توني موريسون... كتابة العبوديّة وما بعدها

توني موريسون (1931 - 2019)

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

ودّع العالم الأدبيّ في الأيّام الأخيرة الروائيّة الأكاديميّة، وحائزة جائزة نوبل للآداب، توني موريسون (1931 - 2019)، عن عمر يناهز 88 عامًا. ضمّ أدبها - إلى جانب قصص قصيرة ومسرحيّات وبعض القصائد - ما يزيد على عشر روايات، من أشهرها رواية " Beloved" (محبوبة) الّتي صدرت عام 1987، وأُنتجت فيلمًا عام 1998.

 

ما بعد العبوديّة

لعلّ أكثر ما يميّز أدب موريسون محاولته تسليط الضوء على معاناة المجتمع الأسود وتناقضاته وطموحاته، بعيدًا عن منظور المجتمع الأبيض أو بتحرّر منه، أو ما أسمته موريسون "The White Gaze". توضّح موريسون ذلك في مقابلة أُجريت معها عام 1998، في البرنامج الحواريّ "تشارلي روز". ترفض موريسون الكتابة عن المجتمع الأسود فقط ضمن صراعه مع المجتمع الأبيض؛ فإنّ للمجتمع الأسود تجربة خاصّة، تستحقّ الكتابة عنها وعن تفاصيلها ضمن المجتمع الأسود نفسه، ويشمل ذلك موضوعات مثل العبوديّة والاضطهاد ومسألة الهويّة.

ما معنى أن تكون المرأة سوداء وأُمًّا في هذا السياق؟ هل كان القتل أسمى تعبير عن الحبّ الأموميّ، ضمن هذا الشرط القاسي الّذي تحاول الأمّ بحنانها أن تنقذ ابنتها من مستقبلها؟

نرى مثلًا في روايتها "Beloved"، الّتي تدور أحداثها في أعقاب الحرب الأهليّة وتحرير العبيد في أمريكيا، أنّ شخصيّاتها السوداء الّتي مرّت في مرحلة العبوديّة، تحاول إعادة بناء هويّتها وحياتها ضمن شرط تاريخيّ جديد: "الحرّيّة"، أو بمعنًى أدقّ، "ما بعد العبوديّة". تتناول موريسون مرحلة ما بعد العبوديّة، ضمن قالب مأساويّ أبعد ما يكون عن الفرح والاحتفال المُرافق لـ "الحرّيّة"؛ فإنّ شخصيّاتها السوداء الّتي اختبرت العبوديّة، أضحت في عالم جديد تحاول فهم معالمه والعيش فيه، وإعادة رسم هويّتها الّتي ارتبط لونها بتاريخ طويل من العبوديّة. ما معنى أن تكون حرًّا؟ أو ما معنى ألّا تكون عبدًا؟ الأحلام، والطموحات، وفوق ذلك فإنّ الهويّة نفسها تخضع لإعادة صياغة تتناسب مع المحيط الجديد. أن يصبح العبد "حُرًّا" فجأة لا يعني بالضرورة أنّ معاناته قد توقّفت، أن تكون عبدًا ثمّ "حُرًّا" - حسب موريسون - يعني أن تعيش في مرحلة ما بعد الصدمة، فيزورك الماضي على هيئة كوابيس أو ذكريات، ترجو كبتها حتّى تنجح في إعادة صقل هويّتك من جديد؛ على أنّ ذلك - في أدب موريسون - ليس بالأمر السهل.

 

"وأخذوا منّي حليبي"!

في ما يأتي، ترسم موريسون مشهدًا صادمًا مرّت به إحدى شخصيّاتها، سيثي، في رواية "Beloved"، عندما كانت لا تزال أَمَةً سوداء في بيت أبيض تعرّضت فيه للاغتصاب. ستؤثّر هذه الحادثة فيها حتّى في مرحلة ما بعد العبوديّة بصورة مأساويّة للغاية.

