غريبة في حيفا

اغتراب | فو غوانزهونغ

 

نادرًا ما سألت من أين تنبع غربتي مع أنّها رفيقتي منذ أن وعيت وجودي، أغربتي متوارثة عن أبي كموهبة الحكي أو عن أمّي، أم هي مكتسبة بسبب الظروف الخاصّة والعامّة الّتي شكّلت عبر سنوات طويلة خلفيّة لصقل هويّتي؟

بدأت غربتي قبل أن آتي إلى هذا العالم، وورثت بعضًا منها عن أمّي الّتي أمضت جلّ طفولتها ومراهقتها في دير فرنسيّ «البندكتين»، في القدس، عند جبل الزيتون، بعيدًا عن أهلها بسبب الفقر والظروف الصعبة بداية، ولاحقًا بسبب تقسيم القدس خلال النكبة عام 1948، وكان حلم والدتي أن تصبح راهبة، لكنّها أُجبرت على ترك الدير، وهُرِّبت من القدس الشرقيّة عبر «بوّابة مندلبوم» إلى عكّا، حيث نزح أهلها مع النكبة من قريتهم قيساريا، ولاحقًا تزوّجت من أبي، وانتقلت للعيش في الناصرة بعيدًا عن أهلها مرّة أخرى. وورثت السبب الأكبر لغربتي عن أبي، الّذي فقدَ وهو في الرابعة والعشرين من عمره بيت أهله وأرضهم، وحسابه في البنك، ووظيفته في جيش البحريّة الإنجليزيّ، وفقدَ تواصله مع أهل والدته وأصدقاء شبابه في الضفّة وخاصّة رام الله، والأنكى من ذلك أنّه أصبح لاجئًا في الوطن، ومُنِعَ من الرجوع إلى قريته قيساريا.

أخي البكر استصعب ترديد اسمي، فاختار أن يسمّيني «دَنّا»، وصار هذا اسمي في البيت، ودينيس بدل دينيز صار اسمي خارج البيت وتحديدًا في المدرسة؛ وهذا جعلني أعيش فصلًا تامًّا بين حياتي في المنزل وحياتي في المدرسة.

 

أبي الشيوعيّ الوطنيّ، الّذي دافع عن الأدب الفلسطينيّ في مقال له نُشر في «مجلّة الأديب» اللبنانيّة عام 1947، تحت عنوان «دفاعًا عن الأدب الفلسطينيّ»، اضطرّ إلى التنازل عن حلمه في أن يصبح شاعرًا، وعن بعضٍ من لغته الأمّ، وأتقن العبريّة ليصبح موظّفًا في نقابة العمّال الصهيونيّة «الهستدروت»، مرشدًا للشباب المتسرّبين من المدارس، ويعملون في ورشات صناعيّة مختلفة، وتسميتهم الرسميّة «الشبيبة العاملة والمتعلّمة».

حكاية اسمي شكّلت بداية اغترابي الفعليّ، وعكست قصّتي أمّي وأبي، اسمي فرنسيّ الأصل «دينيز»، وقد اختارته أمّي تكريمًا لرئيسة الدير الّذي تربّت فيه، سير دينيز، ووافق أبي مرغمًا على التسمية لأنّه كان قد اتّفق مع أمّي على أن تختار هي أسماء البنات وهو أسماء الصبيان. وتقبّل أبي الاسم الأعجميّ، وهو العربيّ الرافض لموضة الأسماء الأجنبيّة، الّتي أتت في أعقاب الانتداب البريطانيّ للبلاد، وكتب في ذلك قصيدة ضاعت في ما ضاع، وأمّي تذكر مطلعها فقط «واحدة سمراء واسمها بلانش...».

أخي البكر استصعب ترديد اسمي، فاختار أن يسمّيني «دَنّا»، وصار هذا اسمي في البيت، ودينيس بدل دينيز صار اسمي خارج البيت وتحديدًا في المدرسة؛ وهذا جعلني أعيش فصلًا تامًّا بين حياتي في المنزل وحياتي في المدرسة.

