التربية العربيّة الحديثة: جماعات فرعيّة ومَرْكَزَة للمعلّم

طلّاب مرحلة أولى في مدرسة مغربيّة | أندريا كافاليني

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

"من الناحية التربويّة، لا يمكن تعزيز التعليم من أجل الديمقراطيّة من خلال التربية الإسلاميّة، الّتي تركّز على المعلّم أو التعليم والتدريس، من خلال الحفظ عن ظهر قلب والفهم الحرفيّ القائم على النصّ والتحفيظ والتقليد. حقيقةً، في الطرق التقليديّة تكون تربية الأطفال، واحترام المدرّس بشكل خاصّ، مثل عربة تقودك إلى النصّ المقدّس، وقد يكون الظنّ بقدسيّته. ومن المهمّ لنا أن نقول بوضوح إنّ النصّ مقدّس، لكنّ المعلّم ليس مقدّسًا"[1].

اقتبست هذه الكلمات تحديدًا من دراسة صدرت حديثًا، تتحدّث عن التربية الإسلاميّة الراهنة، وتضع أمامنا مشكلاتها، وتقدّم أطروحات نقديّة للتربية عمومًا. ما لفتني في الدراسة وأودّ مناقشته، إشكاليّة العلاقة بين المعلّم والطالب في سياقنا العربيّ، بالموازاة مع فهم الجذور التاريخيّة الكولونياليّة للأنظمة التربويّة الحديثة ومضامينها، وكيف تشكّل منظومة "قهر" معرفيّة.

بدايةً، سأناقش نقد التربية ضمن النظريّات النقديّة الّتي وضعها التربويّ باولو فريري (Paulo Freire)، الّتي تنظر إلى التربية بوصفها استمرارًا للسياسة والقهر والاضطهاد. وهنا نناقش ماذا يعني "تمركز المعلّم" في العمليّة التربويّة في سياقنا؛ أهي فقط أداة تربويّة محايدة، أم أيضًا استمرار للاستعمار في المنطقة العربيّة عمومًا؟ ما يحيلنا إلى فهم الشبكة التربويّة الإسلاميّة وتقاليدها في السياق الراهن، وكيف تُوَظَّف لخدمة بنًى استعماريّة راسخة، من خلال نماذج تربويّة ومضامين عربيّة وإسلاميّة لا تعالج مشكلات الحاضر، السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وتعزلها عن الواقع، عبر التحكّم بالطالب وقهره وكبته، وتشكيل المعلّم دورًا أساسيًّا في العمليّة التربويّة.

 

"تربية المقهورين"

قصَد فريري من خلال نظريّاته، أن نعيد التفكير في التربية؛ في عمليّة التعليم ذاتها من جهة، وأيضًا في الغايات الاجتماعيّة ومقاصدها من جهة أخرى، وهكذا تتشكّل سيرورة التربية، وأن تكون التربية النقديّة هي العلاقة بين الأمرين معًا، من خلال تفكيك التربية الّتي تقوم على "تمركز المعلّم"، والّتي ترى به المرجعيّة الوحيدة والسلطة الّتي تحتكر المعرفة، وتعتبر الطلّاب ألواحًا فارغة، على المعلّم أن "يملأها، ويضيف إلى هذه الألواح الفارغة".

قصَد فريري من خلال نظريّاته، أن نعيد التفكير في التربية؛ في عمليّة التعليم ذاتها من جهة، وأيضًا في الغايات الاجتماعيّة ومقاصدها من جهة أخرى، وهكذا تتشكّل سيرورة التربية...

إذن، فريري يوضّح أنّ عمليّة التعليم تحمل أيضًا عمليّة التعلّم؛ بمعنى أنّ العلاقة والتواصل بين المعلّم والطالب يعبّران عن ديالكتيك التعلّم: كما المعلّم يبثّ معرفة، فهو أيضًا يستقبل معرفة من الطالب؛ هي عمليّة اجتماعيّة ضمن سياق تاريخيّ وسياسيّ واقتصاديّ[2].

التعاطي مع الطالب، موضوعًا أو شيئًا وفاقدًا للفعاليّة، لفت نظر فريري إلى علاقة النسق السياسيّ الاستعماريّ ببناء هذه المنظومة التربويّة، أداةً لقهر الطلّاب المستعمَرين، وهو ما يتلاءم مع الشكل السياسيّ والاقتصاديّ الّذي يهتمّ بتحويل العلاقات بين الذوات الفاعلة، لعلاقات بين "الأشياء"، وإخراج السياقات السياسيّة من عمليّة التربية، وعزلها بين معلّم يمرّر موادّ لطلّابه. وفي هذا المشهد بالضبط، تُنْزَع إنسانيّة الطالب، المقهور اجتماعيًّا وتاريخيًّا وسياسيًّا، في عمليّة التربية[3].