في روايتها "A Mercy"، تخلق موريسون الحيّز الزمكانيّ لشخصيّاتها في مطلع القرن السابع عشر، عندما كانت الولايات المتّحدة لا تزال "عالمًا جديدًا"، لم تكن العبوديّة فيه أمرًا مُمنهَجًا كما ستصبح بعد نشوء فكرة أمريكا مؤسّسةً وكيانًا سياسيًّا واقتصاديًّا

تحاول سيثي بعد هذه الحادثة الهرب، وتنجح إلى حدٍّ ما، حتّى يجدها المدرّس هي وطفلتها؛ هنا تقرّر سيثي، الأَمَة الهاربة، أن تقتل طفلتها الرضيعة حتّى لا تختبر ما اختبرته أمّها؛ حتّى لا يأخذها رجل أبيض ويسلب منها أكثر من حرّيّتها. كانت هذه الذكرى كافية لجعل شخصيّة سيثي تعيش في مرحلة عبوديّة جديدة؛ عبوديّة الذاكرة الّتي ستعيشها في بيتها مع شبح طفلتها. تسترجع سيثي حادثة اغتصابها وكأنّها تحاول تبرير فعلتها:

- عندما غادرتُكم، جاء أولئك الفتيان وأخذوا حليب صدري؛ جاؤوا لأخذ حليبي. طرحوني أرضًا وأخذوه رغمًا عنّي. أخبرت السيّدة جارنر عنهم. كان لديها ورَم ولم تستطع الكلام، لكنّ عينيها اغرورقتا بالدموع. اكتشف الفتيان أنّي أبلغت عنهم. طلب المدرِّس من أحدهم فتح ظهري، ولم تلتئم الجراح حتّى شكّلت صورة شجرةٍ لا تزال تنمو.

- جلدوكِ بسوطٍ من ذيل البقر؟

- وأخذوا منّي حليبي.

- ضربوكِ وأنت حُبلى؟

- وأخذوا منّي حليبي![2].

 

"طبيعيّة" تزاوج العبوديّة والسواد

استعملت موريسون صورة الشجرة الّتي لا تتوقّف عن النموّ، تعبيرًا عن ماضٍ مأساويّ ذي جذور ضاربة في عُمقها، ليس من السهل - أو ربّما كان من المستحيل - اقتلاعها من الذاكرة، ومن المعاناة الفرديّة والجمعيّة على حدٍّ سواء؛ معاناة تنمو وتتجدّد. هذه الذاكرة، هذه التجربة القاسية الّتي عانتها سيثي ستطرح تساؤلًا تعالجه موريسون: ما معنى أن تكون المرأة سوداء وأُمًّا في هذا السياق؟ هل كان القتل أسمى تعبير عن الحبّ الأموميّ، ضمن هذا الشرط القاسي الّذي تحاول الأمّ بحنانها أن تنقذ ابنتها من مستقبلها؟ هل كان قرارها بالقتل سليمًا؟ تكرّر سيثي إجابتها "وأخذوا منّي حليبي"، وكأنّ الجلد والضرب والصدمة أمر مشترك مع باقي العبيد، رجالًا ونساء، أمّا سيثي فكانت تجيب عن الأسئلة بوصفها امرأة لا تنفصل عن كونها سوداء/ أَمَة، وقتلت ابنتها في إطار كونها امرأة لا تنفصل عن كونها سوداء/ أَمَة، ضمن الشرط التاريخيّ والنفسيّ الّذي تعيش فيه. المرأة في العبوديّة تدفع الثمن أضعاف ما يدفعه الرجل؛ ومن هنا كان تساؤل موريسون: كيف يمكن وضعًا مثل هذا أن يكون طبيعيًّا؟ لا يمكن أن يكون كذلك. وسوف تناقش موريسون هذا الربط بين العبوديّة و"طبيعيّة" علاقتها بالعِرق الأسود، بصورة أوسع في روايتها  "A Mercy" الّتي صدرت عام 2009.

