قراءة في «بشائر»... هل النصّ يفكّر؟

 

لأنّ النصّ حين قراءته يمرّ بمراحل مختلفة سواءً من باب متى قُرِأَ وكيف قُرِأ وبأيّ إسقاطات، فلا بدّ من التعمّق في النصّ كحالة مستقلّة  بذاتها من أجل الوصول إلى المعنى وحتّى أوهام المعنى كما أسماها ماشيري[1]. تُساءَلُ عمليّة إدراك النصّ للوصول إلى المعنى، والّتي لا يمكن الحديث عنها إلّا من خلال التطرّق إلى عمليّة التفكير الّتي توصلنا إلى وعي النصّ ومن ثمّ إدراكه، ولاحقًا مقدرته على إنتاج المعرفة. 

في النصّ لا شيء يوجد عبثًا، وذلك يدفعنا إلى تناول ذات النصّ وكيف يعبّر عن نفسه من خلال رحلة تفلسف اللغة والمعنى داخله. ومن ثمّ يمكن تناول قدرته على التفكير والتفلسف في ذاته واكتفائه ذاتيًّا بنفسه دون الخوض في تفلسفه مع العالم. أي أنّ قراءة النصّ في هذه الحالة تتلاقى بشكل ما مع دريدا وإيمانه بالانطلاق أوّلًا من النصّ والتركيز على النصّ نفسه دون ما يجول حوله. بذلك يكون الأفق الأوسع في النصّ نفسه من خلال الإنصات إلى صمته وتفاعلاته داخل نفسه، الّتي ستقودنا إلى رحلة الفكرة فيه لا تفلسف اللغة فقط عبر القراءة الفاحصة الدقيقة للنصّ.

 

النصّ ما بين التفلسف والتفكير  

يقول غرامشي إنّ كلّ إنسان من الممكن أن يكون فيلسوفًا[2]، وهذا التفلسف يشكّل رؤيته عن العالم. إن طبّقت هذه النظرة على النصّ الأدبيّ يصبح النصّ قادرًا على التفلسف وطرح الأسئلة بشكل واع، كما أنّه يتمكّن من الولوج إلى حالة من الإدراك الّتي تضاعف بشكل ما قدرته على التفكير داخل نفسه، الّتي من المحتمل أيضًا أن تبلور رؤيته عن نفسه وعن العالم من باب رؤية النصّ لنفسه وللعالم. إذ تتحقّق رؤيته للعالم من خلال تفاعله مع القرّاء وحتّى مع الكاتب نفسه عبر تأويلات متعدّدة تخلق قراءات جديدة في كلّ مرة. كما أنّها تخلق طبقات متعدّدة من المعنى والصمت على حد السواء.

النصّ في بدايته كان مجرّد فكرة أساسيّة بسيطة تلاحمت مع المتخيّل والواقع، ثمّ نضجت وتطوّرت إلى فكرة تخبّئ الضمنيّ في ثناياها من خلال استخدامها للغة خاصّة بها للتعبير عنه...

إذ أنّ عمليّة تفلسف النصّ داخل نفسه تقوده إلى رؤية عميقة لذاته وأيضًا لعلاقته مع رحلة الفكرة أو التفاكر. فكما يقول باديو: "إذا كان الأدب هو شكل من أشكال التفكير، ألا يجب أن يكون التفكير في تلك الفكرة  أدبًا"[3]. أيّ أنّ النصّ في بدايته كان مجرّد فكرة أساسيّة بسيطة تلاحمت مع المتخيّل والواقع، ثمّ نضجت وتطوّرت إلى فكرة تخبّئ الضمنيّ في ثناياها من خلال استخدامها للغة خاصّة بها للتعبير عنه. وهذا التعبير، الّذي كان لاحقًا على ضمنيّة الفكرة، فيه نوع من التفاكر والاشتباك المتخيّل ما بين تفلسف اللغة والفكرة نفسها وما بين كيفيّة التعبير عنها في متن النصّ، الّذي بدوره يخلق فرادة لهذه الفكرة.

