أدب فلسطين 2019: عراك مستعر بين التفاؤل والقنوط

كتّاب فلسطينيّون ورد ذكرهم في المادّة

 

لا يمكن التفكير في الإنتاج الأدبيّ الفلسطينيّ دون سماع العراك المستعر بين التفاؤل والقنوط، بين الرضا وجلد الذات، بين الاحتفاء والحداد؛ ففي الوقت الّذي يستمرّ فيه الأفراد بممارسة حرفتهم الفرديّة، وتطوير أساليبهم، والانتقال بين الأشكال الأدبيّة وتجريبها، حاصدين الجوائز ولافتين أعين النقّاد ولو كانوا معدودين على أصابع اليد، وجاذبين القرّاء العرب إلى اقتناء كتبهم، إلّا أنّ تجاربهم تظلّ مثل أكوام من الإسفنج في محيط عظيم، تبحث عن ثبوت ولحمة وسط مؤسّسة سياسيّة فلسطينيّة مفتّتة ورجعيّة، ومشهد نشر هو أقرب إلى لعبة نرد، وسوق كتاب عربيّ تأكله الحروب والحدود.  

هل بدا صوت القنوط أعلى؟ أعتذر.

سأختار الحديث عن ثلاث ملاحظات ترتبط بالمنتج الأدبيّ والشعريّ الفلسطينيّ عام 2019: الثيمات المتناولة، والنشر، والجوائز، مبتعدةً قدر الإمكان، لضيق المساحة وتشعّب المسائل الآنفة الذكر، عن الحديث عن هذا المحيط، علّ ذلك يفسح مجالًا لإبراز بعض الإصدارات الأدبيّة والشعريّة ولصوت الاحتفاء بالصدوح.

 

السياسيّ كمادّة شخصيّة

لا تجدر الإشارة، بل التذكير، بأنّ ما رُسّخ في أذهاننا عن أنّ الأدب والشعر المعاصرَين، أو ما سُمّي بالنصّ الشابّ، ينأى بنفسه عن السياسيّ والعامّ وينشغل بتفاصيل يوميّة وشخصيّة، ليتّخذ شكل الأسطورة الّتي تحتاج إلى كسر علنيّ. إنّ كسرها لا يحتاج إلّا إلى قراءة هذا النصّ، والانكشاف على الثيمات الّتي يتناولها. ولو أنّ في كلمة "نصّ" إجحاف كبير لما يقدّمه الكتّاب الفلسطينيّون من تنوّع في الأسلوب والموضوعات، إلّا أنّه، وفي ما يرتبط بالمسألة السياسيّة، يظلّ مشتبكًا فيها، كلٌّ من موقعه الشخصيّ والجغرافيّ ومن حمولاته التاريخيّة والمعرفيّة.

لا يمكن، عند الحديث عن الثيمات المرتبطة بفلسطين، صرف النظر عن الثورة السوريّة وما ينتجه الكتّاب الفلسطينيّون السوريّون في السنوات الأخيرة. تتوفّر أمامنا مادّة أدبيّة دسمة لقراءة المأساة السوريّة وأثرها

عند هذه القراءة، يصير لزامًا علينا أن نحرف النظر إلى الأسلوب والمنهج، لا إلى الثيمة "السياسيّة" الّتي لن تزول هي وروافدها إلّا بزوال الزمان والمكان الفلسطينيّين. وفي ذلك اعتراف بامتداد ما قد نسمّيه "أدب المقاومة"، "أدب المنفى"، "أدب الحرب"، الّذي يغيّر الزمن شكله تمامًا كما يغيّر علائق البشر، بينما تظلّ مادّته الجوهريّة على حالها.

نجد مثلًا في رواية "سيناريو" (الأهليّة) للكاتب سليم البيك، روايةً لشخوص من الجيل الثالث للنكبة في المنفى، فتحضر حيفا "الممنوعة" كما حضرت الجغرافيا الفلسطينيّة بحمولاتها في أعمال سابقة للكاتب اللاجئ. وفي مجموعتها الشعريّة "عن الحرب والضحك والجيتار البرتقاليّ" (المتوسّط)، تطلّ الشاعرة رجاء غانم على الحرب من نافذة طفولتها في دمشق، طفلة تتذكّر لعبة قديمة وتتصوّر فلسطين في مخيالها. أمّا الروائيّ أكرم مسلّم فقدّم رواية بعنوان "بنت من شاتيلا" (الأهليّة)، مستعيدًا فيها أزمنةً صارت مَتْحَفِيَّة، تلك الّتي صنعها الفلسطينيّون بثورتهم، وتلك الّتي نُحروا فيها. بينما يستمرّ الكاتب إبراهيم نصر الله بإصدار أعماله الملحميّة التاريخيّة، ليقدّم ثلاث روايات جديدة هذا العام هي "ظلال المفاتيح"، و"دبّابة تحت شجرة عيد الميلاد"، و"سيرة عين" (الدار العربيّة للعوم – بيروت، والأهليّة بطبعة فلسطينيّة).

