أدب الضحيّة، بين جلد النفس وتحريرها

لافتة عنصريّة من جنوب أفريقيا كُتِبَ عليها:"منطقة بيضاء" | Getty

 

أدب الضحيّة/ الشاهد

النجاة هي سمة الحياة الأبرز تحت الاستعمار الاستيطانيّ. وفي سيناريو آخر يكون الغياب. فما بين النجاة والغياب تُعاد محاولة إنتاج الذات، روحيًّا، وثقافيًّا، ومادّيًّا، واجتماعيًّا. ولإنتاج الذات تحتاج الضحيّة/ الشاهد أن تؤنسن نفسها. وأن تنزع الطبيعيّة عمّا اختبرته. وفي رحلة التعافي نحو النجاة يبرز السؤال الأهمّ، ماذا يعني أن تكون إنسانًا الآن في فلسطين؟  ماذا كان يعني أن تكون إنسانًا في جنوب أفريقيا في فترة الاستعمار؟[1] هل اعتراف المرء بإنسانيّته تحت الاستعمار أمر خارج عن «المألوف» أم هو المحرّك الأساسيّ للثورة ولرفض الظلم؟ أن تؤنسن الضحيّة نفسها يعني أن تعترف بكونها ضحيّة وبالتالي أن تعترف بالجاني وبانتهاكه. وهذا يخلق صراعًا بين قوّتين، قوّة اعتراف الضحيّة بنفسها ضحيّة وإنسانًا وقوّة البطش الاستعماريّ وإنكاره للضحيّة لتعامله معها على أنّها دمية أو شبح عبر نفي إنسانيّتها.  وعليه فإنّ أبرز سمة في أدب الضحيّة/ الشاهد هو إضفاء صفة الإنسانيّة على إنسان الحياة والمخيّلة ثمّ إنسان النص.

الأنسنة بالنسبة للمضطّهَد تكمن في أبسط الأشياء الّتي قد لا يدركها الإنسان الّذي لا يعيش تحت الاستعمار ولا يحمل ذاكرة اضطّهاد جمعيّة.  فمثلًا في غزّة، أن يبحر الصيّاد أكثر من أربعة أميال دون أن يرى السفن الحربيّة الإسرائيليّة في الأفق لهو من الأنسنة. وأن يرى سكّان جنوب أفريقيا الأصليّين مكانًا عامًّا متاح للجميع دون عبارة: "لا يسمح بدخول السود" هو شيء من الأنسنة. هذه البساطة الّتي لا ينتبه إليها الإنسان العاديّ – من لم يكن مستعمَرًا- تعتبر محاولة مستميتة للمضطّهَد لأنسنة نفسه ضدّ تيّار شرس يحاول تطهيره عرقيًّا ونزع صفة الإنسانيّة عنه. يعمل المثقّف المشتبك المستعمَر على محاولة تعزيز المقاومة الثقافيّة من خلال الأشكال الإبداعيّة المختلفة، وعلى رأسها الشعر الّذي يكون سهل الوصول إلى لجماهير ويعبّر عنهم بشكل أعمق.

أن تؤنسن الضحيّة نفسها يعني أن تعترف بكونها ضحيّة وبالتالي أن تعترف بالجاني وبانتهاكه. وهذا يخلق صراعًا بين قوّتين، قوّة اعتراف الضحيّة بنفسها ضحيّة وإنسانًا وقوّة البطش الاستعماريّ