فكلّ فكرة وكلمة واردة في النصّ لها وزنها التعبيريّ والتفاكريّ ما يجعل استبدالها بأخرى مستحيلًا؛ فالمشهد الّذي يوصف في نصّ أدبيّ ما بَلْوَرَ هذه اللغة الجديدة والفريدة وأكسبها قدرتها على التفكير والتحليل والرؤية داخل أفق النصّ نفسه، وذلك من خلال خلق مقاربات جماليّة وتفاكريّة ونقديّة توسّعيّة ما بين اللغة المخترعة – أي الّتي أبدعها النصّ – وضمنيّة المعنى أو أوهامه الّتي تنشئها اللغة داخل طبقات النصّ.  

قد تخلق اللغة صمتًا داخلها ممثّلًا بعلامة ترقيم أو حتّى مفردة تعكس فكرة ضمنيّة؛ فهذا الصمت قد يخبّئ خلفه ضجيج المفردة ومعناها المتخفّيّ، فالصمت في الحقيقة نوع من الكلام[4]. وعليه يكون أحد طرائق تعبير اللغة داخل النصّ الأدبيّ[5]، والّذي يريد أن يقول الكثير جدًّا في نفس الوقت، لكنّه لا يجد الكلمات الّتي يستطيع أن يعبّر بها، فيخلق صمته الخاصّ المثير للتأمّل، وبذلك يمكن اعتبار الصمت حالة تعبيريّة داخل النصّ الأدبيّ سواءً المكتوب – أي المطبوع – أو الرقميّ. لكن، كيف يمكن قراءة الصمت بوصفه فكرة داخل النصّ الأدبيّ؟ هل يمكن اعتبار الصمت في متن النصّ الأدبيّ صمتًا جوّانيًّا يقود إلى التفكير؟ وذلك من خلال ترفّعه عن الكلام وتمكين نفسه من الغموض الّذي قد يتلاقى مع الميتاجماليا.

لكن يظلّ التساؤل في ما يتعلّق بالصمت عن كيفيّة ارتباط الصمت بوصفه إحدى طبقات اللغة الفريدة داخل النصّ الأدبيّ الّتي تقود إلى تأمّل النصّ داخل نفسه، وعليه إلى عمليّة تفكير وإدراك ونقد تتلمّس طريقها في ثنايا النصّ. وإن كانت هذه الطبقات تنسخ نفسها مع طبقات المعنى الأربعة الّتي أشار إليها الماجدي بترتيبها: البنائيّة، المعرفيّة، الإيقاعيّة والتوليديّة[6]. وهل يُنْتِجُ الأدب في هذه الحالة صمته كما ينتج معانيه الخفيّة؟ وهل هذا النوع من الإنتاج – باعتبار الصمت إحدى طرق التفكير التأمّليّة – يقود إلى الممارسة الواعية للتفكير داخل النصّ؟

كيف يمكن قراءة الصمت بوصفه فكرة داخل النصّ الأدبيّ؟ هل يمكن اعتبار الصمت في متن النصّ الأدبيّ صمتًا جوّانيًّا يقود إلى التفكير؟

يحاول غورغوريس الالتفات إلى التفكير في الأدب من خلال الابتعاد عن العقلانيّة الّتي يدعو إليها كانط في فلسفته، وذلك من خلال التركيز على الطريقة/ الطرق الّتي ينتهجها الأدب في عمليّة تفكيره. فيقول: "السؤال عمّا إذا كان الأدب يفكّر نظريًّا أكثر أهمّيّة من سؤال ما إذا كان الأدب يفكّر أم لا، وهذا ما يتطلّب وسطًا اجتماعيًّا خياليًّا يفترض المعرفة كمشروع كلاميّ واعٍ ذاتيًّا"[7]. ويضيف إلى إمكانيّة اعتبار الصمت إحدى الكيفيّات الّتي يفكّر فيها النصّ، بالإضافة إلى الكلمة الشعريّة الّتي اعتبرها فاليري متضادّة مع الاستخدام اليوميّ للكلمة[8]، وبذلك يكسبها نوعًا من الفرادة الّتي تتّفق مع إنتاج لغة جديدة في النصّ من خلال عمليّة التفكير. بذلك قد تكون الكيفيّة الّتي يسائلها غورغوريس متمثّلة بالصمت والمفردة الشعريّة الفرديّة، أو الأدبيّة الإبداعيّة كي لا نقصر الحديث على الشعر.