لا يمكن، عند الحديث عن الثيمات المرتبطة بفلسطين، صرف النظر عن الثورة السوريّة وما ينتجه الكتّاب الفلسطينيّون السوريّون في السنوات الأخيرة. تتوفّر أمامنا مادّة أدبيّة دسمة لقراءة المأساة السوريّة وأثرها، وضعناها أو لم نضعها تحت التسميات الأوروبّيّة كـ "أدب اللجوء". في المقابل، يذهب مَنْ هم في قلب هذه المأساة إلى تجارب تشتغل عن بعدٍ ما من الأدب الواقعيّ، مثل رائد وحش في روايته "عام الجليد" (المتوسّط)، وهي رواية وجوديّة وفلسفيّة، توظّف الفنتازيا والرمزيّة على الرغم من اتّخاذها الواقع مادّة خامة.  

 

مآزق النشر والتقسيمات الجغرافيّة

قبل أن ننعت فلسطين بالفقر حين نعدّ دور النشر الفاعلة فيها، يتوجّب علينا أن نسأل ما إذا كنّا بحاجة أصلًا إلى دور نشر جديدة، في الوقت الّذي تنشط فيها غير دار "فلسطينيّة" خارج فلسطين وتضع المنجز الفلسطينيّ، شعرًا كان أو سردًا، ضمن أولويّاتها، أبرزها "منشورات المتوسّط" في ميلانو، الّتي أصدرت رواية "دمشقيّ" للكاتبة سعاد العامري، و"المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر"، الّتي نذكر أنّها أصدرت - شعرًا - مجموعتين للشاعر نجوان درويش بعنوان "تعب المعلّقون" و"كلّما اقتربت من عاصفة"، بالتعاون مع "دار الفيل"، و"الدار الأهليّة للنشر والتوزيع" الّتي نذكر من إصداراتها "الموت في حيفا" لمجد كيّال، و"ليتني كنت أعمى" لوليد الشرفا، ومجموعة من الكتب الّتي حازت على جوائز من "مؤسّسة عبد المحسن القطّان"، مثل "ترجمة باخ" لبدر عثمان (شعر)، و"شخير" لرزان بنّورة (شعر). بينما نشهد شبه قطيعة بين الإنتاج الأدبيّ الفلسطينيّ ودور النشر في الخليج ومصر والمغرب الكبير، حتّى أنّ العلاقة بالدور اللبنانيّة باتت أكثر جفاءً إلّا من إصدارات قليلة هنا وهناك، نذكر منها ما صدر شعرًا هذا العام عن الساقي في بيروت، وهي مجموعة "أين أمّي" لمروان مخّول، وترجمة الشاعرة ريم غنايم لرواية "الغداء العاري" لوليام بوروز (الجمل، بيروت)، ولمختارات شعريّة لريتشارد رايت (دار مقام، القاهرة).

حاجة الفلسطينيّين إلى دار نشر في فلسطين، وليس فلسطينيّة تطبع في بيروت، تكون معاصرة في رؤيتها ومهنيّة في اختياراتها وترويجها للكتاب، لا تتأتّى من دوافع فنّيّة أو كمّيّة فحسب، إنّما اجتيازًا للقانون الإسرائيليّ الّذي يمنع الكتب المطبوعة في لبنان من دخول حدودها

إنّ حاجة الفلسطينيّين إلى دار نشر في فلسطين، وليس فلسطينيّة تطبع في بيروت، تكون معاصرة في رؤيتها ومهنيّة في اختياراتها وترويجها للكتاب، لا تتأتّى من دوافع فنّيّة أو كمّيّة فحسب، إنّما اجتيازًا للقانون الإسرائيليّ الّذي يمنع الكتب المطبوعة في لبنان من دخول حدودها، ومحاولةً لحصر ظاهرة التزوير المثيرة للغثيان، والّتي للأسف لا تتفشّى بسبب مسألة المنع فحسب، وإنّما لأسباب تجاريّة صرفة. وفي قرار "منشورات المتوسّط" إصدار طبعات فلسطينيّة للكتّاب الفلسطينيّين في رام الله تحت عنوان "الأدب أقوى"، رغم رداءة الورق في فلسطين، التفافًا على هذه القوانين.   

