سحر خليفة... خروج الأدب على وليّ الأمر

سحر خليفة

 

بلا تجميل

في مئتين وواحدة وسبعين صفحة، تسرد الروائيّة الفلسطينيّة سحر خليفة حياتها ومسيرتها كاتبةً، في سيرة ذاتيّة أدبيّة بعنوان «روايتي لروايتي»، صدرت عن «دار الآداب» في بيروت عام 2018.

بأسلوبها السرديّ الواضح والجريء، تروي خليفة في أربعة أبواب أحداثًا وظروفًا اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة واقتصاديّة، أسهمت في تكوينها ثمّ إعادة تشكيلها بصفة «إنسانة»، ومن ثَمّ كاتبة. لا تكتفي خليفة في هذا العمل بتعرية حياتها الخاصّة أمام القارئ، بل تكشف كذلك كواليس إنتاج رواياتها بين عامَي 1972 و2002، وتولي مساحة مهمّة في للحديث عن الظروف الّتي أحاطت بكتابة رواياتها من مرحلة كتابتها المُتناوَلَة في هذا العمل ونشرها واستقبالها: روايتها غير المنشورة «بعد الهزيمة» (1972)، و«لم نعد جواري لكم» (1974)، و«الصبّار» (1976)، و«عبّاد الشمس» (1980)، و«مذكّرات امرأة غير واقعيّة» (1986)، و«الميراث» (2002).

 

ليس من السهل على أيّ كاتبة في المجتمعات العربيّة الغارقة بالتابوهات، مشاركة حياتها ومكنونات نفسها مع القارئ، لكنّ خليفة الّتي تُعَدّ من أهمّ الروائيّين الفلسطينيّين، لم تُلْقِ بالًا لمجتمع لطالما ناهضت فيه من أجل حقوقها وحقوق النساء...

 

ليس من السهل على أيّ كاتبة في المجتمعات العربيّة الغارقة بالتابوهات، مشاركة حياتها ومكنونات نفسها مع القارئ، لكنّ خليفة الّتي تُعَدّ من أهمّ الروائيّين الفلسطينيّين، لم تُلْقِ بالًا لمجتمع لطالما ناهضت فيه من أجل حقوقها وحقوق النساء. لقد تبنّت البُعد النسويّ الثوريّ في رواياتها منذ بدايتها الأدبيّة، فتميّزت بصراحتها وأسقطت القناع عن وجه المجتمع المتسلّط، وأظهرته على حقيقته دون ماكياج؛ فليس من الغريب على كاتبة لم تَسْلم يومًا من الاتّهامات والانتقادات، أن تمتلك الجرأة والقوّة للحديث عن حياتها بكلّ صدق، بلا تجميل لا لنفسها ولا للآخر.

 

نصيحة إسماعيل شمّوط

في مقدّمة السيرة، تسرد خليفة ذكرى قديمة تعود إلى ستّين سنة، حين كتب إليها الفنّان التشكيليّ الفلسطينيّ إسماعيل شمّوط رسالة تشجيع، يحفّزها فيها على مواصلة الكتابة، ويحذّرها من «تكرير عادات المجتمع وممارساته»، ويدعوها إلى البحث عن «الظرف الخاصّ» الّذي من شأنه أن يساعدها على الإنتاج والإبداع.

تعترف الكاتبة منذ الصفحات الأولى، رغم وقوعها في الفخّ الّذي حذّرها منه أستاذها في بدايات حياتها، ورغم أنّها خضعت بسبب الظروف لتقاليد المجتمع، تعترف بأنّها بفضل صبرها وإيمانها ودعم الآخرين لها، استطاعت في ما بعد أن تتمرّد على واقعها، وتصنع بوصلة خاصّة بها، عملًا بنصيحة شمّوط.

تُفْصِح الكاتبة منذ البداية عن الرسالة الّتي تريد إيصالها في هذه السيرة، وهي التأكيد على أنّ الأدب "ليس اختراعًا أو خَلقًا، كما يدّعون، ولا عملًا خارقًا لا يقدر عليه إلّا النخبة، أو المصطفّون الحائزون على قدرات علويّة، تكاد لندرتها وقداستها تكون نفحة من نفحات السماء. فالأديب - كأيّ إنسان - ابن البيئة، بكلّ ما فيها من حلاوات ومرارات. وهي البيئة الّتي تُهيّئ للكاتب أجواءه، وتوحي إليه بمشاهد وشخوص وثيمات يُحَوِّلها إلى صور فنّيّة دراميّة، تعيد تصوير الواقع أو تشكيله أو ترميزه؟"[1].

