قصر أنطوان

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

وقع أمر غريب في نهاية المقابلة: بعد أن تفوّهتْ آليس بسؤال ظننته بريئًا، انقلبتْ من صحافيّة حادّة تكرّس كلّ حواسّها لقنص الثغرات في الأجوبة، إلى امرأة شاردة الذهن لا تبدي أيّ اهتمام بما أقوله، ولا تكترث بما يدور حولها، بينما تحوم عيناها على جدران المقهى مثل حركة الغيم البطيء. تحوّلت آليس من باحثة تصبّ كلّ اهتمامها في موضوع محدّد التقت به للتوّ لتكتشف الحقيقة، إلى إنسانة تسدل رأسها لتغرق في عمق أفكارها، في ذاكرة تُربّيها برفق. حين انتهيت من الإجابة هزّت رأسها وشكرتني، متمتمةً بلغتها العربيّة المكسّرة، وأغلقت دفترها. طلبنا بيرة، بما أنّ المقابلة الرسميّة انتهت، أنا طلبت "شيئًا سريعًا" آكله، وهي لم تكن جائعة. فرض شرودها صمتًا طويلًا ومُريبًا، لم أكن لأتحمّله لولا أنّي احتجت إلى استراحة، بعد ساعتين من الكلام المتواصل عن المشهد الثقافيّ في حيفا. عندما وصلت البيرة ولمست أصابعي برودة الكأس، قالت آليس جُملتها الغريبة تلك: "أنتم في هذه المدينة تعيشون مثل أنطوان، مثله تمامًا".

سَلسَلت آليس القصّة كأنّها تتلوها لنفسها لتتذكّر التفاصيل، قالت إنّها كانت طفلة صغيرة، عندما سافرت مع أهلها لزيارة أصدقائهم والتقت لأوّل مرّة صديقها أنطوان. كانت تلك عائلة ثريّة تعيش في بيت جبليّ يُطلّ على البحر. كان والد أنطوان محاميًا شهيرًا، ووالدته مهندسة مهتمّة بشواغل الحيّز العامّ والمجتمع المدنيّ، كانا جميلَي المظهر؛ تتلوّن أعينهما بلون خطّ الأفق فوق شفة البحر، ذاك الممتدّ أمام واجهة صالون بيتهما الزجاجيّة. كان البيت حجريًّا قديمًا مُرمَّمًا بحِرَفيّة عالية، شديد النظافة، كلّ ما فيه جديد، غرفه واسعة، وتتناسق فيه الأشياء من بوّابة البيت وصولًا إلى أصغر تفاصيل مراحيض الضيوف، وعلى جدرانه العالية لوحات فنّيّة لآندريه ديران. ووسط تفاصيل البيت المُحكمة التصميم، ووسط الصالون الكبير الّذي تستقبل العائلة فيه الزوّار والضيوف، وأمام واجهة الزجاج الواسعة الّتي تُطلّ على البحر، كان أنطوان الصغير قد بنى لنفسه قصرًا!

بنى أنطوان قصرًا مثل كلّ أطفال العالم: شرشف عليه رسوم السنافر، ينزل على جدران مؤلّفة من الوسائد الملوّنة ومساند الكنبة وفرشتين واقفتين بحذر، قصرًا ملوّنًا زاهيًا صغيرًا يتّسع لجسم أنطوان الصغير ولألعابه. ورغم العتمة، كان بعض الضوء يدخل من فراغ تركه أنطوان بين الوسائد عمدًا، ليشاهد من خلاله التلفزيون أو يراقب حركة أهله في البيت، وكان هذا الضوء كافيًا لتلمع عيناه السوداوان في عتمة القصر.

قالت آليس إنّها رأت هذا اللمعان في عينَي أنطوان، حين دعاها لأوّل مرّة إلى أن تدخل القصر. كانت تقول - عندما قاطعنا حنّا البارمان، واقترح شوت ويسكي على حساب المحلّ - إنّ أنطوان رغم وحدته وانطوائه، كان طفلًا كريمًا وودودًا ومضيافًا، ولم يهن عليه أن يرى طفلة تجلس وحيدة بين الكبار. "داخل القصر"، تقول آليس، "كان لأنطوان ألعاب كثيرة؛ كان لديه تاتريس، وسيّارات معدنيّة صغيرة، وكان لديه ديسكمان يسمع منه الأغاني، وليغو، وكان لديه كتابان: الأوّل قصّة ’التيوس الثلاثة والمارد الشرّير‘، وكان المارد أزرق، والتيوس أحدها أخضر والثاني أحمر والثالث برتقاليّ. أمّا الثاني فكان نسخة مصوّرة عن قصّة ‘الأمير الصغير‘. وكان لديه كرّاسة تلوين كلّها ملوّنة خارج الخطّ، وألعاب كثيرة أخرى. كان أنطوان يعيش في مخيّلته، كان طفلًا في غاية السعادة، فرِحًا مزهوًّا بمكان يشعر فيه بأنّه سيّد وملك وحرّ، كان سعيدًا أو هكذا كنت أظنّ ...".