وعليه فإنّ الكاتب الشاهد – أي الّذي يكتب في أدب الضحيّة/ الشاهد- يتولّى دور الوصيّ والحامي على ماضي المجتمع المشترك، كما ذاكرته الجمعيّة[2]. فيقوم بشيء ما يشبه الأرشفة لكن بطريقة إبداعيّة من خلال استخدام الشعر في بلورة هذه المعاناة في سياق نصّ أدبيّ متفاعل مع القارئ ويحمل رمزيّة إنسان النصّ بطريقة تعبّر عن الثيمة الأساسيّة الّتي يتناولها النصّ، والّتي تتلاقى مع وظيفيّة النصّ بشكل أو بآخر. يعلّق الشاعر الإيرلنديّ الشهير شيموس هيني على طبيعة الكاتب الشاهد بقوله: "إنّ الكاتب الشاهد يمثّل تضامن الشعر مع المحكوم عليهم، المحرومين، المظلومين، المضطّهَدين. وعليه فإنّه يتمتّع بشخصيّة يكون فيها دافعه لقول الحقيقة ونصرة المظلوم جزءًا لا يتجزأ من فنّ الكتابة نفسه"[3]. وعليه فإنّ الكاتب الشاهد يأخذ على عاتقه مهمّة صعبة وتزيد الخطورة على حياته في ظلّ الانتهاكات الصارخة للحقوق. فكثير من كُتّاب المقاومة في سياقات مختلفة تمّ نفيهم، محمود درويش على سبيل المثال، كما أنّ ثلّة منهم تمّ اغتيالهم مثل غسّان كنفاني. بالإضافة إلى الشاعر أحمد تيمولي الّذي اغتيل من قبل البوليس العنصريّ الجنوب أفريقيّ[4]. ولذلك كان ثمّة العديد من المحاولات الّتي ترمي إلى إسكات الكاتب الشاهد وإطفاء لهيب المقاومة. لأنّهم أخذوا على عاتقهم أن يكتبوا ويوثّقوا ماضٍ غير مرغوب أن يخرج للسطح وكان التاريخ عازمًا على إسكاته بكلّ قوّته[5].

يمكننا حتّى أن نقول أنّ هذا الحدث الماضي الراديكاليّ الّذي يريد الكاتب الشاهد تمثيله في أعماله الأدبيّة غيّر تجربته؛ لدرجة أنّ فعل الكتابة نفسه في هذه الحالة يصبح نوعًا من الاتّصال ما بين الماضي والحاضر وبين ما فُقد من خلال إيجاد أرضيّة مشتركة لفعل الكتابة  إعلاءً لصوت المقهورين والمظلومين كمسؤوليّة إنسانيّة من خلال تتبّع كونهم ضحيّة، وتفكيك أيديولوجيا الضحيّة الّتي، لوقت طويل، دأبَ الاستعمار على لوم الضحيّة نفسها من خلال الإعلان أنّها تستحقّ هذه الشروط الحياتيّة الّتي تكرّم بها الاستعمار عليها.

ففي أيّ حالة استعماريّة جميع السكّان الأصليّين ضحايا، سواءً ضحايا لعنف الاستعمار بشكل مباشر، أو حتّى لكونهم ضحايا ذهنيًّا للاستعمار، أي أنّ الاستعمار استعْمَر وعيهم لصالحه من خلال تصديقهم لطبيعيّة ما يمرّون به وفقدانهم الأمل بالتحرّر. وعليه يكون أدب الضحيّة\ الشاهد نوعًا من التمرّد على الاستعمار ورغبة ملحّة في مقاومته عبر تقنيّات أدبيّة مختلفة تعلوها الرمزيّة. فمحمود درويش في لقائه مع الجنوب أفريقيّ باري فينبرج قال: "إنّ الشيء الوحيد الّذي لم يحرم منه شعبي أبدًا هو الحقّ في الحلم"[6]. والحلم يظهر في أدب المقاومة الفلسطينيّ برمزية الصمود والتطلّع نحو الأفق الّذي يحمل الحرّيّة في جعبته. ومن الجدير بالذكر أنّ رمزيّة الحلم لم يقتصر وجودها في الأدب الفلسطينيّ المقاوم فحسب، بل حضرت لدى شعوب الاستعمار وما بعده؛ مشكّلًا إيمانًا راسخًا بالمحاولة والصمود في وجه الاستعمار.

 

قصيدة «الليل في سويتو» لأوزوالد متشالي

تعتبر قصيدة «الليل في سويتو» من القصائد الّتي تحمل ثيمات متعدّدة حول الحياة تحت نير الاستعمار. والّتي بدورها تحمل تفصيلًا لطبيعة الليل في بلدة سويتو التابعة لمدينة جوهانسبرغ، والّتي كان يقطن فيها سكّان أصليّون «سود» مناهضين للاستعمار. كما أنّ الأمور كانت على أشُدّها في الزمن الّذي نُشِرَتْ فيه القصيدة، أي 1972[7].

