كلّ نصّ ذات... في "طلبيّة" شيخة حليوى

"الإنسانيّة"، للفنّان M G

 

تضع شيخة حليوى على المسرح أفكارًا مثيرة للتأمّل والاكتشاف، وفيها من الغرائبيّة ما يكسوها بالتساؤلات والتأويلات المتعدّدة، في مجموعتها القصصيّة "الطلبيّة C345" الصادرة عن "منشورات المتوسّط" عام 2018. وما يميّز السرد هنا ثقافة اللغة، وامتلاك القدرة على صياغة الأفكار كما تصنع يدا الحاوي؛ فاللغة السهلة العميقة كثيفة التأويلات، متعدّدة الأصوات بما يكفي لتكوين ديمقراطيّة سرديّة داخليّة؛ أي أن يسمع المرء جميع الأصوات الّتي تتحدّث داخله، بلا أدنى قمع.

 

 طرق شائكة

تتناول حليوى في سردها الذات الإنسانيّة في أعلى مصافّها، بما تقدّمه من تفاصيل خاصّة تجسّد الجانب الجوّاني للإنسان، معتبرة أنّ ذلك في حدّ ذاته القضيّة الأهمّ، وتنسج رؤية إبداعيّة قادرة على منح الذات محوريّة في قصصها، بطريقة تشبه القفز الجسديّ للوصول إلى سقف ما. وبما تبديه حليوى من تفاوت للأفكار؛ فإنّها تشقّ طرقًا شائكة، تصنع من خلالها تحدّيًا جادًّا لوعي القارئ، بغية الوصول إلى مكان قصيّ من تناول المفاهيم؛ فليست القضيّة وجود الإنسان كمادّة للتداول فقط، والانتهاء مثل بقيّة الأشياء الّتي مآلها الذبول، بل قيمة الوجود للفرد، من خلال تأمّله الواقع من حوله، واستنباط المعنى الوجوديّ، وإبداعه الّذي يمنحه صفة الأبديّة، عابرًا انتصاراته وخساراته؛ فالذات عند حليوى إشكاليّة متغيّرة، غير قابلة للمسك أو التثبيت، لكنّها قابلة للكتابة؛ وهو ما يعني أنّ كلّ نصّ لديها جانب من الذات، أو ذات تامّة. يقول الناقد الأدبيّ أحمد خليفة: "الذات الّتي تعمّر الكون أو تهدمه في الواقع، هي نفسها الّتي تعمّر عالم النصّ أو تهدمه في المستوى الإبداعيّ"، وهذا التناوب بين الهدم والبناء شملته حليوي في سردها، بصراعات متعدّدة الأدوات بين شخصيّاتها، محدثة التفاعل الذهنيّ المطلوب، بتقديم الرؤى المختلفة لأبطالها.

ليست القضيّة وجود الإنسان كمادّة للتداول فقط، والانتهاء مثل بقيّة الأشياء الّتي مآلها الذبول، بل قيمة الوجود للفرد...

وتفرد حليوى شخصيّاتها "الفانتاستيك" رموزًا موزّعة بين ثنايا سردها، على أن تشكّل كلّ شخصيّة دليلًا لفهم الخريطة. حتّى في بنائها للشخصيّة، فإنّها لا تضع الصفات في سلّة واحدة، بل تجعل مكوّنات بطلها موزّعة على مساحة القصّة، كأوراق مخبّأة في أماكن مختلفة لملعب الكنز المفقود، فكلّما تقدّم القارئ في النصّ تكشّف له الفخّ القصصيّ المُعَدّ في سردها.

