الثالثة صباحًا في "هيرمان بلاتز"

عدسة نوّاف رضوان

 

رائحة البول تتسلّق الحيطان الصفراء العالية. لقد وصلنا إلى محطّة "هيرمان بلاتز". هنا مترو الأنفاق، هنا يتحوّل الإنسان بكامل قيافته إلى فأر برلينيّ بامتياز، فأر بنّيّ يضع السمّاعات في أذنيه ويذوب بين ملايين الفئران الأخرى.

السلام عليكم يا سيّدنا هيرمان!

وعليكم السلام… Willkommen Brüder.

كلّ شيء هادئ. قناني البيرة الفارغة في كلّ مكان ومدمنو الهيروين نائمون على مقاعد المحطّة الضيّقة، لقد أخذوا جرعة ما قبل النوم وغابوا عن الوجود. لقد سَحَلوا من الحياة مثل بنطلون واسع… انظر إليهم، انظر إلى هذه الملائكة الجميلة التي تغطّ في نومها البريء.

ها هي المدينة أمامك أيّها الفيلسوف الكبير. هنا يتعلّم الإنسان كيف يشرب البيرة مثل فقير ويتبوّل مثل ملك! 

لقد تجاوزت الساعة الثالثة فجرًا، سوف ننتظر تسع دقائق حتّى يصل القطار، وتسع دقائق مثلها حتّى تصل إلى المنزل. لا شيء يحدث، البرد يتسلّل إلى المحطّة من النفق، وكلّ ما تحتاج إليه في هذه اللحظة، كتف حنونة تسند إليها رأسك المليء بالحصى والكلام.

لقد شربت عن عشرة رجال ولم أعد أستطيع الوقوف! يا إلهي… يا كلّ آلهة السماء! كيف يمشي الناس؟ كيف يضعون قدمًا أمام الأخرى؟ كيف ينهضون بهذه البساطة؟ أسئلة كثيرة ترنّ في رأسك الفارغ وأنت تغالب النعاس، بينما صديقتك رأسها على كتفك وتنام، ولا يتبقّى أحد في المحطّة أحد سوى أنت، وهذه الإبر المغروزة في بعض الأوردة النشيطة.

نظرت إلى أقدامي… لم تكن سوى سيقان دجاجة؛ هذه السيقان الّتي تحمل 30 عامًا من الصراخ المستمرّ. دجاجة فلسطينيّة بيّاضة لا يهمّها شيء، تقاقي وتبيض… تقاقي وتبيض، دجاجة ترتدي نظّارات شمسيّة وتجوب مطارات العالم، دجاجة تصرخ وتولول وتضحك وتبكي وتهرب وتركض في الأنحاء، دجاجة تشرب التيكيلا في البار وترقص مع الجميع، العرب والأتراك والبولنديّين والألمان واليهود والنازيّين الجدد والفاشيّين والمظلومين ومسحوقي العالم... ترقص مع الإمبرياليّة والرأسماليّة والبروليتاريا الرثّة… ترقص مع كلّ شياطين الأرض ولا تتعب. دجاجة ترقص بعنف وتهزّ أجنحتها وتحت إبطيها وتشعل الجوّ.

البرد ينخر العظم في الخارج. هنا يتملكّك هاجس بالهرب، الهرب من كلّ شيء؛ أن تفتح باب البيت وتخرج دون هدف، أن تمشي وتمشي حتّى تهترئ أقدامك وتذوب مثل عيدان الشوكلاطة، وعندما تموت… تموت وحيدًا. هذا ما أستطيع أن أعدك به، لا شيء غير ذلك. تعيش وحيدًا وتأكل وحيدًا وتتفرّج على التلفزيون وحيدًا وبدون شكّ سوف تموت وحيدًا. انظر إلى ثلّاجتك وسوف تفهم ما أتحدّث عنه. أيّها الرجل الثلّاجة. انظر إلى هاتفك، لم يرنّ منذ أكثر من 12 يومًا، لا أحد يتذكّرك على الإطلاق. انظر إلى الأنتينا المتدلّية من رأسك الكبير. إنّها مرحلة الجنون يا عزيزي، المرحلة الّتي سوف تفقد بها صوابك، هذا الصواب الّذي سيهرب منك نحو الشارع مثل كلب "تشيواوا" أبله وتدهسه سيّارة مسرعة.

إنّها المرحلة الّتي سوف تأكل فيها طرف خزانة الملابس وتلعق الحائط، المرحلة الّتي ستحمل فيها كيس القمامة الأسود الكبير الجميل وينفجر بين يديك، وتخرج منه قرود وفيلة وزرافات طويلة وغابات وعصافير. هذا ما ينتظرك على الجانب الآخر من الحكاية.

الجنون يتمرجح في حديقة بيتك الخلفيّة. قلبك مغناطيس كبير وحديد الأرجوحة يزعق في أذنيك. انظر جيّدًا… لقد أصبح عندك بيت وحديقة وزوجة وأطفال فجأة.

أنا لست متزوّجًا وليس لديّ أطفال… بالإضافة إلى أنّه ليس لديّ حديقة.

ثمّة حديقة خضراء خلف أذنيك الكبيرتين… ركّز قليلًا وسوف تراها.

قد تستيقظ من النوم وقد لا تستيقظ. استيقظت أخيرًا. زعق الصوت في رأسي مثل قطار قديم يحاول التوقّف!

نظرت حولي فوجدت كأس ماء إلى جانب السرير! كان حلقي قد تحوّل إلى حراشف أفعى ميّتة… شربتها على عجل. أنا في غرفتي، وهذا سريري، وتلك الملابس المجعلكة على الأرض ملابسي!