عادة ما يمارس الاستعمار انتهاكاته الوحشيّة في عتمة الليل، خاصّة الإبادة، الاعتقالات التعسّفيّة وإرهاب السكّان الأصليّين. والمثير للسخرية، أنّ الليل بطبيعته هادئ للنوم والراحة، لكن ولمعرفة الاستعمار بهذه الحقيقة الروتينيّة في تقسيم اليوم فإنّه يستغلّه لإرهاب السكّان الأصليّين و"تأديبهم" بالخوف. بمعنى الترهيب لضمان استمرار الطغاة. وهذا الخوف الّذي يشعر به السكّان الأصيّين يعدّ نوعًا من أنواع ممارسة القهر على وعي المستعمَر ليخاف المستعمِر ويلتزم بـ «النظام».

يعلّق الشاعر الإيرلنديّ شيموس هيني على طبيعة الكاتب الشاهد بقوله: "إنّ الكاتب الشاهد يمثّل تضامن الشعر مع المحكوم عليهم، المحرومين، المظلومين... إذ يتمتّع بشخصيّة يكون فيها دافعه لقول الحقيقة ونصرة المظلوم جزءًا لا يتجزأ من فنّ الكتابة نفسه...

تأتي هذه القصيدة في 36 سطر صغير موزّعة على سبع مقاطع. تتدرّج هذه المقاطع في وصف الليل من خلال أنسنة المشاعر للمستعمَر. فيصف إنسان النصّ شعوره بالرهبة في الظلام وعدم وجود مكان آمن له أو يستطيع أن يلجأ إليه كي يمرّ الليل. ثمّ تنتهي القصيدة بتمنّي إنسان النصّ لو أنّ كلّ يومه نهار. هذه الأمنية لوحدها تشير إلى شراسة ليل المستعمَرْ . وتعطي انطباعًا عن وحشيّة المستعْمِر وبطشه المستمرّ زمنيًّا بالمستَعمَر. فبدلًا من أن يستريح إنسان النصّ في بيته ليلًا وينام محتضنًا عائلته، يظلّ مترقّبًا الباب وخطوات الحذاء العسكريّ في الطريق ومن ثمّ يستبق بحسّ المفزوع الطرَقَات الهمجيّة على الباب. هذه التفاصيل الّتي يذكرها إنسان النصّ برهبة بالغة هي فقط لقطة من حياة المستعْمَر تحت الاستعمار. وهي تشكّل ذاكرة جمعيّة لكلّ المستعمَرينْ. فلا يصبح وصف هذه الليلة مقتصرًا فقط على الإنسان الجنوب أفريقيّ تحت الاستعمار، بل يستطيع أن يتلاقى النصّ مع كلّ المستعمَرين المعنّفين والّذين عاشوا تحت الاحتلال يدركون ماهيّة الليل، فبالنسبة إليهم لا تكون الظلمة أبدًا علامة على الراحة بقدر ما هي وقت للترقّب.

 

"تترصّد يد القاتل الظلال

تمسك الخنجر

ثمّ تطعن الضحيّة العاجزة"[8].

 

من التأمّل في المقطع السابق والّذي يشكّل المقطع الثاني من القصيدة، يستخدم الشاعر الشاهد كلمة «القاتل» ليؤكّد على إجرام المستعمر وليُدينه. كما أنّه لا يذكر أيّ عضو جسديّ مع الكلمة عدا اليد. وفي هذا دلالة على قرب المستعمر وسرعة بطشه بالمستعمَرين -الضحايا- دون أدنى سبب أو حتّى تنبيه. ولاحقًا يُبَيِّنُ أنّ المستعْمِر يبطش بالضحيّة في لحظة غير متوقّعة على الإطلاق. على الرغم من أنّ المستعْمَر يعيش طول حياته تحت الاستعمار في ترقّب وخوف، إلّا أنّ المستعْمِر يظلّ قادرًا على الإمساك به في لحظة طمأنينة نادرة ليبطش به. من الجدير بالملاحظة أيضًا أنّ الشاعر الشاهد استخدم صفة «العاجزة» في التعبير عن الضحيّة، والتي تشير إلى ساديّة المستعْمِر الّذي يعنّف، ينتهك ويقتل المستعمَرْ رغم عجز الأخير وعدم قدرته على الدفاع عن نفسه. وهذا يعيدنا بعض الشيء إلى نزع المستعمِر صفة الإنسانيّة عن المستعمَرْ ما يمكّن الأوّل من رؤية الآخر كشبح أو دمية لا يؤثّر بها انتهاكها أو قتلها، فالآخر ليس موقع في الحياة، وهنا تبرز فوقيّة المستعمِر بوضوح في تعامله مع المستعمَر.