الصدمة الفرديّة والجمعيّة للمجتمع الأسود، تخلق مشاكل لا بدّ من مناقشتها في إطار المجتمع الأسود نفسه. أمّا الأبيض بالنسبة إليها فلمّا يستأهل بعدُ الدخول إلى عالمها الأدبيّ بصفته شخصيّة مركزيّة مكتملة الملامح

في روايتها "A Mercy"، تخلق موريسون الحيّز الزمكانيّ لشخصيّاتها في مطلع القرن السابع عشر، عندما كانت الولايات المتّحدة لا تزال "عالمًا جديدًا"، لم تكن العبوديّة فيه أمرًا مُمنهَجًا كما ستصبح بعد نشوء فكرة أمريكا مؤسّسةً وكيانًا سياسيًّا واقتصاديًّا. من خلال رجوعها إلى تلك الفترة الزمنيّة البعيدة، تحاول موريسون أن تفصل بين العِرق والعبوديّة – أو على حدّ تعبيرها – تحاول الرجوع إلى مرحلة سابقة لهذا التزاوج، الّذي نشأ بين العِرق الأسود والعبوديّة في "العالم الجديد". تؤكّد موريسون رفضها أنّ وضع العبوديّة هذا كان وضعًا "طبيعيًّا"، بل إنّ هذا التزاوج كان نتاج سياسة مُمنهَجة إلى حدٍّ بعيد؛ وعلى ذاك تكون العبوديّة حاضرة في وعي القارئ بغيابها، أوّل الأمر، أو بحضور ملامح لبداية تشكّلها.

 

الصدمة

العنف والاغتصاب والصدمات النفسيّة، كلّ ذلك يتجلّى في لغة موريسون المُتقنة، الّتي ترسم الصورة بكلّ واقعيّتها بلا مواربة ولا اعتذار، حين يعود كلّ شيء في نهاية المطاف إلى العبوديّة ورُعبها. تقول موريسون إنّها تكتب أدبها التاريخيّ وهي مصدومة، بل إنّها تُصرّ على أن تبقى مصدومة، وأن تعبّر عن تلك الصدمة في صورها الأدبيّة، ومفرداتها المختارة بشكلٍ صادم يُزعج القارئ.

الصدمة الفرديّة والجمعيّة للمجتمع الأسود، تخلق مشاكل لا بدّ من مناقشتها في إطار المجتمع الأسود نفسه. أمّا الأبيض بالنسبة إليها فلمّا يستأهل بعدُ الدخول إلى عالمها الأدبيّ بصفته شخصيّة مركزيّة مكتملة الملامح، إلّا بوصفه خلفيّة وسببًا زمكانيًّا للمأساة.

أدب توني موريسون خاصّ، يحاول التحرّر من المجتمع الأبيض من خلال التركيز على تَبِعات العبوديّة، وآثارها في الوعي الأسود والهويّة السوداء

إنّ سرديّة المواجهة: الأسود ضدّ الأبيض، ليست هي ما يُثير اهتمامها – حسب قولها - بل إنّ ما يثير اهتمامها سرديّة الأدب الأسود الموجَّه إلى القرّاء السود، والّذي يعالج مشاكل السود في إطار السود أنفسهم، وتقارن ذلك بالموسيقى السوداء؛ فتقول إنّ جمال الموسيقى النابع من ماضٍ عنيف وقاسٍ، يأتي من كون الجمهور الأسود جزءًا من عالم تلك الموسيقى لا من خارجه؛ لذا فإنّ إحدى صور الحرّيّة في أدبها أن تكون بعيدة عن نظرة المجتمع الأبيض، على أنّ ذلك في حدّ ذاته، ليس حلًّا يُنهي مشكلة الهويّة والتاريخ والذاكرة؛ فهذه أمور لا تنتهي إلّا مع انتهاء كلّ شيء:

"وعمّا قريب يزول كلُّ أثر، ليست آثار الأقدام وحدها يطويها النسيان، فالماءُ أيضًا، وكلّ ما يرقد هناك في الأسفل، يُنسى. وحده الجوُّ يبقى. لا أنفاس المنسيّين ولا المجهولين تبقى، بل ريحٌ في المزاريب تعوي، أو جليدُ ربيعٍ سريعٌ في ذوبانه. وحده الجوّ يبقى. بلى، حتّى طلبُ القبلةِ بكلّ صخبه، يُنسى" (من رواية "Beloved").

 

الأبيض... خلفيّة

أدب توني موريسون خاصّ، يحاول التحرّر من المجتمع الأبيض من خلال التركيز على تَبِعات العبوديّة، وآثارها في الوعي الأسود والهويّة السوداء، في مجتمع أمريكيّ مركَّب. ينطوي أدبها على صور ومفردات عنيفة، ويطرح أسئلة عن الحرّيّة، والمرأة السوداء، والأمومة السوداء، وأزمة الهويّة السوداء من حيث تعريفها وممارستها في علاقتها بالعبوديّة، أو – في عصرنا هذا – في علاقتها بمرحلة ما بعد العبوديّة.

إنّ سرديّة المواجهة: الأسود ضدّ الأبيض، ليست هي ما يُثير اهتمامها – حسب قولها - بل إنّ ما يثير اهتمامها سرديّة الأدب الأسود الموجَّه إلى القرّاء السود، والّذي يعالج مشاكل السود في إطار السود أنفسهم

مع ذلك، هل في الإمكان مناقشة المجتمع الأسود ومشاكله وماضيه وصدماته، بمعزل عن علاقة ذلك كلّه بنظرة الأبيض من جهة، وبإبراز العبوديّة فكرةً وممارسةً من جهة أخرى؟ يبدو لي أنّ الأبيض بنظرته، عند موريسون، حاضر بوصفه خلفيّةً ومسبِّبًا للعبوديّة فقط، هنا تتوقّف وظيفته؛ فإنّ من حقّ السود أن يكون لديهم سرد خاصّ بهم، مستقلّ عن مواجهته مع الأبيض الّذي ليس من حقّه أن يكون جزءًا من السرد الأسود. نعم، يمكن الحديث عن العبوديّة وآثارها ومآسيها في إطار الأسود، شرطَ أن يكون الأبيض مجرّد خلفيّة زمكانيّة كانت سببًا في هذه المأساة.

 

أمّا الخاتمة، فقد يكون أفضلها نصّ شعريّ لتوني موريسون:

 

"لستُ جديرةً بالبَحْر"

 

لستُ جديرةً بالبَحْر.

انظروا السمكَ يرى بيتَه في شَعري.

كانت حياتي لي، مثلكم. أمّا ركوبُ البحْرِ فليسَ لي.

لستُ جديرةً بالبَحْر.

ذَروني هنا راسخةً في الأرض؛ ذَروني نجمةً معلّقةً

مَمزوجةً مع الشمسِ والهواءُ يَلفَحُني.

هاتوا لي بسمةً، هاتوا قبلةً سحريّةً

أحتالُ بها على الموتِ كما لو كانَ طفلًا صغيرًا.

لستُ جديرةً بالبحْرِ. انظروا السمكَ يرى بيتَه في شَعري.

 

* الاقتباسات الأدبيّة من ترجمة كاتب المقالة.

 

 

إياد معلوف

 

محاضر ومترجم مستقلّ من فلسطين، يعمل مدرّسًا في "كلّيّة سخنين لتأهيل المعلّمين"، حاصل على ماجستير الأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا، درّس اللغة العربيّة لغير الناطقين بها في "جامعة كونيتيكت" في الولايات المتّحدة ضمن برنامج "فولبرايت".