 

بإذن من «وليّ الأمر»

وُلِدت الكاتبة في مدينة نابلس عام 1941، في مجتمع ذكوريّ تُسْتَقْبَل فيه ولادة البنات بالنحيب والتعازي في حينه، عاشت في عائلة يُقَدَّس فيها الرجل. لم يكن في ذلك المجتمع قيمة مهمّة للبنات، وكأنّهنّ "مجرّد زوائد دوديّة لا تصلح لشيء".

لقد وعت خليفة أنّها تُشَكِّل بسبب جنسها تهديدًا لأسرتها؛ فهي في نظرهم عورة، مصدر خوف، خيبة، عبئًا ثقيلًا لا يُنْتِج إلّا الهمّ، همّ البنات. باعتبارها «مشروع عارٍ متوقَّع»، زجّت الأمّ ابنتها في زواج تقليديّ وهي لم تبلغ ثمانية عشر عامًا. كان زواج الكاتبة تعيسًا، حوّلها من سحر الطفلة الّتي كان الجميع يصفها بالقوّة وخفّة الظلّ إلى امرأة "شمطاء بوجه أصفر ومزاج كئيب"[2]

في ظلّ الاحتلال، رحلت خليفة مع زوجها إلى ليبيا بعدما طُرِد للمرّة الثالثة من عمله. في طرابلس، عاشت حياة الفقر بصحبة زوجها المقامر، وبسبب تعنيف الأخير لها، بدأت بالتخطيط للطلاق. كانت تعرف أنّ الهروب بابنتيها من ليبيا شبه مستحيل، لأنّ القانون الليبيّ لا يسمح بمغادرة الزوجة إلّا بإذن مكتوب من «وليّ الأمر»، ولم تكن تملك ثمن تذاكر السفر أيضًا لها ولابنتيها. باقتراح من جارتها الّتي عرفت بقصّتها، انتسبت خليفة إلى مركز تدريب يؤهّل النساء للعمل، وهكذا تعلّمت الطباعة سرًّا في أثناء غياب زوجها في العمل، فحصلت على وظائف عدّة مكّنَتها من جمع المبلغ اللازم لتغطية تكاليف سفرها، وبذلك طلّقَت زوجها، فقد كانت العصمة في يدها بعد أن اشتراها لها والدها بعد ستّ سنوات من زواجها؛ فغادرت ليبيا بصحبة ابنتيها بعد الحصول على موافقة مكتوبة من زوجها، وكان طلاقها أوّل خطوات الحرّيّة وتحقيق الذات.

في مقدّمة السيرة، تسرد خليفة ذكرى قديمة تعود إلى ستّين سنة، حين كتب إليها الفنّان التشكيليّ الفلسطينيّ إسماعيل شمّوط رسالة تشجيع، يحفّزها فيها على مواصلة الكتابة، ويحذّرها من «تكرير عادات المجتمع وممارساته»...

رغم اهتمام خليفة بالرسم منذ سنّ صغيرة، إلّا أنّها انتقلت إلى الكتابة بعد أن كان زوجها يمزّق لوحاتها الفنّيّة، ووجدت أنّ الكتاب أسهل في الحمل وأرخص. لجأت إلى القراءة عندما أدركت أنّها تنتمي إلى جنس مستضعف تحت وصاية المجتمع الذكوريّ. حفّزت قراءة الكتب، وخاصّة الفلسفيّة منها، عقلها على التأمّل في ماهيّة الحياة، والتفكّر في الهدف من حياتها وكيفيّة مقاومة التيّار الاجتماعيّ المحافظ الجارف. لقد توصّلت في النهاية إلى وضع هدف لحياتها: العيش بحرّيّة. قرّرت أن تكون سيّدة نفسها بلا قيود. أدركت أنّ الخطوة الأولى نحو تحرّرها من سلطويّة الرجل، ونحو تحقيق ذاتها، الاستقلال المادّيّ؛ ولذلك قرّرت الالتحاق بالجامعة للحصول على وظيفة، ومن ثَمّ تتفرّغ للكتابة. لقد وعت مبكّرًا أنّ الكتابة وحدها لا يمكنها أن تمنحها الاستقرار أو الاستقلال المادّيّ.

