Thanatophobia

 

اللعبة

أمس، كنت ألعب مع ابني الّذي أكمل عامه الثاني قبل أسابيع، وتظاهرت بأنّني ميّت. في الحقيقة كنت أشعر بالنعاس، فقلت في نفسي: ينادي ولا أجيب. لحظات، وضع أصابعه الصغيرة في عينيّ، ثمّ شدّني من يدي وبكى، ثمّ عاود الكرّة محاولًا فتح عينيّ، لكن بتوتّر أكبر هذه المرّة، ثمّ راح يركض صوب أمّه الّتي كانت منشغلة بشيء ما في الغرفة المجاورة.

قلت لنفسي: سأقوم من أجله بعد قليل، فأنا أتظاهر بأنّني ميّت، ولن أظلّ على هذه الحال لفترة طويلة. لا أريد أن أفزعه أكثر من ذلك. لكنّ الشكّ بدأ يتسرّب إليّ حين عاد مع أمّه، وبدأت هي الأخرى بالنحيب.

كنت كَمَنْ يلوّح إليهم من خلف زجاج يحجب رؤيتي، قلت لنفسي: لِمَ كلّ هذه الجلبة؟ هل فاتني شيء؟ لماذا لا أقوم؟ ثمّ إنّني لم أكن يومًا ممّن يحبّون المزاح الثقيل. رتّبت أفكاري، ثمّ استقمت واقفًا خارج جسدي الّذي ظلّا يهزّانه بطريقة كانت تؤلمني. ومضيت إلى حيث أجد ما قدّمتُ لحياتي.

 

 

الحادثة

البارحة، كنت في طريقي إلى مجمّع تجاريّ قريب، نصف ساعة وأرجع ببعض الحاجيات غير الأساسيّة إلى البيت. انعطفت بسيّارتي صوب الشارع العامّ، ثمّ عن غير قصد سقط هاتفي فوق دعّاسة الكرسيّ بجانبي.

تردّدت قبل أن أميل بجسدي تحت الكرسيّ لالتقاطه، غير أنّني لم أُعْطَ الفرصة لأتراجع بينما تنعطف السيّارة، ثمّ تنقلب في الهواء زاحفة على سقفها الزجاجيّ.

صحيح أنّني - لأسباب صحّيّة - لا أستطيع التحدّث عن اللكمة الّتي وجّهتها الوسادة الهوائيّة صوب صدري، حين اعتدلت جالسًا؛ في محاولة لتصحيح مسار المركبة، لكنّ حزام الأمان كان يضغط على كبدي وأنا أتدلّى بالمقلوب من كرسيّ القيادة، وثمّة بركة دم تتشكّل ببطء فوق سقف السيّارة المكسور الّذي أدركت أنّني أراه للمرّة الأولى في حياتي.

لنكن واقعيّين، ولنفرض جدلًا أنّني ما زلت قادرًا على الحركة، يبقى فكّ حزام الأمان أمرًا في غاية الصعوبة بوضعيّة كهذه. صوت أغنية لم أكن أنصت إليها ما زال يصدح من سمّاعة المذياع. الدم ينقط من مكان ما في رأسي، ويرتطم بشكل منتظم مع رتم كلمات تتحدّث عن حبّ صعب المنال... بعيد.

لو كنتُ في وضعيّة غير الّتي أنا عليها الآن لضربت جبهتي. أيّ أحمق ينسى أن يخبر زوجته بأمر مهمّ كهذا؟ لكنّني عدلت عن الأمر. فكّرت: الأفضل أن تنتظر في البيت ريثما يقوم رجال الإسعاف بما يجب. المهمّ الآن ألّا يؤثّر الخبر في نفسيّتها. زوجتي حامل، ولو أنّ أحدهم يضع الهاتف بيدي لتكلّمت معها بصوت لا يوحي بشيء. سأقول شيئًا ما مفاده: أحبّك دون أن تحدس بما حصل لي. ربّما سأسألها إن كانت تتذكّر أين احتفظنا بمال الطوارئ، فقط لأتأكّد أنّها ستُحْسِن التصرّف في حال احتاجت إلى ذلك. ولديّ أمنية: أن أساندها في تقبّل الخبر. أعتقد أنّني أفضل مَنْ يخفّف عنها وقع خبر كهذا، أريد أن أساعدها في استخراج شهادة الوفاة، وأن أُقِلَّها إلى المطار، وأن أتأكّد من أنّ الصغار سيحافظون على هدوئهم حين تقلع الطائرة.
وبما أنّني غير قادر على الحديث معها، فلعلّي أساندها بحضن قصير حين نلتقي... لن أمدّ يديّ لأطوّقها؛ لأنّ ذلك سيزيد من شدّة تأثّرها بفراقي. وسأحاول قدر الإمكان ألّا أُفْزِع الصغار بأيّ تعبيرات تظهر على وجهي؛ لأنّ ذلك سيربكهم بالدرجة الأولى، ثمّ سيجعل من بكائهم أمرًا يدفع مَنْ حولهم للتعاطف معهم بطريقة قد تؤذيهم في المستقبل. ليسوا أوّل يتامى، ولهم القدرة على تحويل كلّ هذا الألم إلى طاقة خير. أنا مؤمن بهذا آخذًا بعين الاعتبار تنشئتهم الصالحة، مشدّدًا على عدم التساهل معهم لمجرّد أنّهم أبنائي.