كما أنّ الشاعر الشاهد يناقش تحوّل الإنسان تحت الاستعمار. بمعنى ميزان القوى ما بين المستعمِر والمستعمَر. فيصبح المستعمَر وحش كاسر في حين يظلّ المستعمَر فريسة. وتكون الحياة تحت الاستعمار بالنسبة للشاعر الشاهد نوعًا من الكرّ والفرّ بين الوحش المفترس وفريسته. فيقول في وصف ذلك:

 

" الرجل لم يعد رجلًا

الرجل أصبح وحشًا

الرجل أصبح فريسة"[9].

 

يكرّر الشاعر استخدام مفردة الفريسة في المقطع اللاحق. لكن هذه المرّة باستخدامه ضمير المتكلّم (أنا)، بقوله: "أنا الفريسة"، والّذي من خلاله يصل إلى الاعتراف بنفسه أنّه فريسة. أي اعتراف الضحيّة بنفسها أنها ضحيّة وبالتالي اعترافها بالجاني وانتهاكاته. فهذا الاعتراف يقود نحو تمرّد الضحيّة على الطغاة بعد رحلة طويلة من العيش في رعب وترقّب للموت. فتظهر المنطقة الرماديّة ما بين الحياة والموت، ألا وهي النجاة.

ضحيّة الاستعمار تتعايش مع رعب كبير من طريقة موتها أكثر من فكرة الموت نفسها، فتسأل نفسها دومًا عن ماهيّة المكان الآمن، وأين يمكنها أن تشعر بالأمان؟ بل وبمعنى أدقّ ما هو الأمن بالدرجة الأولى؟ فالافتقار للشعور بالشيء يجعل الإنسان بطبيعته فضوليًّا تجاهه. والمستعمَر طموح دومًا للشعور بالأمن، لأنّه يريد أن يرى النقيض من روتين الرعب الّذي يعيشه.  والأهمّ أين يهرب من الظلام؟ فيسأل الشاعر الشاهد في نصّه التالي:

 

"أين ملاذي؟

أين يمكنني الشعور بالأمان؟

بالطبع ليس في بيتي الأشبه بعود ثقاب،

والّذي أتحصّن به من الليل![10].

 

بالنسبة لضحيّة الاستعمار لا يكتفي الظلام بكونه ليلًا، والّذي يكون عدوًّا لدودًا كما وصفه متشالي، لكنّه أيضًا يمتدّ إلى الروح عبر أشكال سيكولوجيّة مختلفة شكّلتها الذاكرة الجمعيّة بعد تعرّضها لهذا الكمّ من الانتهاكات الهمجيّة، والّتي يركنها الإنسان في لا وعيه ظنًّا منه أنّه تجاوزها. لكنّها تبقى عالقة هناك وتؤثّر عليه، فبعد تجربته الشخصيّة لا يكتفي الظلام بكونه انعدامًا للضوء فقط، بل يتفشّى إلى الروح كوابيسًا أو أيّ عِلَة نفسيّة أخرى. وفي هذا يرجو متشالي في ختام نصّه، ومع استخدامه لعلامات التعجّب وتكرار مفردة «الليل» أن يتحوّل ليله إلى نهار دائم بحثًا عن السكينة.

 

"الليل! الليل!

يا عدوّي الفاني

لمِ خُلِقْت؟!

لم لا يمكن أن يبقى النهار إلى الأبد؟!"11].