   

كيف تصبح القصيدة خزّان أفكار؟ قراءة في نصّ «بشائر» لصدقي شراب

يقول أرسطو: "إنّ الشعر أكثر تفلسفًا وأهمّ من التاريخ لأنّ الشعر يتعامل مع الكلّيّات، والتاريخ يتناول الجزئيّات"[9]. في حين يذهب مكّاوي إلى اعتبار أنّ القصيدة فكرة عيانيّة مجسّدة في كلمات وإيقاعات وعلاقات وصور لها خصوصيّتها النابعة من داخلها ومن تراثها اللغويّ والأدبيّ، ومن شخصيّة صاحبها ومواقفه واتّجاهاته المختلفة باعتباره ذاتًا تاريخيّة تكوّن رؤاها وتجسّدها لذوات تاريخيّة تتلقّاها منها[10]. من هنا يمكن قراءة الدمج في مفهوم الذات حين التعامل مع القصيدة، حيث اعتبرها أرسطو تفلسفيّة في حين اعتبرها مكّاوي ذاتًا تاريخيّة بحمولات متعدّدة تربط نفسها بداخلها وخارجها، وهذا ما قد يتوافق مع فوكو في قراءة النصّ من داخله وخارجه. لكن، عند مساءلة الذات الشعريّة في النصّ وتحريرها من كلّ القوالب والتنظيرات المختلفة، هل يمكن آنذاك تتبّع نشاطها الفريّ التأويليّ داخل نفسها؟  

في هذا المقام، تمكّن نصّ «بشائر» من خلق لغته الفريدة والواعية ودخول مجال الإدراك حتّى داخل نفسه، فيقول شراب:

" عندي مدينة لا تريدني"[11]

 

إنّ المدينة نكرة ضمنيًّا حيث لا نعرف أيّ مدينة، لكن، رغم جهلنا بالمدينة بوصفها مكانًا خاصًّا، إلّا أنّ النصّ يحمّلها طابع الإدراك من خلال منحها صفة القرار من خلال عدم رغبتها فيه، والهاء هنا لمجهول أوجد نفسه هامشيًّا في النصّ، تعوّض عنه ياء النسب في كلمة ’عندي‘. وهذا المجهول خلق  فضاءً آخر من الحوار والتفكير والتأمّلات داخل هذا الأفق مع المدينة النكرة المجهولة، حيث اكتسبت المدينة فكرها وقدرتها على الرفض والقبول. فتكون ياء النسب هنا أحد عوامل توليد الحوار والاستجابة عند المدينة بالقبول أو الرفض، وهذا الحوار نشأ لإكساب النصّ قدرته على التفكير من خلال الغوص في المساحات الّتي يجدها أمامه في النصّ. ذلك ما يتّفق مع تجربة ستيفان مالارميه في شعره حيث يقول: "فكرتي هي فكر في حدّ ذاته وما أنا إلّا جسد"[12]، أي أنّ الشاعر يبتدع الفكرة المبدأيّة - البذرة الأولى-  وتتمتّع هذه الفكرة بحرّيّة حركتها وغوصها في مساحات النصّ.

يقول أرسطو: "إنّ الشعر أكثر تفلسفًا وأهمّ من التاريخ لأنّ الشعر يتعامل مع الكلّيّات، والتاريخ يتناول الجزئيّات" (...) في حين يذهب مكّاوي إلى اعتبار أنّ القصيدة فكرة عيانيّة مجسّدة في كلمات وإيقاعات وعلاقات وصور لها خصوصيّتها...

من الجدير ذكره أنّ المدينة تحوّلت من مجهول، إلى مقاربتها مع مدينة إسطنبول باستخدام الاسم التاريخيّ للمدينة بقوله:

" لن أبحر معك إلى القسطنطينيّة"[13]

 

الأمر الّذي يوضّح تعدّد الأصوات في النصّ من جهة، ومن جهة أخرى مقدرته على التفكير وخلق العلاقات عبر التأمّل في المدن وفضاءاتها، بدءًا من كونها مجهولة كمدينة ومقاربتها بالقسطنطينيّة، ولاحقاً ذكرها كاسم مجرّد بقوله:

" سأعطيك جوابًا:

هذه المدينة اسمها خان يونس"[14]

 

ثمّة تراتبيّة في طبقات المعنى داخل النصّ، وحتّى وجود الصمت الّذي حمل شكل التفكير والتأمّل داخل النصّ نفسه ومن ثمّ إيقاعه النصّ في محاولة التوقّع لاسم المدينة إلى أن ظهر اسم خانيونس. كأنّ النصّ يزيح الستار عن غموضه تجاه نفسه من خلال خلق حوار مع نفسه وداخل ذاته. كما أنّه يعبر غمام مخيّلته الجغرافيّة والمكانيّة عبر التفلسف في المفردات الشعريّة ومنحها لا طبقات معنًى فحسب، بل غموضًا وترقّبًا أيضًا.

