هنا، ما هو إلّا أساس مهمّ من بناء الخيال الإبداعيّ الفرديّ والجماعيّ، ويساعدنا الخيال على التخطيط والتجريب، يساعدنا أيضًا على أن نضع أنفسنا في مواقف مختلفة، فيها قد نكون أبطالًا أو قد نكون معرّضين للأذى، قد نكون فيها أقوياء وقد نكون ضعفاء، يساعدنا على أن نكون في أدوار مختلفة، أن نعيشها وأن نجرّبها. كما يقول جيمس باول جي: "أهمّيّة الخيال كونه قاعدة أساسيّة لتطوير قدرة الإنسان على التخطيط، والافتراض، والاستعداد، والتقييم، والأهمّ من ذلك، الأمل". في السياق الاستعماريّ، ثمّة أمثلة عديدة على تحديد الاحتلال للخيال، على سبيل المثال: تطلب من طفل في رام الله أن يتخيّل رحلة إلى القدس، فتكون الحدود والأوراق والجنود ورجال الأمن حاضرين جميعًا، فيحدث أن يقول لك الطفل "معيش تصريح". في مثل هذا المثال، يكون الطفل قد كوّن شبكة معلوماته وبناها، بناءً على حضور الاحتلال فيها؛ وعلى ذاك فإنّ للقصّة - والرواية الشعبيّة - القدرة على تعزيز الخيال، وتفكيك ما فيه من تقييدات، لتعطينا أفرادًا ومجتمعًا أدوات نتخيّل فيها مستقبلنا، دون تقييدات الذاكرة أو تقييدات تجارب حياتنا اليوميّة.

 

كبّة في قصر البارودي

أخيرًا، إنّ الوصف الدقيق للعمارة والجغرافيا الحاضرتين في كتابة العامري، ينقل القارئ إلى هذه الأماكن؛ فيختلط فيها الماضي والحاضر والمستقبل. وتوظّف العامري خلفيّتها الأكاديميّة في العمارة، لتكون جزءًا من قصصها - عن قصد وغير قصد - فيتنوّع الوصف الدقيق في التفاصيل: الروائح، والمشاهد والصور، والنقوش، والكلام ومعانيه، والقوى بين أفراد العائلة والمجتمع، وحتّى بين الرجال والنساء، والطقوس المتّبعة عند الحديث عن حدثٍ ما تلاؤمًا مع السياق والزمان، وغيرها الكثير. مثلًا في "دمشقيّ"، تداخل العمارة والجغرافيا في السرد يخلق الحياة للشخصيّات والأماكن في القصص المحكيّة؛ فتشعر مثلًا كما لو أنّك تأكل أحد "أطباق الكبّة" في قصر البارودي، أو كأنّك تتحمّل "عضّة المعلّمة لك عندما أخطأت في كتابة إملاء كلمة ’الحمار‘ في غرفة الصفّ المكتظّة".

 

 

في هذه الإصدارات تتحوّل البيوت، والقصور، والحقول، والأسواق، والمدارس، إلى أماكن تعجّ بالحياة، تحكي فيها قصصنا في بلاد الشام. هذا التنوّع في الخطّ الزمنيّ المتشعّب يعبّر - في رأيي - عن قدرة الكاتبة على دمج تفاصيل الواقع بالخيال؛ فتجعل من الصور المحكيّة دمجًا لهما. إنّ هذا الوصف المتشعّب أيضًا، يعطي السرد والقصّة أهمّيّة جليّة في توثيق التاريخ.

 

 

أريج مواسي

 

 

باحثة في علوم التعلّم والتكنولوجيا، وطالبة دكتوراه في "جامعة ولاية أريزونا"، حيث تعمل في "مركز العلوم والخيال". نالت منحة "فلبرايت" لدراسة الماجستير بتخصص "التكنولوجيا التربويّة". تكتب في مجالات متعدّدة: التكنولوجيا والمجتمع، تعلّم الإنسان، والتواصل البصريّ.