نموذج فريري النقديّ، تبلور من خلال علاقته بالمجتمع الفلّاحيّ في البرازيل، وارتكز على بناء نظريّاته في التربية من خلال تجربته مربّيًا ومعلّمًا للفلّاحين، أو المقهورين (وفقًا للمصطلح الرائج في نظريّته)، وحقّق نجاحًا في تعليمه الكتابة والقراءة لمئات الفلّاحين والعمّال، خلال مدّة قصيرة؛ وهذا ما دفع الحكومة البرازيليّة حينذاك إلى افتتاح مراكز جماهيريّة وثقافيّة في جميع أنحاء البرازيل، تتّبع أسلوبه وطريقته في التعليم.

ممّا يبيّن أثر فريري في تغيير مفهوم المعلّم أو دوره، بالموازاة مع طروحات ومضامين "إشكاليّة" للطالب، توجّهه إلى التساؤل وطرح المشكلات. حدّث فريري عن تجربة مع الفلّاحين، رأى من خلالها كيف يكون قمع ذواتهم واستحقارها واضطهادها، وكيف من الممكن الخروج من ذلك عبر التربية النقديّة، أي الحوار.

"ليس من النادر أن تجد الفلّاحين يناقشون أمرًا ما مع معلّمهم، في منتهى الحيويّة، ثمّ تجدهم فجأة يقفون ليقولوا: ‘المعذرة، علينا أن نصمت لتتكلّم أنت، فأنت الّذي تعلم، أمّا نحن فلا نعرف شيئًا‘. فهؤلاء الفلّاحون يصرّون على أن لا فرق بينهم وبين البهائم، وإذا اعترفوا بوجود فرق فإنّه لصالح البهائم؛ لأنّ لديها قدرًا من الحرّيّة. غير أنّ هذا النوع من تحقير الذات يأخذ في التلاشي، عند أوّل مرحلة من مراحل إزالة القهر؛ فقد سمعت فلّاحًا يقول في اجتماع الوحدة الإنتاجيّة: لقد تعوّدوا أن يقولوا لنا إنّنا غير منتجين وكسالى، وتلك أكاذيب، أمّا الآن، وقد عوملنا كبشر، فسيعلم الجميع أنّنا لم نكن سكارى ولا كسالى، بل كنّا مستغلّين".

التعاطي مع الطالب، موضوعًا أو شيئًا وفاقدًا للفعاليّة، لفت نظر فريري إلى علاقة النسق السياسيّ الاستعماريّ ببناء هذه المنظومة التربويّة، أداةً لقهر الطلّاب المستعمَرين...

وأعتقد أنّ في هذا الاقتباس تتّضح أهمّيّة النموذج الّذي يتبعه فريري، بالمعنيَيْن الاجتماعيّ والسياسيّ: ربط التربويّ بجميع أشكال القهر والاستغلال، وبناء برنامج تربويّ يُسائِل هذه المنظومة، من خلال حوار بين المعلّم والطالب، إزاء منظومة القهر، والتغلّب عليها معرفيًّا، بالموازاة مع التغلّب عليها مادّيًّا وسياسيًّا. وفي هذا السياق، أعتقد أنّ هذا ما وصل إليه السكاكيني بدايات القرن الماضي، إزاء التعليم، وغايته في تكوين الطالب، حتّى يكون ناقدًا:

"إنّ التعليم عندنا ليس ادّخارًا ولا استظهارًا... بل هو حياة واستعمال، نُعَلِّم طلّابنا التاريخ لا ليعرفوا التاريخ، بل ليكونوا مؤرّخين، نُعَلّمهم الأدب لا ليعرفوا أصول الأدب، بل ليكونوا أدباء، نُعَلِّمهم اللغة العربيّة لا ليعرفوها، بل لينزلوا منها منزلة أهلها، نُعَلِّمهم الرياضيّات لا ليعرفوها، بل لتكون لهم أدمغة رياضيّة"[4].