كما أنّ علائقيّة التفكّر داخل النصّ لا تقتصر على تأمّل المدينة كمجهول ومن ثمّ تأطيرها باسمها وبكلّ حمولة ذاكرته في طيّات النصّ، بل يمتدّ أيضًا لخلق علاقات مع البحر والجديلة والوسادة والقصيدة، وتتبّع هذه العلاقات عبر محطّات من الصمت والصخب المتمثّل بالأغنيات والموج. ينصت النصّ لهذا النوع من الصخب والصمت ويبني تفاكره عليه، حتّى شوقه لآب (أغسطس) وإخفائه المواويل انتظارًا لآب القادم. لا يقتصر هذ االنوع من التفكير والرمزنة على الحمولة الأولى للمفردة، بل يغوص في طبقاتها حتّى وصوله لتوليد معانٍ مختلفة لا ظاهريّة قد يكون النصّ وحده من يملك فردانيّة هندسة معانيها وأفكارها. ذلك أنّ الفكرة داخل النصّ دائمة الحركة كما لو أنّها في دائرة مفرغة، لا تكفّ عن التفكير ولا عن تأويلاتها الخاصّة، وبهذه الحركة الدؤوبة يستطيع النصّ أن يفكّر وأن يُنْضِجَ أفكاره لتتّخذ أشكالًا وتأويلات مختلفة داخل أفقه، والّتي لا تلبث أن تزداد وتتألّف حين تفاعلها خارج مساراتها الداخليّة، في إشارة إلى قدرتها الهائلة على التوليد عند احتكاكها بالقارئ والكاتب.

 


إحالات

[1] ذكر ماشيري فلسفة أوهام المعنى في كتابه «بم يفكّر الأدب» (2010)، حيث تناول ما يجعل المعنى معنًى من خلال التطرّق إلى فلسفات فرويد وعلاقة المعنى بالوعي واللاوعي وتحوّله إلى المعنى الضمنيّ والرمزيّ.

[2] Stephen Duncombe, Cultural Resistance Reader, (London, Verso,2002), P.59.

[3] Alain Badiou, Alistair Clarke. “Qu’est-Ce Que La Littérature Pense? (Literary Thinking).” Paragraph 28, no. 2 (2005): P37. Available in: https://bit.ly/3sZsLBB.

[4] هانز جادامر، تجلي الجميل، ترجمة د. سعيد توفيق (القاهرة، المشروع القوميّ للترجمة،1997)، ص189.

[5] مرجع سابق، هانز جادامر، 189-190.

[6] خزعل الماجدي، العقل الشعريّ، (دمشق، النايا للدراسات والنشر، 2011)،ص 448.

[7] Stathis Gourgouris, Does Literature Think?: Literature as Theory for an Antimythical Era, (America, Stanford University Press, 2003) P7.

[8] مرجع سابق، هانز جادامر، ص270.

[9] أرسطو، أرسطوطاليس في الشعر، ترجمة شكري عيّاد ( القاهرة، دار الكاتب العربيّ، 1967) ص64.

[10] عبد الغفار مكّاوي، شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة، ( القاهرة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1995)،ص87.

[11] صدقي شراب، على امتداد العشب، (القاهرة، دار تويتة للنشر والتوزيع،2020، ط1) ص 27..

[12] Ibid, Alain Badiou, P 37.  

[13] مرجع سابق، صدقي شراب، ص27.

[14] مرجع سابق، صدقي شراب، ص 27.

 


 

منى المصدر

 

 

 

شاعرة وكاتبة فلسطينيّة تعيش في قطاع غزّة، صدر لها عن دار الأهليّة مجموعة شعريّة بعنوان «لأنّني أخشى الذاكرة» عن «دار فضاءات» (2020)، «أعدّ خطاي» عن «دار فضاءات» (2017).