 

قصيدة «كنت بانتظارك» لأحمد السوق

الحقيقة هي الضحيّة الأولى لأيّ حرب[12]، لذلك يسعى الاحتلال إلى تدميرها. وهذا التدمير لا يكون إلّا بالقّوة المفرطة الهمجيّة، فيصبح الإنسان الفلسطينيّ في قطاع غزة في هذه الحالة، أمام سؤال حقيقيّ حول من سينجو في هذه الجولة؟ الحرب أم نحن؟ من سأفقد هذه المرّة؟ نفسي أم الأخرين أم ذكرياتي؟ فمحاولة الاحتلال تدمير الحقيقة والصوت الفلسطينيّ تتحقّق من خلال ترهيبها للأشخاص وتهديدهم بموت مفجع في كلّ مرّة. الإنسان في غزّة لمرّات كثيرة يرفض كونه ضحيّة وفي ذاك الرفض نوع من أنواع التمرّد على الاحتلال كي لا يعترف بوجوده وبتأثيره المتغلغل والمدمّر في حياته. فيختار الفلسطينيّ وجوده الشخصيّ تمرّدًا على الاحتلال، ورغبة في إفقاد الاحتلال سيطرته عليه. فيحاول إعادة إنتاج ذاته دومًا لاسترداد سيطرته على إدراة شؤون الموت الجماعيّ الفلسطينيّ من يد النظام الاستعماريّ[13].  

 

"عندما تنتهي الحرب

سآخذكِ إلى مطعم فاخر

لن نخاف الموت كثيرًا

سأشتري لكِ القهوة أمام البحر

وسأغنّي لكِ كي تنسي ما حدث هذه الليلة"[14].

 

في هذا المقطع يستهلّ الشاعر الفلسطينيّ أحمد السوق قصيدته بجملة: عندما تنتهي الحرب، وهذه الجملة الظرفيّة هي أكثر الجمل استخدامًا في الحياة اليوميّة أثناء الحرب. فيقوم الإنسان الفلسطينيّ ومن مبدأ التمرّد على عنجهيّة الاحتلال بوضع خططه كاملة في كيف سيمارس حياته بعد الحرب. ويتّضح من خلال هذا المقطع، أنسنة وبساطة التفصيل الّذي سيفعله إنسان النصّ بعد أن تنتهي الحرب. البحر للفلسطينيّين في غزة يمثل أفقًا ومُتَّسعًا للأمل والعناد. ويُعْتَبَر المتنفّس الوحيد في السجن الّذي يعيشون داخله، وبالتالي يصبح البحر مزارًا للتسلية وللحياة على حدّ سواء.

يقاوم الفلسطينيّ بطرق شتّى، لكنّها بسيطة جدًّا. نزهة مع العائلة، ملابس العيد أثناء القصف حامي الوطيس، وحتّى الغناء. هذه التفاصيل الحياتيّة البسيطة هي سلاح الفلسطينيّ أمام الاحتلال. فبممارستها يمنع الفلسطينيّ نفسه من الغياب، ويحفظ حضوره ووجوده في المكان، لأنّ وجوده يمثّل الحياة، وكابوس الفلسطينيّ الوطنيّ هو أن يغيب[15]، لذلك يحاول جاهدًا أن يبقى ناجيًا ليمارس حياته بتفاصيلها البسيطة غير آبهٍ بالاحتلال.

 

"بعد أن تنتهي الحرب

لن نجلس أمام المرآة، لنحدّق في ملامحنا الضائعة.

سنرتدي الأقنعة

لكيلا نضطّر لتفقّدها، وجوهنا الّتي لن نعرفها"[16].

 

في الحرب ثمّة سؤالان لإنسان النصّ وللفلسطينيّين. الأوّل يكمن في ما سأفعل عندما تنتهي الحرب، والثاني ماذا أفعل بعد أن تنتهي الحرب؟  فثمّة مفارقة إنسانيّة تستحقّ الملاحظة؛ يحاول الفلسطينيّ أثناء الحرب التمرّد والنجاة بكلّ الوسائل الممكنة، والنجاة هنا لا تكون فقط في تقليل فرص موته من آلة الحرب الوحشيّة، بل في حماية روحه من تغلغل الموت فيها، وحماية قلبه من اعتياد القصف والموت بوصفهما مركّبًا طبيعيًّا وروتينيًّا من مركّبات هويّته الجماعيّة والفرديّة. فهذا النوع من الصراع النفسيّ الداخليّ الفردانيّ يشكّل لاحقًا وعيًا جماعيًّا في التصدّي للحرب أثناءها ومحاولة للنجاة منها.