تَشَكُّل طالب ناقد في مجال دراسته، يتساءل ويحاور، هو الغاية من التربية ووجودها ضمن مجتمع، ونُظُم سياسيّة واقتصاديّة. إذن، التربية النقديّة تتأسّس على ثلاثة أعمدة: الأوّل يعتمد على تشكيل فضاء حرّ، بين المعلّم والطالب، علاقة ديالكتيكيّة، يتعلّم منها الطالب، بالموازاة يتعلّم منها المعلّم أيضًا، من خلال حوار دائم، ونقاش، وطرح مشكلات وتساؤلات في الموضوع. العمود الثاني هو الفضاء الحرّ في عمليّة التربية، وعليه أن يكون واعيًا لسيرورة القهر والكبت لدى الطالب، في سياقه التاريخيّ المهمّش، سواء كانوا مستعمَرين أو فلّاحين أو عمّالًا أو مثليّين أو مهاجرين، والعديد من المجموعات المُقَوَّضَة إنسانيّتها. والعمود الثالث مضمون التعليم، ونزع المعرفة الأورومركزيّة، في ما يخصّ اشتباك التربية مع نُظُم القهر والاستغلال، ومحاولة استعادتها من منظور القوى المهيمنة عالميًّا على التربية، في التاريخ والاقتصاد والدين والفيزياء وغيرها من المواضيع، باعتبارها خاضعة لمسارات أوروبّيّة تُفْقِد الشعوب غير الأوروبّيّة الفاعليّة، تبقيهم في حيّز القهر والكبت.

 

الصناعة الاستعماريّة للتربية العربيّة

منذ بداية القرن العشرين، تشكّلت أنظمة تربويّة حديثة في المنطقة العربيّة ضمن المشهد الاستعماريّ، وهنا نودّ طرح جذور مشكلات التربية والتعليم عربيًّا، دون رصد التطوّرات التاريخيّة، الّتي كثّفت المشكلات الّتي نطرحها، علمًا أنّها ليست بدايات المشكلة؛ كالهجرة، والحرب، والانقلابات، والثورات، وما إلى ذلك، والتبعيّة بصفتها إطارًا عامًّا ونظريًّا لهذه المشكلات.

التربية المعاصرة في السياق العربيّ تبلورت بنيويًّا مع بدايات القرن الماضي، ومن ثَمّ فمن المهمّ مناقشة التجربة، وكيف تشكّلت أنظمة تربويّة تعمل على قهر الطلّاب وتعزيز دونيّتهم بصفتهم شعوبًا غير أوروبّيّة، في المقابل تحافظ على تقاليد تربويّة تحطّ من قدرة الطالب على الحوار والنقاش في العمليّة التربويّة، وفهم محاولات الإصلاح في أجهزة التربية التقليديّة الدينيّة: "الأزهر الشريف" في مصر، و"جامعة القرويّين" في المغرب، و"جامع الزيتونة" في تونس، نماذج.

التربية المعاصرة في السياق العربيّ تبلورت بنيويًّا مع بدايات القرن الماضي، ومن ثَمّ فمن المهمّ مناقشة التجربة، وكيف تشكّلت أنظمة تربويّة تعمل على قهر الطلّاب وتعزيز دونيّتهم بصفتهم شعوبًا غير أوروبّيّة...

عمدت الأجهزة الاستعماريّة في المنطقة لخلق أنظمة تربويّة مشوّهة، ما بين القديم والحديث؛ فهي ليست معدّة للتربية التقليديّة كما تطوّرت في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة تاريخيًّا، من خلال علاقاتها بين الفقيه ومُريده، والكتاب والاجتهاد وتعدّديّة المذاهب، والعديد من الأصول والقواعد الّتي تضمن فضاء حرًّا في سياقه، والنظام التربويّ الحديث بالمعنى الأوروبّيّ، أي القوميّ، المهتمّ ببناء أمّة، معرفةً وانضباطًا، وفقًا لمراحل عمريّة حدّدتها مقاييس أوروبّيّة، بدءًا من "الروضة"، فالمرحلة "الابتدائيّة" ثمّ "الإعداديّة" وأخيرًا "الثانويّة"، لإعداد الفرد للتعليم الأكاديميّ.

 

أ. التربية في المغرب: مضمون أورومركزيّ

لقد نشأت خلال القرن الماضي أنظمة تربويّة مشوّهة وغير قابلة لتمكين الطلّاب، بل قهرهم، كما يروي أستاذ علم الاجتماع محمّد فاوبار حول بدايات النظام التربويّ في المغرب، مع "عهد الحماية" عام 1912، أي انخراط أجهزة التربية الكولونياليّة، سواء الفرنسيّة أو الأجهزة الصهيونيّة، الّتي تُعْنى بتعليم اليهود المغاربة "الآليانس"، ولمّا تكن على صلة بالمنظّمة الصهيونيّة العالميّة بعد.