يقول الصغار أحيانًا أشياء لا يُفترض أن يتفوّهوا بها، وقد حكى أنطوان لآليس أشياء كثيرة لا يُفترض أن تعرفها الطفلة، الّتي بدأت تكبر وهي تلتقي بصديقها مرّة أو مرّتين في كلّ عام. تعرف آليس الآن أنّ القصر السحريّ لم يكن إلّا خيمة هشّة وسط بيت عنيف. حدّثها أنطوان عن شجارات والديه الدائمة، عن أنّهما لا يكترثان به بأيّ شكل من الأشكال، عن أنّهما عنيفان؛ لا، لا، لا يضربانه أو شيء من هذا القبيل، لكنّهما عنيفان بإهماله، بتركه وحيدًا حبيس رأسه. عن أنّهما لا يأبهان أبدًا بما يفعله أو لا يفعله في المدرسة، أنّهما لا يباليان بأن يأكل طعامًا سريعًا أو مفرّزًا في كلّ يوم، أنّهما حين رمّما البيت ليصبح على نظافته وترتيبه وأسلوبه المعماريّ المميّز، غيّرا غرفته كلّيًّا من دون أن يسألاه، ووضعا فيها خزانة بألوان هبلة، ومكتبة دراسة قبيحة، وسريرًا غير مريح بدل سريره الّذي أَحبّ، ورميا سريره القديم في غرفة جانبيّة مغلقة ضيّقة فيها غسّالة، وتتراكم فيها الملابس المتّسخة وكلّ ما ليس له مكان في البيت؛ حتّى لم تعد الغرفة تعني أنطوان بأيّ شكل من الأشكال، وصار يقضي يومه داخل خيمة الشراشف في مركز الصالون، ويخلد في النوم ليلًا على سريره الّذي يُحبّ في غرفة الغسيل.    

تقول آليس: "مرّة، كنّا في السيّارة عائدين إلى بيتنا من زيارة عائلة أنطوان، أبي كان يتحدّث بإعجاب شديد ومديح مُسرف عن الزوجين. كنت في سنّ السادسة، أو ربّما السابعة، لا أعرف تحديدًا، لكنّي كنت في تلك المرحلة العمريّة الّتي يبدأ الطفل فيها، كيف نقول... يتّخذ مواقف. ومن موقعي ومنصبي على المقعد الخلفيّ في السيّارة، ناطحت موقف أبي، وقلت له إنّ تصرّفات صديقَيه ليست إلّا تمثيليّات فارطة؛ إنّهما لا يعاملان أنطوان جيّدًا، وأنطوان ولد رائع ولا يستحقّ ما يفعلانه، وهما يتركانه يفعل ما يشاء في وسط الصالون، لكي يتظاهرا أمام الضيوف بأنّهما والدان جيّدان يتركان ابنهما على راحته يفعل ما يُحبّ، لكنّ هذه - قلت لأبي حينذاك بحماسة طفوليّة، وكان معي الحقّ - هذه ليست الحقيقة".

يومئذٍ قال أبي أشياء يقولها الكبار عادةً؛ "إنّهما يوفّران له حياة أحسن من حياة معظم الأولاد، وإنّ عليّ أن أنظر حولي وأعرف أنّ ثمّة أطفالًا يعيشون ظروفًا مأساويّة"، وإنّ "أنطوان، يا بابا، طفل صغير، ولا يعرف مصلحته جيّدًا"، "وإنّه يعيش أحسن عيشة"، ثمّ قال أبي: "يا بابا، لو أنّه بقي حيث كان لربّما أصبح..."، فانقطعت جُملته عندما نكزته أمّي بكوعها ليُغلق الموضوع.

أمّا اليوم، بعد كلّ هذه السنوات، فتعرف آليس الحقيقة واضحةً مثل لمعان عينَي أنطوان السوداوين في عتمة الخيمة. "أخشى أنّي فقدت صديقي إلى الأبد"، قالت ذلك وهي تنظر إليّ لأوّل مرّة منذ بدأت قصّتها، "ولهذا سألتك ذاك السؤال الأخير تحديدًا".

تقول آليس إنّ أنطوان حين بلغ التاسعة عشرة، هجر البيت الجبليّ الكبير المُطلّ على البحر، وانقطع عن الزوجين وعن كلّ معارفه، وترك البلاد واختفت آثاره نهائيًّا. كان ذلك بعد أن بلغ الثامنة عشرة واكتشف أنّه ولد مُتبنًّى. إنّ "أنطوان" ليس اسمه الحقيقيّ أصلًا، "كان طفلًا سعيدًا"، تقول آليس، "مثلكم هنا تمامًا".

أمّا أنا الّذي ظننت سؤالها الأخير - "هل تفكّر في الهجرة؟" – سؤالًا بريئًا، فأفهم الآن أنّ الأفضل لي أن ألتزم الصمت تمامًا، وأنتظر "شيئًا سريعًا" آكله، وأمضي للنوم في شقّة الأستوديو الضيّقة المتّسخة.

 

* تُنشر هذه المادّة ضمن ملفّ "محلّيّ"، بالتعاون مع حركة شباب حيفا.

 

مجد كيّال

 

 

صحافيّ وكاتب. وُلد في حيفا عام 1990 لعائلة مهجّرة من قرية البروة. صدرت له رواية "مأساة السيّد مطر" ومجموعة قصصيّة بعنوان "الموت في حيفا"، وكلاهما عن الدار الأهليّة، بالإضافة إلى دراسة "كيف يتغيّر النظام الصهيونيّ؟" عن مركز "مسارات".