حبيبتي
يبدو أنّ الحياة ستتعقّد بعض الشيء بعدي، لكنّني مؤمن بأنّك ستجدين السند الّذي تحتاجين إليه من حولك؛ فكما تعلمين، زوجك كان رجلًا صالحًا؛ على الأقلّ كان يحاول. وقبل هذا، لطالما آمن بربّ رحيم لن يضيّعنا.

بوسي الصغار يا حبيبتي، وحافظي على صلاتك.

* ملاحظة: تبرّعي بملابسي، واتركي لي - في المنطقة بين وجهي وصدري - حجابك.

أحبّك.

 

 

تابوت متأرجح... وطريّ

ذهبت مع عائلتي والأصدقاء في رحلة إلى منتجع صيفيّ في مدينة الفجيرة، صيف عام 2020. كان الجوّ مذهلًا والمكان خاليًا إلّا منّا ومن بعض العائلات على شاطئ أبيض، يفصل بينه والمدى البعيد جزيرة حجريّة ذات منظر خلّاب، يُقال لها «سنوبي آيلاند».

كنت جاهزًا أرتدي ملابس البحر، أنهيت إجراءات الدخول، ثمّ طلبوا منّا إمهالهم 10 دقائق لتجهيز الغرفة، وبعد أن أنزلت أغراضنا صعدت إلى صخرة مطلّة على البحر، وتنفّست عميقًا ملء رئتيّ، ثمّ نظرت إلى صاحبي: هل تفكّر في ما أفكّر؟ سألته قبل أن يسبقني خالعًا قميصه وحذاءه بالطريق إلى البحر؛ الأمر الّذي شجّعني فركضت تجاه الموج، ملوّحًا لياسمين بأنّني سأسبح قليلًا ريثما تنتهي الترتيبات.

كنت مستعدًّا، ارتديت نظّارة الماء في الطريق إليه، وعدّلت خرطوم الغطس القصير ليستقيم خلف أذنيّ، واندفعت إلى البحر مثل كائن برمائيّ خبير.

مرّت خمس دقائق تحت الماء، أشعّة الشمس تخترق سطح الماء البارد، وأنا بهدوء وخفّة أتقدّم إلى حيث الجزيرة الّتي كنت أنوي الوصول إليها ثمّ العودة إلى ياسمين، قبل أن يدخل بعض ماء البحر من خرطوم الهواء ويعلق في حلقي.

يعرف المتمرّسون أنّ أمرًا كهذا وارد الحدوث، وإن حدث، فكلّ ما عليك فعله أن تسدّ خرطوم الماء بلسانك، ثمّ تنفخ فيه بقوّة حتّى يخرج الماء، ثمّ تعاود السباحة بسهولة ويسر. كان هذا ما فعلته، لكنّني حين نفخت مُخْرِجًا الماء من الأنبوب، وأتبعته بشهيق واثق، فوجئت بالماء وقد تدفّق بكثافة أكبر من المرّة الأولى إلى رئتيّ. وبشكل لاإراديّ خلعتُ الخرطوم ونظّارة السباحة، وانقلبت على ظهري محاولًا التنفّس. سعلت مرّات وقد شربت ما يكفي من الماء لأشعر به في صدري. قلبت نظري في الماء لأجد نفسي في منتصف المسافة. "تنفّس يا عبدالله"، قلت في سرّي، حتّى لا يتمكّن منّي الفزع، ثمّ انتبهت إلى حبل قريب يضعه المسؤولون لتحديد منطقة السباحة. كنت قريبًا منه فتعلّقت به، ثمّ حاولت مساعدة نفسي بأخذ قسط من الراحة وأنا أتّكئ عليه، إلّا أنّ يديّ خذلتاني، ورأسي الّذي ظلّ فوق الماء صار ينزل تحته شيئًا فشيئًا، فكّرت في ياسمين، في أويس، ثمّ شربت كمّيّة أخرى من الماء، وقد لمحت بطرف عيني رجلًا صغير الحجم يجدّف باتّجاهي.