لعلّ انطواء "بلاد الشام" على حالها في مشهد النشر، في الوقت الّذي خُسف فيه الجنيه المصريّ، وبات سعر الكتاب الشاميّ كسعر جهاز كمبيوتر في القاهرة، والّذي لم يجد الفلسطينيّون فيه طريقًا لبناء علاقات بدور نشر في دول الخليج؛ لأنّها تنعم بأسواق مستقرّة نسبيًّا، وبمؤسّسات مقتدرة وقادرة على دعم الثقافة والأدب، لعلّه يجعل مسألة النشر عند الكاتب الفلسطينيّ محكومة بالجغرافيا أو العلاقات الشخصيّة، أو الأجندات الّتي تضعها دور النشر في أقصى الشرق والغرب للوطن العربيّ، في جوابها عن سؤال: لمَنْ ننشر؟ أمّا في سؤال: ماذا ننشر؟ فعلى الرغم من أنّ "الدار الأهليّة" و"منشورات المتوسّط" أصبحتا العنوانين الرئيسيّين عند نشر الشعر الفلسطينيّ، يظلّ حظّ الشعر منقوصًا في السوق، وسيرته منفّرة لدى العديد من الدور، ومدّة إقامته في رفوف حوانيت الكتب أطول من زملائه.

لا بدّ في الحديث عن الإصدارات من التطرّق إلى بعض التراجم، الّتي صدرت لكتّاب وكاتبات فلسطينيّين بلغات غير عربيّة، منها رواية "سفر الاختفاء" (دار نشر جامعة سيراكيوز) لابتسام عازم بالإنجليزيّة، ورواية "أورفوار عكّا" (أكت سود) لعلاء حليحل بالفرنسيّة، والمجموعة القصصيّة "نكات للمسلّحين" (سيليريو) لمازن معروف بالإيطاليّة، والمجموعة الشعريّة "ثقوب واسعة" (يورغن ماس) لفاتنة الغرّة بالهولنديّة.

 

أمنية نهاية العام أن تظلّ الجوائز محلّ ثقة

في الوقت الّذي تغيب فيه الرواية الفلسطينيّة عن القائمة الطويلة لجائزة "بوكر" العربيّة، الّتي نُشرت في الأسبوع الماضي، حصدت القصيدة والقصّة الفلسطينيّة جائزتين عربيّتين بحصول الشاعر غسّان زقطان على جائزة "مؤسّسة أنور سلمان للإبداع" في مجال الشعر، وفي الدورة الأولى للجائزة الّتي أطلقتها "مؤسّسة أنور سلمان للثقافة" في لبنان، والقاصّة شيخة حسين حليوى ومجموعتها "الطلبيّة C345" (المتوسّط) على جائزة "الملتقى" للقصّة القصيرة العربيّة في دورتها الرابعة، بالإضافة إلى جائزة دوليّة حصل عليها الشاعر نجوان درويش قبل أيّام، من "منظّمة القلم الإنجليزيّ" الّتي تُمنح لأعمال غير منشورة مترجمة إلى الإنجليزيّة، عن عمله "عناق".

اسما حليوى وزقطان يبعثان على الثقة بهذه الجوائز لما يفرضه منجزاهما، على اختلاف طبيعتيهما وتاريخيهما من قوّة، على أمل أن تحافظ بعض الجوائز العربيّة على نفسها

وفي إعلان "مؤسّسة أنور سلمان للثقافة" إطلاق هذه الجائزة ما يُعيد الاعتبار إلى حقل الشعر، الّذي بات استقصاؤه من معظم الجوائز العربيّة، ونفور الناشرين العرب منه، بات شكلًا من أشكال تمظهر الرأسماليّة الأدبيّة، القائمة على التعامل مع المنتج الكتابيّ كبضاعة تجاريّة، تلحق رغبة القارئ النموذجيّ الّذي يميل إلى الرواية، وربّما القائمة على خلق هذا المفهوم وتغذيته. وفي استمراريّة جائزة "الملتقى" للقصّة العربيّة انحياز إلى هذا الجنس الأدبيّ، وإنعاش لمكانته بين الأجناس الأخرى. اسما حليوى وزقطان يبعثان على الثقة بهذه الجوائز لما يفرضه منجزاهما، على اختلاف طبيعتيهما وتاريخيهما من قوّة، على أمل أن تحافظ بعض الجوائز العربيّة على نفسها من عطب الصفقات والمافيات الأدبيّة.  

 

 

* تُنشر هذه المادّة ضمن ملفّ خاصّ بعنوان "الإنتاج الثقافيّ الفلسطينيّ 2019"، بالتعاون مع جمعيّة الثقافة العربيّة، حيث شاركت كاتبة المقالة ضمن أمسية تلخيصيّة خاصّة تحمل العنوان نفسه.

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها مجموعتان شعريّتان، "ليوا" (2010)، الحاصلة على جائزة الكاتب الشابّ - حقل الشعر، من مؤسّسة عبد المحسن القطّان، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة، مثل الإنجليزيّة والألمانيّة والفارسيّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. كما تعمل كاتبة مقالات ومديرة فنّيّة لمتجر فتّوش للكتب والفنون، وبار وجاليري فتّوش.