عايشت خليفة أحداث نكسة 1967 وهزيمة الجيوش العربيّة أمام الجيش الإسرائيليّ. تسرد باقتضاب في سيرتها بعض مشاهد النكسة، وتلقي الضوء على مشاهد اللاجئين الّذين هُجِّروا بعد أن طردهم الجيش الإسرائيليّ من بيوتهم، ونقل بعضهم بالشاحنات وألقاهم على الحدود الأردنيّة، وقد فرّ الألوف منهم إلى نابلس. تكشف خليفة، بكلّ جرأة، حقيقة ما رأته من تخاذل أهالي نابلس عن مدّ يد العون إلى اللاجئين... تفضح المجتمع الفلسطينيّ بلا تردّد، هي لا تُظْهِر الفلسطينيّ ضحيّة أو بطلًا خارقًا، بل تعبّر عمّا شهدته بكلّ جرأة دون تجميل.

 

اكتشاف العالم

سعت خليفة بعد تحرّرها من قيود الزوج والزواج إلى اكتشاف العالم الّذي لا تعرفه في الخارج، وكان قبولها طالبةً في «جامعة بير زيت» القفزة الكبرى نحو تحقيق الأهداف الكبيرة. تصف الكاتبة الجامعة في السبعينات بأنّها "منارة، شعلة، بؤرة تنوير، على المستويين السياسيّ والاجتماعيّ. بيروت مصغّرة، بكلّ ما فيها من زخم سياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ"[3].

كانت خليفة مثابرة وجريئة بما يكفي لتبدأ الدراسة وهي في الثانية والثلاثين من عمرها، في الوقت الّذي لم يكن ذلك شائعًا في البلاد العربيّة، إلّا أنّها أصرّت على التعلّم...

كانت خليفة مثابرة وجريئة بما يكفي لتبدأ الدراسة وهي في الثانية والثلاثين من عمرها، في الوقت الّذي لم يكن ذلك شائعًا في البلاد العربيّة، إلّا أنّها أصرّت على التعلّم، ولم تخجل من الجلوس على مقاعد الدراسة إلى جانب مَنْ هم أصغر منها بأكثر من عقد. وهكذا صنعت الجامعة من تلك المرأة البسيطة إنسانة ثائرة فكريًّا لا ترضى بأنصاف الحلول ولا بالوصفات الجاهزة، كما حوّلتها من سحر الرومانسيّة إلى كاتبة أكثر واقعيّة وموضوعيّة؛ وهو ما كان له انعكاس واضح على ما تكتب.

تنقّلت خليفة بين بلدان ومدن متعدّدة لأسباب مختلفة، ما صقل تجربتها ووسّع آفاقها، وأسهم في بناء ثقافتها؛ فقد ولدت وعاشت في نابلس، درست في رام الله، تغرّبت مع زوجها وابنتيها في طرابلس، وأكملت دراساتها العليا في أمريكا، وقد زارت القاهرة وبيروت وعمّان وغيرها. كلّ مكان عاشت فيه يشكّل مرحلة معيّنة من حياتها الشخصيّة والمهنيّة؛ أثّرت هذه الأماكن بشكل أو بآخر في منظورها للحياة وللمجتمعات الإنسانيّة والثقافات على تنوّعها.

كان لمشاركة خليفة في إقامة أدبيّة في «جامعة إيوا» (Iowa) في أمريكا دور كبير في انفتاحها على الثقافات الأخرى. أسهمت تلك التجربة الدوليّة الفريدة في توسيع آفاقها، وتكوين ملاحظاتها الخاصّة عن الثقافات الأخرى، إضافة إلى نسج علاقات صداقة وزمالة مع كتّاب ومثقّفين عالميّين. لم تنحصر تجربة الكاتبة في أمريكا على تلك الإقامة الأدبيّة، لكنّها عادت بعد عامين لمواصلة دراسة الماجستير والدكتوراة في مجال «دراسات المرأة».

كان لعيشها في أمريكا دور كبير في تعزيز البعد النسويّ لديها؛ فهي أدركت أنّ المرأة حتّى في أمريكا، «بلد الحرّيّات»، تتعرّض لنفس الاضطهاد والتعنيف واستلاب الحقوق...

