حيوانات منويّة مهرّبة

رصيد الصورة: حسن الجدي

 

"بهذه السهولة، حيوان منويّ يلقّح بويضة، حسنًا، لم يكن الأمر سهلًا بالنسبة لي."

بهذه الجملة بدأ الطفل ذو العشرة أعوام عرضه التقديميّ أمام لجنة تابعة للأمم المتّحدة، بعد أن عرض عليهم فيلمًا قصيرًا يوضح عمليّة التلقيح. بلع ريقه ونقل جهاز التحكّم من يده اليمنى إلى اليسرى وضغط على زرّ التنقّل بين الشرائح:

- بالنّسبة لي، بعد ثماني محاولات تهريب، وحين وافق السجّان على الزيارة، أخذ أبي من سائله المنويّ ووضعه في حبّة تمر بعد أن أزال نواتها، ثمّ انتظر الفرصة السانحة ليُوْصِلها إلى يد جدّي الّذي أخفاها بدوره في لباسه الداخليّ.

تبادلتُ وأعضاء اللجنة النظرات وفي عيوننا حيرة واندهاش، بلع رجل خمسينيّ ريقه ثمّ انتقل الطفل إلى الشريحة الثانية ومدّ يده مثل خبير في العروض التقديميّة ليشرح لنا خارطة توضح رحلة حياته قبل وبعد الرحم.

- إذن، وكما تلاحظون، سائل منويّ، حبّة تمر، يد جدّي، ثمّ إلى حافظة خاصّة تحفظه في النيتروجين المُسال؛ فحص العيّنة والتأكّد أنّها من أبي، جاهزيّتها للاستخدام. على الجانب الآخر كانت البويضات، تخصيب البويضات، ثمّ عمليّة إرجاعها إلى الرحم، ثمّ الانتظار.

كعضو في لجنة تتابع هذا العرض التقديميّ من طفل في العاشرة من عمره، لم يكن لديّ ما أقوله، حتّى الأعضاء بَدَوْا غير قادرين على طرح الأسئلة أو حتّى سؤال الطفل عن اسمه أو الطلب منه أن يتوقّف لأيّ سبب كان. رفعتُ يدي بتردّد كبير وفي نيّتي أن أطرح سؤالًا، لم أعد أتذكّر ما الّذي خطر في بالي حينها، ولكنّه فاجأني بأن قال:

- أشكر اهتمامك، سأتلقّى الأسئلة في نهاية العرض!

ثمّ تابع بثقة وحضور جاذبين للاهتمام:

- حين حصل الحمل، بعد خمسة عشر يومًا من إعادة البويضة إلى الرحم، عشتُ حياة طبيعيّة لطفل ينمو في رحم أمّه، ربّما هي المرحلة الطبيعيّة الوحيدة في حياتي. ثمّة فرق في الرعاية بكلّ تأكيد، لكنّه فرق لا يكاد يُذكر مقارنة بما حصل معي بعد الولادة!

قلتُ في نفسي: وهل ثمّة ما سيحدث؟

نقل جهاز التحكّم من يده اليسرى إلى اليمنى، ثمّ انتقل إلى الشريحة الّتي تليها:

- ما الّذي يحدث لك إن جئت إلى الحياة بهذه الطريقة؟

 تساءل الطفل، وتوقّعنا منه أن يُتْبِع سؤاله بجوابٍ يلخّص ما مرّ به حتّى الآن. إلّا أنّه لم يفعل. بل سكت وأخذ يحدّق في عيوننا مباشرة لعدّة ثوانٍ كانت الأطول في حياتي، ثمّ أشار بسبّابة يده الّتي تحمل جهاز التحكّم إليّ.

- أنتِ، أنتِ سيّدتي، هل لديك أطفال؟

 سألني ثمّ ارتكى بفخذه على الطاولة الملاصقة لشاشة العرض في رسالة واضحة إلى أنّه مستعدّ لسماع ما أقول. 

بلعتُ ريقي:

- لديّ! لديّ طفل في مثل سنّكَ، و... فقاطعني.

- هل يعيش حياة طبيعيّة؟

- أعني... نعم!

 أجبته دون تفكير. فحوّل نظره عنّي إلى شاشة العرض. 

- يتمتّع الأطفال المولودون حديثًا بعدّة خدمات أهمّها الرعاية الصحّيّة.

ثمّ سألني دون أن ينظر باتّجاهي وراح يمشي إلى لوح الكتابة بالقرب من شاشة العرض:

- ما اسم ابنك سيّدتي؟

- ماثيو! 

قلتُ وقد وقع في نفسي أنّه يتقصّدني بالأسئلة؛ ما أشعرني بحرج وضيق شديدين. 

"ماثيو"، كتب اسمه على لوح الكتابة ثمّ تابع:

- يُولد ماثيو لأبوين معروفين، فإن لم يُعْرَف الأب تسجّله الدولة باسم أمّه، فإن لم تُعْرَف أمّه يُسَجَّل ويأخذ كامل حقوق المواطنة الأميركيّة... أنت أميركيّة ألست كذلك؟

- نعم، أنا كذلك.