أتذكّر أنّه رمى لي بحبل لم أتمكّن من مدّ يدي المتعبة إليه، ثمّ مدّ يده، فلم أتمكّن من مدّ إظهار نيّتي في وضع يدي في يده. أراد أن يعدّل جلسته فوق القارب البلاستيكيّ، ثمّ اقترب إليّ ممسكًا بي من أسفل إبطيّ، فانقلب القارب فوقي.

هل سبق أن شرقت بالماء الّذي غاص به الأنف؟

شعرت بيديه تتحلّقان حول بطني، نفَسي يضيق، والجمال الّذي رأيته في تسلّل خيوط الشمس إلى الماء قبل دقائق صار مشهد موتي. وقبل أن أستسلم بلحظات، نجح المنقذ المتفاني في دفعي خارج الماء الّذي كان يهيم بي، مثل تابوت متأرجح وطريّ.

مَنْ سبق له أن وصل إلى الحدّ الّذي وصلت إليه، فسيشعر بالخدر الّذي تمكّن من أطرافي، وعضلات ظهري، وبطني، وكتفيّ.

- Are You O.k?

سألني الشابّ بابتسامة عريضة لا تشبه الضيق في صدري، كان في نصف حجمي، ذراعاه مثل سيقان دالية العنب في بيت أهلي، وساقاه خشب زان، ووجهه غامق ينتثر من حوله ضوء الشمس، يقف فوقي مثل مارد بأكتاف ضامرة، ويضرب الماء بالمجداف خفيفًا.  

 - أريد أن أرى عائلتي. أجبته بعربيّة متعبة قبل أن يوصلني إلى الشاطئ كعامل توصيل معتاد.

جلست على الشاطئ عشر دقائق، ربّما أكثر، ثمّ رجعت إلى الغرفة فوجدت ياسمين تجهّز أويس للسباحة، كان متحمّسًا، وكانت تضحك في وجهه مثل أمّ فرحة غافلة، وكنت قد جئت من موتي للتوّ؛ فلم أجد ما أقوله.

- كدت أموت! قلت لها وانهرت على البلاط.

- يلّا بابا. صاح ابني وشدّني من يدي الّتي بدأت أشعر بنمل خفيف يصعدها بادئًا بأصابعي.

- ما الّذي حدث؟ سألتني وهي تبتسم لحماسٍ في صوت أويس، أعاق قدرتها على قراءتي.

- يلّا بابا... واستقمت واقفًا مثل كرسيّ، دبّت فيه روح لألعب مع أويس.

- لا تشغلي بالك. قلت لزوجتي، واتّجهتُ من جديد إلى شاطئ أصدافه أقلّ من الأسئلة جوّاي.

- بابا، تعال نبني بيتًا. قال أويس، ثمّ مرّت صورة لبيت غير الّذي من تراب رطب خلف عيني.

- سأحاول. أجبته وهمستُ بيني وبيني: من جديد! ثمّ خطر ببالي صديقي الّذي لمّا يعد بعد من البحر، وعائلته الّتي تنتظره في غرفة الشاليه.

كانت النوارس تنعق فوق رأسي، والبحر ينزلق عن حافّة اليابسة كلّما مدّ يدًا للنجاة، مثل كائن هلاميّ برئتين غارقتين.

 


 

عبد الله الزيود

 

 

 

كاتب فلسطينيّ أردنيّ يعمل أخصّائيًّا تربويًّا في دبيّ، حاصل على جوائز عربيّة ومحلّيّة منها «جائزة ملتقى الإعلاميّين الشباب العرب» (2009)، و«جائزة مؤسّسة محمود درويش» (2015).