 

رغبة الشطب ووجوه الحرب

تُفعّل القاصّة الفلسطينيّة في قصّة "زيارة ليليّة" رغبة الشطب عند الإنسان، تلك الّتي تنقل إلى وعي أكبر، وتتسلّل إلى عمق التجربة؛ فلا ينجو الإنسان دون إزالة الأثر السيّئ لتجاربه، فتقول: "بعد كلّ زيارة أشطب ندبة، تركتها عصاه يومًا ما، واحدة على كتفي اليمنى، أخرى على ساقي اليسرى، وندوبًا صغيرة كثيرة موزّعة على جلدي وتحته". وتبني حليوى مفارقة حدثيّة مدهشة في آخر القصّة، حيث تقلب دفّة الفهم إلى سياق معاكس، بإيهامها القارئ حول ماهيّة البطل، الّذي اعتاد تلقّي زيارات متعدّدة من الأب الميّت، لكنّها جعلته يقوم بعمل الموتى بقولها: "كنت أنا أجتاز بوّابة المقبرة، وأغيب بين القبور الغارقة في الظلمة".

وفي قصّة "فسحة للنباح"، وبأسلوب تشويقيّ سلس، تبحث حليوى عن منطقة أمان من العالم، مُعبّرة عن حاجة إنسانيّة مُلحّة، في زمن صارت الحرب تنبح على الفرد فتفقده حاسّته الأخيرة، حاسّة البقاء، ولعلّ الكلب الأبيض كان فسحة الأمان المنشودة في حربٍ كلّ ما فيها أسود. وتحمل حليوى معاناة الإنسان بقولها: "ولك أن تتخيّل كم جدارًا حملت معي إلى البيت، وكم شارعًا صرته". وتقتصّ من بين المشاعر المتخمة في الحرب، خوف الإنسان من المحيط، وكأنّه نباح صامت ضدّ الرصاص.

تبحث حليوى عن منطقة أمان من العالم، مُعبّرة عن حاجة إنسانيّة مُلحّة، في زمن صارت الحرب تنبح على الفرد فتفقده حاسّته الأخيرة، حاسّة البقاء...

وتصرخ في "قصّة حلم" The Liberator" "، بصوت الحرّيّة الّتي ينشدها المرء في كلّ زمان ومكان بنفس الصيغة، لها نفس الشغف، ونفس الصوت والمشاعر، لكنّها قد تختلف في المساحة، فتكتب: "لكلّ عصر زيّه وسلاحه، أمّا الحرّيّة، فهي واحدة في العصور والحروب كلّها أيضًا".

ووجه آخر للحرب، تكشفه حليوى في "مئة حكاية وغابة"؛ فالغابة هي الحرب، والمئة حكاية هي الهوامش؛ أي القصص الصغيرة الّتي تحدث تحت غطاء الحرب، من انتهاكات لحقوق المرء، وخاصّة المرأة بما تتعرّض له من اغتصابات وقتل أثناء الحروب. وتكتب حليوى: "على أطراف القضايا الكبرى تحدث أمور كثيرة، الحرب قضيّة كبرى، والعدالة أيضًا".

 

ندب داخليّة

وبأدوات العرض المسرحيّ، وتقنيّاته من الصوت وخشبة العرض والبارافانات، والممثّلين وحركاتهم الواسعة والضيّقة، والحوار والصمت أيضًا، تنتقل في قصّة "الطلبيّةC345 " إلى منطقة مغايرة من المعاناة الإنسانيّة، حيث الندبة الداخليّة، الأكثر وجعًا من الندبة الظاهرة؛ فتحاكي الأشياء كأنّها أناس أفقدتها جزءًا من حقّها في الاكتمال، وتفتح المجال للإنسان لمخاطبة ندبته، وهواجسه، ومعاناته حين تكتب: "ماذا تقولان أيّتها الساقان؟ هل تفخران بما تحملان من جسد ورأس؟ ألم يكن ذلك العناء مجديًا بأن تحملا وجعي وحقدي واحتقاري لكما؟ كيف يمكن أن أحبّكما، وأنتما ندبة بشعة في الفراغ؟ أعرف أنّي قد آلمتكما كثيرًا خلال السنوات الماضية، أعرف كم مرّة وددتما لو تقفزان من النافذة، وتتركانني وحيدة بائسة". وتبدو إسقاطيّة عنوان هذه القصّة، "الطلبيّةC345 "، مربكة؛ إذ اختارته حليوى ليكون عنوان المجموعة كاملة، وكأنّها تلمح للإنسان المجرّد من حواسّه، ومن قناعاته، ومن هويّته، الإنسان الّذي تريد أقطابٌ ما استنساخه، ليكون نموذج هذا العصر.

