بورتريه لبلاد الباسك

في مدينة فيتوريا - الباسك | عدسة عايشة ياسين

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

في بار صغير في الحيّ القديم من مدينة فيتوريا - جاستيز Vitoria-Gasteiz، يرفرف العلم الفلسطينيّ. أسأل عن صاحب البار، وإذا برجل في منتصف العمر، طويل القامة، صاحب لحية سوداء، وهيبة مصاحِبة لحجمه وصوته الجهير يطلّ من وراء البار. عند استفساري عن العلم فوق مدخل البار، يقول لي ألبرتو إنّ النادلة إتشازني قد علّقت العلم؛ لأنّها ترى القضيّة الفلسطينيّة قضيّة عادلة. على الحائط رُسمت ملامح خريطة بلاد الباسك، ضامّة سبع محافظات: أربع محافظات في إسبانيا: نافارا وفيزكايا وأرابا وجيبوزكوا، إضافة إلى ثلاث محافظات في جنوب فرنسا: سول ولومباردت ونافارا السفلى. هذا التفسير سيوضّح رسومات الجرافيتي الّتي سأراها في أرجاء بلاد الباسك: “4+3=1”؛ أي أنّ جميع المحافظات على طرفَي حدود إسبانيا - فرنسا تابعة لوطن وثقافة واحدة، ألا وهو وطن الشعب الباسكيّ "El País Vasco". بجانب الخريطة، عُلّق منشور ينادي بإعادة السجناء الباسكيّين إلى المنزل؛ أي أنّ هناك العديد من المساجين السياسيّين في سجون إسبانيّة بعيدة عن بلاد الباسك، ستشرح لي صديقتي لاحقًا عن التاريخ الدمويّ بين الحكومة الإسبانيّة وبلاد الباسك على مدار السنين، متجلّيًا بحركات مثل "إتا - eta" و"جلا - GLA".

 

اللغة

يُقال عن الباسك إنّهم أوّل شعب استوطن أوروبّا، وبهذا أُطلق عليهم لقب أقدم شعب أوروبّيّ. في القرن الماضي، حاول العلماء والباحثون دراسة أصول الباسك، خاصّةً أنّ لغتهم الـ "Euskera" لغة مثيرة للاهتمام، ليس لها أيّ علاقة بأيّ لغات أخرى بجوارها، فبينما لغة كاتالونيا Cataloniaامتداد بين اللغة الفرنسيّة واللغة الإسبانيّة، أو لغة جاليثيا Galicia امتداد بين اللغة الإسبانيّة واللغة البرتغاليّة؛ فليس للغة الباسك أيّ تشابه مع لغة أخرى؛ "شكرًا" بالأوسكيرا تعني "Eskerrik Asko"، "وداعًا" بالأوسكيرا تعني "Agur"، "مرحبًا" تعني "Kaixo". وقد اقترح علماء اللسانيّات تفسيرات عدّة لأصل اللغة؛ فثمّة مَنْ يعتقد أنّها قريبة من اللغات الكلتيّة، مثل الـ "Gaelic" في الجزيرة البريطانيّة، أو أقرب منها إلى اللغة الهنغاريّة، لكن هذه محض نظريّات بلا أيّ دليل قاطع.

 

لوحة تصف مباراة إلقاء الشعر في الريف الباسكيّ، التُقطت
في "متحف الفنون الجميلة" في مدينة بلباو | عدسة عايشة ياسين

 

على امتداد آلاف السنين، نجح الشعب الباسكيّ في الحفاظ على لغته وثقافته، على الرغم من أنّ أوّل نصّ كُتب باللغة الباسكيّة كان عام 1545، على يد راهب اسمه برنارد ديشبار Bernard Dechpare. قُبيل القرن السادس عشر، استُعملت لغة الباسك وسيلة تواصل شفويّة فقط؛ وبذلك نرى أهمّيّة الأساطير، والأغاني الفلكلوريّة والشعر الشفويّ. حتّى يومنا هذا، ثمّة تقليد شعر ارتجاليّ شفويّ يُسمّى"Bertsolarismo". وهذا الشعر شبيه بمباراة؛ إذ يُلقي الطرفان الأبيات الشعريّة الارتجاليّة المنظومة حسب بحور وأوزان معروفة في الموروث الشعريّ.