لكن بعد أن تنتهي الحرب، تنحَتُ كلّ شكواها ورمادها في الروح. فيقول إنسان النصّ، أنّه سيرتدي الأقنعة، والسؤال يطرح هُنا: أيّ أقنعة؟ أقنعة الفرح أم الكبرياء؟ أم الجبروت وسرعة العودة للحياة الروتينيّة؟ الفلسطينيّ لا يحتفل بالموت، قد يحتفل بنجاته لدهشته من نجاته بعد الحرب، لكنّه إطلاقًا لا يحتفل ولا يُجَمِّل الموت، فهو يهابه مثل أيّ إنسان آخر، بل وأكثر، لأنّه على الأقل لن يموت بصورة طبيعيّة ومن الممكن ألّا يموت قطعة واحدة. فيكون دعائه أثناء الحرب أّنه لو مات على الأقلّ أن يكون جسده قطعة واحدة.

الحقيقة هي الضحيّة الأولى لأيّ حرب، لذلك يسعى الاحتلال إلى تدميرها. وهذا التدمير لا يكون إلّا بالقّوة المفرطة الهمجيّة

 لكن بعد أن تنتهي الحرب، من يملك شجاعة النظر إلى وجهه في المرآة؟ هذا السؤال الملحّ الّذي يطرحه إنسان النصّ. هل يبقى وجهك بنفس التجاعيد، عيونك بنفس اللمعة لو أنّك عشت الحرب. سمعك هل يبقى كما هو؟ أو يصبح لديك حساسيّة للضوضاء؟ هذه الأسئلة يطرحها ضمنيًّا إنسان النصّ في محاولة لرفض الاعتراف بكونه ضحيّة، وفي الوقت نفسه يحاول أنسنة نفسه وفهم شعوره المختلط كناجٍ يحمل عقدة الذنب أو عزمًا للبحث عن الحياة من جديد. فالأقنعة الّتي يوردها السوق في النصّ هي محاولة للبحث متخفّيًّا عن الحياة تحت طبقة النجاة. بل ومحاولة لفهم التيه والرعب اللّذان تولّدهما الحرب في النفس البشرية. فمن يدخل الحرب لا يخرج منها كما كان قبلها أبدًا.

 

"لقد ظنّوا أنّي متُّ،

لكنّي كنت في انتظاركِ.

لم يسمعوني وأنا أصرخ باسمكِ

كان الموت يمنعهم من ذلك.

لكنّني لم أمت، سقطتُ، لكنّني كنت في انتظاركِ."[17].

 

لوضع فلسطين الاستثنائيّ تحت الاستعمار الاستيطانيّ، فإنّ الموت يشكّل مركّبًا أساسيًّا من مركّبات بنية المجتمع الفلسطينيّ، ويترافق مع مفردات مثل مفردة «الشهيد». فللشهيد قدسيّة، بل ورمزيّة في سياق السعي الفلسطينيّ نحو التحرّر. فالشهيد شكل موت يحدّد شكل حياة للفلسطينيّين: حياة العودة[18]، فالشهيد لا يعود، بل يغيب تمامًا[19]. وهذا الغياب يصوّره إنسان النصّ على أنّه السقوط. فالسقوط يعني أنّك ما بين القاع والسطح، وتملك التحكّم في الحضور. والحضور هنا لا يعني الحضور المادّيّ فحسب، فالحضور الرمزيّ البهيّ هو بشكل آخر محاولة لإعادة إنتاج الذات. وهذا بدوره يخلق طبقات متراكمة من الوعي الجمعيّ. ويبقى الشهيد حاضرًا بهيًّا في ذكريات من هم في انتظاره في الأفق، في البحر، في كلّ شيء يحيا فيه أمامهم.