بداية، صاغت الأجهزة الكولونياليّة نظام التربية، عبر اختراق "الكتاتيب" التقليديّة، معزّزةً مضمونًا أورومركزيًّا يحطّ من الطفل المغربيّ قيميًّا، عبر دراسات وخطط لإعادة تأهيل النظام التربويّ، الّذي باتت له فروع عدّة وفق التقسيمات الإثنيّة/ الطبقيّة/ الدينيّة من منظور المستعمِر. في المقابل، عزّز الاستعمار مفهوم "تمركز المعلّم" في جميع الفروع التربويّة الّتي أسّسها؛ فجميعها يتشكّل على أساس الحفظ والإصغاء والإنصات والتكرار، وذلك جزء من منظورهم للفضاء التربويّ الإسلاميّ على أنّه يقوم في الأساس على حفظ القرآن وتكراره.

إنّ النموذج الكولونياليّ قائم على توازنات اجتماعيّة وهويّاتيّة عدّة، من ضمنها تمرير مضامين ونماذج حديثة، وهي في الأساس تقوم على فرضيّات استشراقيّة، وأيضًا عدم الإخلال بالهويّة لدى المجموعات المتعدّدة في المغرب، وبالتالي خلق أنظمة تربويّة تهتمّ باللغة الفرنسيّة ليكونوا طلّابها، وتحديدًا من الأمازيغ وأبناء المدن، جزءًا من النسق الأوروبّيّ.

صاغت الأجهزة الكولونياليّة نظام التربية، عبر اختراق "الكتاتيب" التقليديّة، معزّزةً مضمونًا أورومركزيًّا يحطّ من الطفل المغربيّ قيميًّا، عبر دراسات وخطط لإعادة تأهيل النظام التربويّ، الّذي باتت له فروع عدّة وفق التقسيمات الإثنيّة/ الطبقيّة/ الدينيّة...

واعتمد النظام التربويّ على خطّة تفصل بين المدارس العربيّة واليهوديّة والأمازيغيّة من جهة، وخلق مضامين لكلٍّ منها تتواءم مع ما اعتبره "خلفيّة ثقافيّة" خاصّة بكلّ جماعة، وبالتالي رَسَمَ المستعمِر مستقبل الأطفال وفقًا للجماعات الّتي نظر من خلالها فقط إلى المغرب. فروع النظام التربويّ تعدّدت مهمّاتها، منها يهتمّ بإعداد الطلّاب ليكونوا مهنيّين بناءً على خلفيّة العائلة والقرية، وفرع يهتمّ ببناء الطلّاب ليكونوا ضمن النسق الأوروبّيّ الفرنسيّ من خلال اللغة والمهارات، ومدارس فرنسيّة إسلاميّة، ومدارس يهوديّة "آليانس" لتعزيز الهويّة اليهوديّة الأشكنازيّة[5].

 

ب. التربية في مصر: ترقيعات في ثوب النظام القديم

أشار شيخ الأزهر والمفكّر عبد المتعال الصعيدي، إلى أهمّ نقاط الضعف في ما يخصّ النظام التربويّ والمضامين الإسلاميّة، الّتي يقدّمها لطلّابه مع بدايات القرن الماضي، وجاء نقده مع التعديلات الجديدة للمناهج في الأزهر، في عشرينات القرن الماضي. انتقد بدايةً التعديلات الجديدة، أو "النظام الحديث"، على أنّها ليست إلّا ترقيعًا لـ "النظام القديم"؛ وهي بالتالي تشوّه القديم، ولا تقدّم بديلًا حديثًا، بشكل مشابه لما حدث في المغرب.

ويتّضح أنّ الإصلاح الحقيقيّ كما أراده الصعيدي، يتأسّس على فتح أبواب الاجتهاد الّتي أُغْلِقَت في الأزهر خاصّة، وفقًا لمراجعته لمناهج الأزهر، وطُرق التعليم، والمذاهب، والكتب. والقصد من استعادة الاجتهاد مجدّدًا، نسق تربويّ يحقّق غايات التعليم للطلّاب، ويمكّنهم من إجراء إسهامات مهمّة في العلوم الدينيّة والفلسفيّة واللغويّة والطبيعيّة.