إلى جانب ما اكتسبته خليفة من أدوات البحث العلميّ خلال دراستها، الّتي انعكست بشكل مباشر على كتاباتها، كان لعيشها في أمريكا دور كبير في تعزيز البعد النسويّ لديها؛ فهي أدركت أنّ المرأة حتّى في أمريكا، «بلد الحرّيّات»، تتعرّض لنفس الاضطهاد والتعنيف واستلاب الحقوق، وتوصّلت إلى أنّ ما تعيشه المرأة على المستوى الشخصيّ، هو أساسًا حصيلة مفاهيم وممارسات وقوانين سياسيّة، نتجت بسبب وضع المرأة الاقتصاديّ والثقافيّ والدينيّ في المجتمعات.

 

أدب الحياة

استلهمت خليفة عملها الأوّل «بعد الهزيمة»، من أحداث النكسة الّتي شهدتها وعاشتها، وحوّلت تجربتها كامرأة في مجتمع ذكوريّ إلى رواية «لم نعد جواري لكم»، وفي رواية «الصبّار» تناولت موضوع عمل الفلسطينيّين في إسرائيل، الّذي كان موضوعًا شائكًا في زمن كتابة الرواية، و خلقت فيها عملًا فنّيًّا بعد أن وظّفت النهج الاجتماعيّ وأدوات البحث العلميّ، الّتي اكتسبتها من دراستها الأكاديميّة في «بير زيت». تحدّت خليفة التيّارات السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة، حين كتبت رواية «عبّاد الشمس»؛ لطرحها البُعد النسويّ وإثارتها موضوع تحرير المرأة بالتوازي مع تحرير الوطن. وانطلاقًا من حياتها الشخصيّة، ومن قصّة حبّ واهم عاشتها في «بير زيت»، كتبت «مذكّرات امرأة غير واقعيّة»، إذ تطرح فيها قضيّة المرأة وتحرّرها. واستلهمت خليفة رواية «الميراث» من واقع حياة العرب في أمريكا، ثمّ أعادت صياغتها عندما عادت إلى فلسطين، وأضافت إليها الصبغة الفلسطينيّة.

إلى جانب انشغال خليفة بقضيّة الاحتلال والسعي نحو التحرّر، هي دائمًا تحمل على عاتقها مسؤوليّة تغيير واقع المرأة في المجتمعات الذكوريّة، ولا سيّما في فلسطين، من خلال رواياتها؛ فهي ترى أنّ المرأة لا تقع فقط تحت ظلم الاحتلال، بل تعيش كذلك تحت اضطهاد المجتمع لها، وتحديدًا الرجل، اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا.

لقد توصّلت في النهاية إلى وضع هدف لحياتها: العيش بحرّيّة. قرّرت أن تكون سيّدة نفسها بلا قيود. أدركت أنّ الخطوة الأولى نحو تحرّرها من سلطويّة الرجل، ونحو تحقيق ذاتها، الاستقلال المادّيّ...

لقد استطاعت خليفة في هذه السيرة الذاتيّة الأدبيّة، أن تقدّم نموذجًا عن الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة والنفسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، الّتي صنعت منها الإنسانة والمرأة والكاتبة، الّتي هي عليها الآن.

"... وأنا، لو لم أكن فلسطينيّة، ولو لم أعش تجربة الاحتلال الرهيبة، وحياة امرأة عربيّة تقليديّة، ولو لم أحظ بظروف ساعدتني على نبذ الماضي، ولو لم أتدرّب على أيدي أساتذة بير زيت وأجوائها التنويريّة، فهل كنت كتبت رواياتي بهذا الشكل وتلك المضامين؟"[4].

تَعِد سحر خليفة بجزء ثانٍ من سيرتها الذاتيّة الأدبيّة، يتناول الروايات الّتي كتبتها بعد أوسلو والانتفاضة الثانية وضياع القدس، حسب قولها.

.........

إحالات:

[1] سحر خليفة، رواية لروايتي (لبنان: دار الآداب، 2018)، ص 6.

[2] المرجع نفسه، ص 16.

[3] المرجع نفسه، ص 119.

[4] المرجع نفسه، ص 6-7.

 

 

نسمة جبر

 

 

كاتبة فلسطينيّة تقيم في باريس. حاصلة على ماجستير في «الكتابة الإبداعيّة» من «جامعة باريس 8»،  وماجستير في «إدارة واتّصال المنظّمات» من «جامعة فيرساي سان كونتا أون إفلين».  صدر لها مسرحيّة بعنوان «أطفال قوس المطر» (2011).