في الواقع، إنّ اللغة نسيج الشعب الباسكيّ؛ فهي الّتي ساعدت على نجاة فكرة الشعب الباسكيّ حضارةً وثقافةً غنيّةً ومختلفةً عن بقيّة أرجاء الجزيرة الإيبيريّة. خلال حقبة الدكتاتوريّة الإسبانيّة (1939 - 1975) تحت قيادة الجنرال فرانكو، مُنِع الباسكيّون من تحدّث لغتهم أو تعلّمها في المدارس. ربّما نجح النظام الفاشيّ في كبت الأفواه الباسكيّة في العلن ما يقارب 40 عامًا، لكنّ هذا زاد من عزيمة الباسكيّين على الحفاظ على لغتهم؛ فقد وحّدت "الأكاديميّة للغة الباسك"،  الّتي أُسِّست عام 1919، لغة رسميّة للباسك سُمّيت بـ "ـBatua" بعد انتهاء الدكتاتوريّة، وبذلك سهّلت التواصل بين المحافظات المختلفة؛ فكلّ محافظة تتكلّم لهجة مختلفة عن الأخرى. بُنيت المناهج التعليميّة، أُعيدت أسماء المدن الأصليّة، تُرجمت مئات الكتب للأوسكيرا، وشهدت المنطقة إحياء الموروث اللغويّ والثقافيّ. في يومنا هذا، من أجل العمل في مستشفيات بلاد الباسك أو العمل في مدارسها، على المتقدّمين للعمل تعلّم لغة الأوسكيرا.

 

استكشاف العالم

مبنى المجتمع في بلاد الباسك مرتكز على قيم تقليديّة؛ ألا وهي الكنيسة، والعائلة، والمجتمع. إنّ البيوت في القرى الباسكيّة تحمل أسماء خاصّة بها؛ إذ تُتوارث البيوت بين أفراد العائلة، وتصبح جزءًا لا يتجزّأ من كينونة الفرد وهويّته. يُقال سابقًا إنّ الناس عرّفوا على أنفسهم عن طريق أسماء البيوت: "أنا من بيت تشابي"، "أنا من بيت إيجورو". أمّا الأمر المميّز لهويّة الفرد في الباسك فهو علاقته الوطيدة بالأرض والطبيعة؛ على سبيل المثال، أسماء بيوتهم وأسماؤهم الشخصيّة عادةً تكون لها علاقة بالأرض أو بظواهر طبيعيّة: "أوداني" اسم فتاة يعني "القريبة من الصيف"، "إتشازني" اسم فتاة معناه "ما يُشبه البحر". في "جامعة بلاد الباسك"، يعود الطلّاب إلى منازل أهاليهم في القرى آخر الأسبوع، وهذا أمر مختلف لم أصادفه في بقيّة الجامعات الإسبانيّة، وإضافة إلى ذلك، معظم الشركات والمصالح عائليّة، تُوُورِثَت على امتداد عشرات السنين.

 

تجفيف الفلفل - الصورة في قرية أركايا، ضواحي مدينة فيتوريا | عدسة عايشة ياسين

 

من أكبر المفارقات أو المشاهدات المثيرة للاهتمام حيال شعب الباسك، أنّه من جهة أولى شعب منغلق على نفسه، محافظ على تقاليده وعاداته، ومن جهة أخرى هو من أوّل المغامرين للخروج من الجزيرة الإيبيريّة لاكتشاف العالم الجديد. في القرن العاشر، غزا الفايكنغز الجزيرة الإيبيريّة لكن بلا أيّ نجاح، إلّا أنّ الباسكيّين استغلّوا هذه الغارة بتطوير السفن والقوارب حسب الطريقة الإسكندنافيّة؛ لذا فمن غير المفاجئ أن نرى أنّ العديد من البحّارين، الّذين رافقوا كولومبوس إلى العالم الجديد، كانوا من بلاد الباسك، وأنّ إلكانوا من قرية جاتاري أوّل مَن دار حول العالم في قارب بحريّ.

من أشهر ما يُميّز المجتمع الباسكيّ مطبخه؛ إذ يعتمد الأكل التقليديّ في الباسك على الكثير من الأسماك واللحوم والخضراوات، وقليل ما تُستعمل البقوليّات والحبوب كما في الشرق الأوسط. وفي هذا المجال أيضًا، حافظ الباسكيّون على تقاليدهم في الطبخ. ثمّة تقليد لتجفيف نوع خاصّ من الفلفل الّذي أحضره البحّارون من جنوب أمريكا إلى إسبانيا، وهو ما يُسمّى بـ "Choricero"، يُعَدّ هذا المكوّن السرّيّ أساسيًّا لطبخ سمك القدّ المملَّح، وهو من أهمّ الأطباق الباسكيّة وأشهرها.