- ماذا لو وُلِدَ ماثيو لأب يرفض الاعتراف به؟ يستطيع إجراء فحص دي أن إيه ليُثْبِت نسب نفسه، وقد يترتّب على هذا الفحص نفقة وإرث وغيرها من المعاملات ذات الصلة.

كان يكتب أفكاره المرتّبة على لوح الكتابة حين باغتني بالسؤال:

- هل تؤمنين، أعني لو أنّ هذه ظروف يمرّ بها ابنك، هل تعتقدين بأنّ هذا حقّ لابنك سيّدتي؟

- نعم، بالطبع! أجبته وقد وصل التوتّر أقصاه.

- أعتذر عن توجيه أسئلتي لك بشكل خاصّ، لكنّني أردتُ أن أختزل البلد الّذي يدعم هذا الكيان المارق بشخصك الكريم، رغم أنّني أعلم يقينًا أنّك لا تدعمينه على المستوى الشخصيّ. على الأقلّ حين تكونين أمًّا.

- الكيان المارق. هل تعني... إسرائيل؟

- نسمّيها فلسطين الثمانية وأربعين؛ لأنّ وجودهم بيننا لن يطول. ليس ثمّة من داعٍ لتغيير اسم أرض لمصلحة كيان زائل، سيعود كلّ شيء إلى ما كان عليه.

حينها قام الرجل الخمسينيّ من كرسيّه بقربي وسأل الطفل بلغةٍ آمرة: 

- لكن لليهود حقّ في هذه الأرض كما لكم حقّ بها.

نظر الطفل إلى قدميه وهو يرقّص أداة العرض بيده:

- رغم أنّني في العاشرة من عمري، إلّا أنّني أعرف الفرق بين الديانة والكيان السياسيّ، فهل تستطيع التفريق بين هذين المصطلحين وأنت في الخمسين؟

- لقد تعرّض اليهود لظلم كبير ومن حقّهم أن يعيشوا حياة كريمة بعد كلّ ما عانوا بسببه، المحرقة والاضطهاد و...

- على رسلك سيّدي، ومن قال إنّنا لا نرفض الهولوكوست وكلّ الفظائع الّتي عصفت باليهود؟ نحن نرفض أن نقع وأهلنا تحت ظلم الفظائع نفسها.

احمرّت وجنتا الرجل وقد برز شريان في جبينه: هذا لا ينفي حقّ اليهود التاريخيّ في الأرض المقدّسة.

- ها أنت تخلط بين السياسيّ والدينيّ مرّة أخرى سيّدي، وإن يكن فسأجيب على مداخلتك؛ سيّدنا إبراهيم، عليه السلام، الّذي يُرْجِع اليهود بداية الدين اليهوديّ إليه، وإن كنتُ – بشكل شخصيّ- لا أتّفق معهم، استأجر بيتًا ليسكنه في الخليل؛ هذا يعني أنّ ثمّة شعوبًا كانت تسكن هذه الأرض الّتي حلّ ضيفًا عليها، ثمّ إنْ أردتَ الاستزادة تستطيع قراءة التوراة الّتي ستسرد لك قصصًا عن حرب اليهود واندماجهم مع مَنْ كانوا وما زالوا يسكنون الأرض المقدّسة. وبالعودة إلى إبراهيم، ممّن استأجر البيت الّذي سكنه؟ من الأشباح؟ نحن أشباح من لحم ودم سيّدي، هل تؤمن بأشباح من لحم ودم؟

بانت للمرّة الأولى على وجه الطفل بسمة مائلة، وأخذت الرجل الخمسينيّ الدهشة إذ لم يستطع الكلام.

- عليك أن تقرأ التاريخ سيّدي، بدون تحيّز هذه المرّة إن سبق وفعلتْ، وإن كنتَ  تبحث عن بعض المعلومات الّتي غابت عنك في عجالة، فتفضّل عليّ بالسؤال.

لقد فاجأنا هذا الطفل في العاشرة. نظرتُ إلى الورق الّذي أمامي وقرأتُ اسمه بصوت عالٍ لأشكره على عرضه التقديميّ، ثمّ لأطلب منه الانصراف فقاطعني!

هذا ليس اسمي سيّدتي: استعرت اسم ابن عمّي الّذي فقد يديه في القصف الأخير لأستطيع تقديم هذا العرض بين يديكم، أنا لا اسم لي حتّى الآن في الأوراق ولا شهادة ميلاد. لكنّكِ تستطيعين أن تناديني باسمي الّذي سمّاني به أبي الأسير: حرّ، حرّ الفلسطينيّ.

 

 


 

حرّ الفلسطينيّ - اسم مستعار، يعيش مع أمّه وجدّه وجدّته في أسرة ممتدّة مثل كثير من الأسر الفلسطينيّة، حيث لا يُسْمَح للأسرى الفلسطينيّين في سجون الاحتلال بلقاء زوجاتهم، كما لا تسمح سلطات الاحتلال لأيّ من النطف المهرّبة بلقاء آبائهم نظرًا لاعتبارهم أطفالًا غير شرعيّين.