الصداع مدحلة أسفلت تسير في رأسك الناعم… لا أعرف كيف وصلت إلى هنا! لكنّني وصلت وهذا هو المهمّ. كلّ شيء يبدو مكانه، الطاولة والكومبيوتر والصور المعلّقة على الحيطان... كلّ شيء لي!

لحظة… ما هذا؟ يبدو أنّه ذيل حصان! أستطيع رؤيته من طرف الباب! أستطيع رؤية حوافره الثابتة في الأرضيّة! كيف يمكن لهذا أن يحدث؟ حصان يقف في صالون بيتي! برلين سيّئة سيّئة سيّئة.

رفع الحصان ذيله فجأة وبدأ بالتغوّط على الأرضيّة الخشبيّة الجميلة.

راح الديبوزيت يا عالم… راح الديبوزيت يا ناااااس!

قفزت من فرشتي كمن لسعته نحلة الحياة على قفاه الواسع، قفا بترمح فيه الخيل، وها هي خيلي تنتظرني في الكوريدور. 

بالأمس رأيت الله. هذا ما أذكره. قابلته في القدس العتيقة… كان رجلًا مهذّبًا في الحقيقة، كان طيّبًا وكريمًا وجنتل، وأصرّ أن يدفع الفاتورة؛ اثنين فلافل واثنين شاي.

كانت المدينة على كفّ عفريت؛ الجنود في كلّ مكان وأحصنة الشرطة تغلق جميع المداخل… كانت هادئة وواثقة وروثها يملأ الأسفلت، والمواجهات على وشك الاندلاع.

كنّا نتمشّى في الأزقّة الصغيرة، تحدّثنا في أشياء كثيرة. سألته إن كان موجودًا أم لا، سألته عن الجنّة والنار والسراط المستقيم! لماذا خلقتنا؟ ما هي خطّتك الخمسيّة القادمة؟ هل تشعر بالألم مثلنا؟ كيف ستنتهي هذه الحياة؟ هل تؤمن بوجود إله؟

كنت مزعجًا في أسئلتي السخيفة واللانهائيّة. سؤال تلو الآخر وزقاق تلو الآخر، حتّى رآنا جيب عسكريّ من بعيد. اقترب منّا ونزل منه الجنود، كاملين بأسلحتهم وبساطيرهم الأنيقة، كانوا أربعة ومن بينهم شلومو، تعرفون شلومو، حدّثتكم عنه من قبل...

تقدّم إلينا وهو يتحسّس مسدسه فوق خصره:

شو بتعملوا هون؟

ارتجفت للحظة، نظرت لله إلى جانبي وأجبت على الفور:

بوكر طوف شلومو… ولا إشي والله… هيك بنتمشّى بعد الغدا يعني…

طلب شلومو هويّاتنا، بينما كان ينظر الله إليّ مرتبكًا... أخرجت هويّتي الزرقاء، بينما أخرج هو هويّة خضراء جديدة. 

فتح شلومو الهويّة الزرقاء، حدّق في وجهي قليلًا… ثمّ فتح الهويّة الخضراء وحدّق في ضيفي.

إنت إلوهيم؟

نعم أنا هو…

إيدك لفوق ووجهك للخيط خبيبي...

رفعنا أيدينا فورًا. لا مجال لأيّ حركة خاطئة هنا... شلومو غبيّ، لا تعبث معه لأنّه سوف يؤذيك، لا تضع يديك في جيوبك، سوف يجرحك، سوف يطلق عليك الرصاص في مؤخّرتك الطريّة إذا لزم الأمر… شلومو بلطجي وما بيخاف الله.

بدأ بتحسّس جسدي. الصدر والخصر ثمّ الأقدام. كان إلوهيم مرتبكًا، يرفع يديه الطويلتين، كان يسترق النظر إليّ بين الحين والآخر وينفّذ ما يأمره به شلومو… ارفع أقدامك… لا تتحرّك… هسس… هوب!

نظر إليّ شلومو بعد أن أنهى التفتيش...

معك سكّينة؟

 والله ما معي غير ربّ العالمين.

لا شيء. إنّه الخوف يا صاحبي. الخوف الّذي ينخر ركبتيك مثل السوس. لحظة واحدة يتوقّف فيها الزمن، ولا تسمع إلّا سقوط روث الحصان على الأرض...

إنّه الخوف. والخوف مزمار أيّها الرجل الطيّب، انفخ فيه وسوف تخرج كلّ هذه الأفاعي من جحورها، سوف تتراقص في حضنك الدافئ، أفاعي تتلوّى أمامك وأنت عليك أن تعزف. لم يعد هناك مجال للتوقّف، إن توقّفت سوف تبتلعك مثل نعجة ضالّة… عليك أن تعزف، عليك أن ترقّص هذه الأفاعي… عليك أن تنفخ في هذا المزمار للأبد. إنّها الورطة الكبرى!

إنّه الخوف. مصباح معلّق بالسقف، مصباح يضيء وينطفئ وأنت تجلس تحته حاملًا فاتورة آيكيا.

إنّه الخوف. صوت بعيد يهزّ أعماقك

شاحنة محمّلة بالكرز اصطدمت بالحياة على الطريق السريع… ومنذ ذلك الوقت تغيّر الطعم في فمنا.

 

 

نوّاف رضوان

 

 

شاعر وكاتب. درس اللغة العربيّة وآدابها في الجامعة الأردنيّة. عمل محرّرًا في موقع عرب 48. صدرت له مجموعة شعريّة بعنوان 'الصلاة الأخيرة على بوّابة الكنيسة' (2013)، ومجموعة نصوص تحت عنوان "حقيبة مليئة بالضحك" (2018). مهتمّ بالتصوير والسينما.