 

"فلسطينيّو إسبانيا"

العديد من الباسكيّين - خاصّةً الوطنيّين منهم - يطلقون على أنفسهم "فلسطينيّي إسبانيا". ربّما العوامل التاريخيّة أو الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة في فلسطين وبلاد الباسك مختلفة، لكنّ الرغبة في الاستقلال عن دولة لا تمثّلهم نقطة التقاطع. العديد من الباسكيّين يدعمون الشعوب المناضلة للتحرّر، كالشعب الفلسطينيّ، والإيرلنديّ في شمال إيرلندا، أو الصحارى الغربيّة في المغرب الكبير. مثال آخر يُشير إلى التضامن مع الشعوب التحرّريّة، عدد الكوفيّات الفلسطينيّة حول أعناق الكثير من الشباب والشابّات هنا، ورأيت ملصقات معلَّقة في أرجاء المدينة تستذكر النكبة والقضيّة الفلسطينيّة.

اليوم، الوضع السياسيّ الحاليّ مستقرّ؛ إذ لم أرَ الكثير من المظاهرات الداعمة للاستقلال عن إسبانيا، إلّا أنّ مؤشّرات كثيرة في الحياة اليوميّة تدلّ على عدم الانتماء والشعور بالغربة عن إسبانيا والفخر الإسبانيّ. مثلًا، الناس هنا لا يسمّون اللغة الإسبانيّة بالـ "Español" مثل أماكن أخرى، بل يسمّونها باسم المنطقة الّتي وُلدت فيها اللغة "Castellano"؛ أي لغة مملكة كاستيلا قبل توحيد الممالك جميعها تحت حكم كاستيلا وأراجون  Aragon y Castilla عام 1492.

ملصق "NAKBA" في شارع قرب "جامعة بلاد الباسك" في فيتوريا | عدسة عايشة ياسين

 

غضب...

رأيت أنّ أكبر هموم طلّاب الجامعات والناشطين اجتماعيًّا السياسة الاقتصاديّة؛ أي أنّ ثمّة وعيًا نحو إنشاء نظام اقتصاديّ اشتراكيّ بعيد عن الرأسماليّة. هذه مفارقة كبيرة، خاصّة أنّ بلاد الباسك من أغنى المناطق في إسبانيا، ومن أوّل المناطق لتطوير الصناعة والتجارة في الجزيرة الإيبيريّة. إضافة إلى ذلك، ثمّة شعور طاغٍ بالغضب تجاه الشرطة وحرس الحدود، خاصّة لوجود شعور بالظلم والإجحاف بحقّ الباسكيّين بشكل خاصّ، وعلى سبيل المثال، منذ 3 سنوات اندلع شجار بين بعض الشباب وشرطة الحدود في بار صغير، واعتُقل سبعة شباب وشابّة في العشرينات من أعمارهم. في تشرين الأوّل (أكتوبر) 2019، حكمت المحكمة الإسبانيّة بعد 3 سنوات من المحاكمات بزجّهم في السجن، لفترة تتراوح بين سنتين وأربع سنوات.

أصدقائي في فيتوريا يشعرون بالكثير من الغضب تجاه النظام القضائيّ هنا، وهذا شعور موجود أيضًا لدى المجتمع الكتالانيّ في برشلونة، خاصّةً بعد قرار المحكمة بسجن تسعة سياسيّين في برشلونة، في تشرين الأوّل (أكتوبر) عام 2018.

بلاد الباسك بلاد جميلة جدًّا، بجبالها الخضراء وسواحلها الممتدّة على طول المحيط الأطلسيّ، بلُغتها القديمة وأساطيرها الرائعة، بمطبخها العريق، وتقاليدها، وموسيقاها الّتي لا تزال متجذّرة في الجيل الجديد حتّى يومنا هذا.

 

 

عائشة ياسين

 

 

تقيم في حيفا. متخصّصة في الأدب واللغة الإنجليزيّين، وتدرس الكتابة الإبداعيّة.