وتُنوّع حليوى في تكنيك عرضها للحدث؛ ففي "رجل يبحث عن عينيه" تدمج قصّتين في هيكل السرد، بما شملته من قصّة الشابّ الّتي أرسلها إلى بريد القرّاء داخل قصّتها، وتخوض مع القارئ رحلة بحث عن المفقود في حياة الإنسان

وتأخذنا حليوى بمفارقة غاية في الخصوصيّة، شديدة الإعتام، لولا الكتابة؛ فتتناول فكرة نهاية الحياة الاعتياديّة، في قصّة "الثقب الأبيض"، حيث العجوز الّتي تبحث عن ثقب صغير للتخفّي فيه من حسراتها وضعفها؛ لا لرغبة في الاستمرار الطويل، بل لتجد مهربًا من أفكارها. لربّما كان الثقب الأبيض ذكرياتها، بما تحمله من ذاكرة هشّة، ملأتها الحياة الطويلة بالثقوب. وتكتب حليوى في سياق تأويليّ: "الناس جميعًا يسدّون الثقوب، وأنت تحرسها"؛ فهذا الحصار الاختياريّ للعجوز حول ذاتها، أو ربّما الإجباريّ، بمنزلة نفق صغير للنجاة، هو الحماية لها من الأيادي المظلمة الّتي تسحبها نحو الهاوية، وتأبى السيّدة مغادرته لتحتفظ بما تبقّى لها من الحياة، حتّى آخر رمق، فتكتب حليوى: "لم أكن أخرج منه، إلّا وقد انتزع جزءًا منّي، لا أنجح أبدًا في استعادته، يظلّ هناك، يموت ويتعفّن".

 

المفقود

وتُنوّع حليوى في تكنيك عرضها للحدث؛ ففي "رجل يبحث عن عينيه" تدمج قصّتين في هيكل السرد، بما شملته من قصّة الشابّ الّتي أرسلها إلى بريد القرّاء داخل قصّتها، وتخوض مع القارئ رحلة بحث عن المفقود في حياة الإنسان، الّذي يتحوّل بعد حين إلى قضيّة عمره، محورًا تدور كلّ الأشياء حوله، في نظره؛ فالفتاة الّتي كانت قريبة إلى الموت، كانت كذلك بسبب فقْد الدفء، الّذي قالت عنه حليوى: "لعلّه يكسر الجمود الجليديّ في عينيها، من حقّها أن تختبر دفئًا حقيقيًّا لحياة سُجنت فيها تحت مُسمّى كاذب". أمّا ما فقد الشابّ فكان ما سلبته منه تلك الفتاة حين نظر إليها، وكأنّها كشفت له عن بؤسه، وأوجاعه، ووجهه الشاحب، بعدها صار يبحث عن النظرة الأولى للحياة، الّتي تُعيد له ذاته.

هي مجموعة قصصيّة تُخضِع الوعي الإنسانيّ لمساحات واسعة من التفكير، وتحتاج إلى تركيز خاصّ، لا إلى قراءة واحدة، لاكتشاف روابط أخرى تخفيها شيخة حليوي خلف ستار لغتها.

 

 

حسام معروف

 

شاعر ومحرّر. عضو هيئة تحرير مجلّة 28 الغزّيّة، ويدير أنشطتها. يدير صفحة بيانات الأدبيّة على 'فيسبوك'. عضو مؤسّس في التجمّع الشبابيّ من أجل المعرفة 'يوتوبيا'. حاصل على جائزة متحف محمود درويش عن قصيدة النثر (2015)، وجائزة مؤسّسة بدور التركي للتنمية الثقافيّة (2015) والتي صدرت في إطارها مجموعته الشعريّة، 'للموت رائحة الزجاج".