ممّا لا شكّ فيه، أنّ الاستعمار هو تدمير شامل للإنسان، روحيًّا ونفسيًّا. وللوقوف في وجهه لا بدّ من توثيق روايات الضحايا والّذين لا يُسمع عنهم شيء من خلال كتابة نصوص طرواديّة - حيث لم يوجد أحد ليخبرنا عن أهل طروادة الّذين فنوا- تمكّننا من سماع أصواتهم داخل النصّ. وهنا يكون السؤال عمّن يكتب الضحيّة؟ ومن يشهد على المجزرة، هل يملك قوّة كافية ليكون صوتها الإبداعيّ المميّز ضدّ الاضطّهاد؟ فأنسنة الضحيّة من التقنيّات المهمّة للاعتراف بوجودها أوّلًا ومن ثمّ اعترافها بنفسها أيضًا في نفس المقام. ولاحقًا الاعتراف بانتهاكات الجُناة ووضعهم أمام المساءلة، حتّى لو كان هذا الأمر في نص إبداعيّ لا في محكمة. فالنصّ الإبداعيّ له وصول جماهيريّ أوسع من المحكمة، ويمكنه تحقيق العدالة للمقهورين، المظلومين والمعنّفين في هذه الحياة بفعل قوّة تعتقد نفسها أعلى منهم وتُبيح لنفسها استغلالهم.

 


إحالات

[1] John De Gruchy, «The humanist imperative in South Africa», South African Journal of Science, vol. 107, no.  7/8 (2011) P.2.

[2] Calder A. Literature in the Modern World: Literature and history (Milton Keynes, Open University Press, 2005), p. 14.

[3] Ibid, p. 14. 

[4] باري فينبرج، «الشعر وقضيّة التحرير الوطنيّ في جنوب أفريقيا»، ترجمة: عادل العامل، مجلّة الأقلام، المجلّد 16، العدد 8،7، (1982) ص 103.

[5] Tahrir Hamdi, «Bearing Witness in Palestinian Resistance Literature», Race & Class, vol. 52, no. 3 (2011), p. 23.

[6] مرجع سابق، الشعر وقضية التحرير الوطني في جنوب أفريقيا. ص 100.

[7] Oswald Mbuyiseni Mtshali, «Nightfall in Soweto», Eguria Blog, Retrieved: 10\12\2021. Available from: https://bit.ly/3iozbvw.

[8] Oswald Joseph Mtshali, Sounds of a cowhide drum, (New York, Third Press, 1972) p. 46.

[9] Ibid, p. 46.  

[10]  Ibid, p. 46.

[11] Ibid, p. 47. 

[12] فيتوريو أريغوني. غزّة، حافظوا على إنسانيّتكم، (الدوحة: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2012) ص21.

[13] إسماعيل ناشف. صور موت الفلسطينيّ، (الدوحة: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات،  2015) ص 81.

[14] محمد تيسير وآخرون. غزّة أرض القصيدة أنطولوجيا شعريّة (بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 2021)، ص 105. (من الجدير بالذكر أنّ هذا الكتاب هو مجموعة شعريّة لشعراء في مقتبل الشباب من مدينة غزّة، معظمهم لم يخرجوا خارج القطاع ولا مرّة، ونُشِرَ لأوّل مرّة بعد حرب مايو 2021، لذلك تَغْلُبْ عليه صفة الحديث عن الحرب وسُمِّيَ بأنطولوجيا. وفيه نصوصًا طرواديّة تروي الفلسطينيّ بشكل إبداعيّ وإنسانيّ أكثر من الخبر العاجل).

[15] مرجع سابق، صور موت الفلسطينيّ، ص 84.

[16] مرجع سابق، غزّة أرض القصيدة أنطولوجيا شعريّة، ص106.

[17] مرجع سابق، ص 108. 

[18] مرجع سابق، صور موت الفلسطينيّ، ص 66.

[19] مرجع سابق، ص 68.

 


 

منى المصدر

 

 

 

شاعرة وكاتبة فلسطينيّة تعيش في قطاع غزّة، صدر لها عن دار الأهليّة مجموعة شعريّة بعنوان «لأنّني أخشى الذاكرة» عن «دار فضاءات» (2020)، «أعدّ خطاي» عن «دار فضاءات» (2017).