ورصَد الصعيدي المشكلات الّتي يعاني منها الأزهر، في مستويات عدّة؛ في المستوى الأوّل لاحظَ أنّ عدم أخذ نصوص التعليم والتربية من مصادرها الأساسيّة ومعالجتها وقراءتها، بل اعتماد كتب الشارحين، والحواشي، وشرح الشرح، تؤدّي إلى أمرين كما يقول:

أوّلًا- يتحوّل الطالب إلى جهاز حفظ للمعلومات في الشروحات والحواشي، ويبتعد تدريجيًّا عن الفهم للكتاب أو النصّ، ونقد الفقهاء والفلاسفة وعلماء الحديث وغيرهم؛ ما يجعل الطالب كاللوح الفارغ وعلى المعلّمين في الأزهر ملؤه. وهذه الإشارة من الصعيدي، تبيّن تقاربه مع فريري، حيال نقد ديناميكيّة تربويّة تُجَذِّر القهر للطالب، ولا تعطيه إمكانيّة المساهمة في هذه الموادّ[6].

الصعيدي - شاهدًا ومفكّرًا في فترة الإصلاح والأزمات التربويّة لـ "الأزهر الشريف"، ولا سيّما الّذي يعكس الحالة الاجتماعيّة للتربية في مصر - يبيّن لنا عمق الأزمة وتشكّلها في فترة ما يسمّى بالـ "النظام الجديد"، الّذي يعكس تشوّهًا حقيقيًّا للنظام التربويّ في الأزهر...

ثانيًا- الجمود المتعلّق بالمضامين الّتي يقدّمها الأزهر؛ فهي تقع ضمن المخطّط لإقصاء العديد من تقاليد التفكير الفقهيّ الإسلاميّ المغاير عن "الأشعريّة" المتجذّرة عميقًا في الأزهر. وكما يذكر الصعيدي، فهي تعمل على تثبيت جمود فقهيّ، يجري تمريره للطلّاب من خلال سلسلة من الكتب والطرق التعليميّة الّتي تثبّت قهر الطلّاب. في المقابل، فإنّ التعديلات الحديثة إزاء المضمون غير حاضرة، وحينما أصدر الشيخ المراغي مذكّرة لاستكمال إصلاح الأزهر، حاربته جميع القوى المناصرة للنظام القديم، الّتي قبلت على مضض بعض التعديلات الإداريّة، إلّا أنّها لن تقبل تعديلًا واحدًا إزاء المضمون في وقتها.

أعتقد ختامًا، أنّ الصعيدي - شاهدًا ومفكّرًا في فترة الإصلاح والأزمات التربويّة لـ "الأزهر الشريف"، ولا سيّما الّذي يعكس الحالة الاجتماعيّة للتربية في مصر - يبيّن لنا عمق الأزمة وتشكّلها في فترة ما يسمّى بالـ "النظام الجديد"، الّذي يعكس تشوّهًا حقيقيًّا للنظام التربويّ في الأزهر، وجمودًا في المضامين، وعلاقات تثبّت قهر الطالب، لصالح النصّ والمعلّم والتقليد.

إنّ فريري والصعيدي في هذا السياق تحديدًا، نرى بينهما تشابهًا إزاء المضامين وديناميكيّة التعليم، الّتي تضمن تحرّر تفكير الطالب، منغمسًا في المادّة أو النصّ، ويعتريه الحسّ والقدرة على التغيير والكتابة والتجديد.

..........

إحالات:

[1] Najwan Saada & Haneen Magadlah, "The meanings and possible implications of critical Islamic religious education,” British Journal of Religious Education (2020).

[2] باولو فريري، التربية للمقهورين والطريق للتحرير – نخبة من أدبيّات باولو فريري، ترجمة عن الإنجليزيّة مرزوق حلبي (واحة السلام: معهد الدراسات، مدرسة السلام، 2005)، ص 13-34. 

[3] Freire Paulo, Education for critical consciousness, Translated by M. B. Ramos (New York: Seabury, 1973) .

[4] عمر عبد الرحمن نمر، السكاكيني مربّيًا، بحث مقدّم للندوة الثالثة عشرة لاتّحاد جمعيّات مكتبات بلاد الشام (جامعة النجاح الوطنيّة، 2009).

[5] محمّد فاوبار، “سوسيولوجيا الإنتاج المعرفيّ الكولونياليّ بشأن التربية والتعليم في المغرب”، فصليّة عُمران للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، 5/ 17 (2016).

[6] عبد المتعال الصعيدي، تاريخ الإصلاح في الأزهر: صفحات من الجهاد في الإصلاح، ط1 (مصر: مطبعة الاعتماد، 1943)، ص 168-180.

 

 

محمّد قعدان

 

 

طالب في جامعة تل أبيب ضمن برنامج مُتعدّد التخصّصات؛ سوسيولوجيا، أنثروبولوجيا، تاريخ الشرق الأوسط، دراسات بيئيّة. عضو مؤسّس لـ "منتدى إدوارد سعيد في جامعة تل أبيب."