عام 1960، وأنا في الثانية من عمري، انتقلت مع أهلي إلى حيفا، حيث حصل والدي على وظيفة مرشد للشبيبة العاملة والمتعلّمة، فترك الناصرة وأهله هناك، واشترى (مقابل بيعه ذهب أمّي وأخذ القروض من بعض الأقارب الأكثر حظًّا مادّيًّا) بالمفتاحيّة غرفة ومطبخًا وساحة كبيرة، كانت يومًا سكنًا لخدم أهل الدار الأصليّين الفلسطينيّين، سكّان حيفا قبل 1948، الّذين طُرِدوا مع أغلب أهل حيفا من قِبَل العصابات الصهيونيّة والجيش البريطانيّ، وجرى الاستيلاء على كلّ ممتلكات المطرودين من قِبَل شركة «عميدار» الحكوميّة، الّتي أسكنت فيها مجّانًا القادمين الجدد من أنحاء أوروبّا، إلى جانب بيع بعض هذه الدور بالمفتاحيّة (خلوّ رِجل) للفلسطينيّين الّذين وفدوا إلى حيفا بحثًا عن لقمة العيش من قراهم القريبة والبعيدة. كانت شقّتنا في الشارع الفاصل بين «حيّ واد النسناس» الفلسطينيّ و«حيّ الهدار» الإسرائيليّ، وكنّا مع عائلة خالي، السكّانَ الفلسطينيّين الوحيدين في حيّ إسرائيليّ.

وفي حيفا بدأت رحلة غربتي الشخصيّة، أوّلًا لأنّنا عشنا بعيدًا عن أهل أبي: جدّتي وأعمامي الّذين لم تعجبهم مغادرة أبي المدينة العربيّة الناصرة، وانتقاله للسكن في حيفا مع اليهود، ولطالما سمعت في طفولتي كلامًا في ذمّ المدينة وبنات المدينة اللواتي تأثّرن ببنات اليهود، وصرن يلبسن الميني جيب ويرافقن الشباب.

والأصعب كان نشأتي في حيّ لا يسكنه إلّا الإسرائيليّون، حيث لم يكن لي ولإخوتي أيّ أصدقاء من أولاد الجيران، وقد عشنا في عزلة مفروضة، وتعرّضنا للإساءة يوميًّا، في طريقنا من المدرسة وإليها، أو إلى البقالة، أو إلى الفرن لخبز الطعام أو الأرغفة. والتعامل الوحيد معنا كان من خلال دعوتنا لنكون «غريب السبت»، الّذي تُوكل إليه أعمال ممنوعة على اليهود أيّام السبت، مثل إشعال الكهرباء أو الفرن، وهذا التعامل العنصريّ منعنا من النزول إلى الحارة واللعب هناك، فكبرت بدون أصدقاء طفولة، وبدون «حياة الحارة».

وفي حيفا بدأت رحلة غربتي الشخصيّة، أوّلًا لأنّنا عشنا بعيدًا عن أهل أبي: جدّتي وأعمامي الّذين لم تعجبهم مغادرة أبي المدينة العربيّة الناصرة، وانتقاله للسكن في حيفا مع اليهود، ولطالما سمعت في طفولتي كلامًا في ذمّ المدينة وبنات المدينة اللواتي تأثّرن ببنات اليهود...

ارتدت منذ أن كنت في الثالثة من عمري «مدرسة مار يوحنّا الإنجيليّة»، وهي مدرسة تبشيريّة اعتمدت المنهاج اللبنانيّ خاصّة في اللغة العربيّة، وكانت سلسلة «المشوّق» كتب تدريس اللغة العربيّة، وكان كلّ واحد منها ينتهي بالنشيد الوطنيّ اللبنانيّ، إضافة إلى نصوص لكتّاب لبنانيّين تتغنّى بجمال لبنان ومصايفه، وبحره، وجباله. ثمّ إنّ محطّة التلفزيون الوحيدة الّتي كانت متاحة أيّامها كانت «محطّة لبنان والمشرق»، وبما أنّنا لم نتعامل مع المنهاج الإسرائيليّ، ولم يكن ثمّة بديل فلسطينيّ، نشأت وأنا متأكّدة أنّني لبنانيّة منفيّة عن وطني.

إضافة إلى كلّ ما ذكرته، فُقِد أحد أقاربي، كان من المؤيّدين للحكم الإسرائيليّ، وهذا ما جعل أولاد «الرفاق» (رفاق الحزب الشيوعيّ آنذاك) يتّهمونني بالعمالة وأنا طفلة لم أتجاوز العاشرة من عمري، ويصفون أبي بـ «ذنَب حكومة»، وهذا الأمر ترك ندبة لا تزال آثارها في نفسي حتّى الآن، وجعلني أمتنع لسنوات طويلة عن الانتساب إلى أيٍّ من الأحزاب العربيّة في البلاد، حتّى تأسّس «التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ» فانضممت إليه، وقد علّقنا عليه أنا والكثيرون من أبناء جيلي الكثير من الآمال الّتي سرعان ما خابت، فألغيت انتسابي بعد سنتين، ومنذئذٍ أنا مقاطعة، وبشدّة، أيّ نشاط حزبيّ سياسيّ.

يتبع...

 

 

دينيس أسعد

 

 

 

باحثة في أدب الأطفال والحكاية الشعبيّة، وحكواتيّة مدرّبة على فنّ الحكي.