مناديل الجيلانيّين | نصّ

 

حين خرجنا من حليب البيت أوّل مرّةٍ إلى ملح الموانئ نادانا جدّي، وقلب لنا الدنيا بابتسامته العميقة، فنجونا من الأسى.

كانت الطوالع حزينةً كغيم أيلول، والبرد صديقًا أليفًا أوّل الخريف...

كانت الأماكن غريبةً علينا، والألسن عالمًا هجينًا، والحافلات وطنًا مسافرًا.

***

 

أحاول تذكّر كيف استطعتُ أن أتنفّس خارج ماء قريتي الشاحبة، وكيف لملمتُ ما بداخلي من خوف وظلال وحنين البراءة في فضاء العالم!

كيف حدث هذا الوداع فجأةً، وبتر عمر الندى عن جثّة المستقبل؟ الوداع لا يعرف زمانًا أو مكانًا، متملّصٌ هو كقطعة الصابون السحريّة الّتي كانت جدّتي تبارك جسدي بها، وتلقي ما تيسّر من رطانة الأمن والأمان.

***

 

حاولتُ أن أبحث عن أصل صابونة الزيت في فلسطين، فعثرتُ على تاريخ البركة والحنين كلّه، وخمائل الذكريات، وفجر الروايات الخالصة.

***

 

لم أكن أعرف أنّني أودّع كلّ أصوات الفرح، أودّع مكانًا شاحبًا، وآلف أماكنَ أكثر وحشةً، وأصوات الفرح مساحاتٌ ومنافٍ بعيدةٌ في الذكريات، أزورها كلّما ضجرتُ من رتابتي، وطالعني اليأس والحزن الشفيف.

أحنّ إلى الأصوات، إلى موسيقاها، إلى الروائح الّتي توازي عندي تشاكل الحواسّ، ولا أحنّ إلى حجر.

***

 

’الزبل الأسود‘ سمادٌ ليس طاهرًا، عادةٌ فلّاحيّةٌ متأخّرةٌ، كان جدّي يصحبنا معه إلى زيتوناته الوحيدات، يراقب دمعاتها، عيناه جنّةٌ من الفضّة، يتفجّر فيه فرحٌ ذهبيٌّ، ويفجّر فينا أعيادًا وتمائمَ حبٍّ خضراءَ، جناحا غيمةٍ في عنق فراشة ذلك النهار، ونزيفًا باكيًا للمستقبل كانت دموعي.

***

 

يشدّني شيءٌ ما من الطفولة، فهي لم تكن بارعةً في نسج أحلامي، لم تكن غولًا ولم تبنِ خيالًا أزرقَ للشعر والعزلة، لكنّها صورةٌ مشبعةٌ بالأسئلة والتجارب، وسكّرٌ من الوقت وتأمّل الجبل. أتذكّر، فقط، أنّني كنت صابونًا وزبدًا، يراه الغرباء بشوقٍ، يهمله القريبون. هكذا تشكّل هيكل القصيدة الأوّل فيّ.

***

 

ضيّعتُ أمّي مرّةً، وهي ’تبقّل‘، خلف كرم صبرٍ، ولم أسمع صدًى يبحث عنّي، وما زلت أبحث عنها.

***

 

أبي ضيّعني، ولم يبحث عنّي مرّةً واحدةً، بحثتُ عنه، بفطرتي، بأيّامي، بالصوت الغائب، فازداد حضورًا.

***

 

لا أدري من أيّ مصادرَ تخرج كلّ تلك الأوقات والأزمنة، لطالما دفنتُ الماضي ونهضتُ من جثّتي إلى كلّ أرض، وحملتُ شراعي وطنًا ولغتي طائرًا بجناحي حلمٍ وخيال. الندوب محوتُها كي أطوي صفحاتٍ باردةً، وأدفّئ قلبي بلؤلؤ العائلة.

***

 

كلّما تذكّرتُ الزيت مخفيًّا في عتمة البيت القديم، وكوّة جدّي تغرف الحنين من الخوابي، بالبسملة والحوقلة، اصطدتُ قصيدةً من الماضي. كان هذا هو لقائي الأوّل مع البواطن.

وقبل أن أغفو في ليالٍ نادرةٍ، أذكر قصص أنبياءَ حملوا فخّار الندم؛ نوحٌ كان وحيدًا، ويونسُ كان بألف رئةٍ، وإبراهيمُ الخليل شدّتِ السماء مديته بالفرح، تجتاحني عاطفة الأنبياء أنهرًا من أصابع جدّي إلى زغبي المتورّط في الشعر.

***

 

تحاول الكلمات أن تنفخ في الذكريات رمادها، وأحاول أن أصنع منها تماثيلَ لأشهد وجع العائلة، كان الحزن ظِلّ أعيادٍ، ومزايا الحجارة الّتي جفّفها جدّي بمناديل الجيلانيّين وهم يخرجون من خوخة الوعي إلى شظايا الروح، فيتشاكلون بفيضهم، يسفرون الكرامات، ويعلّقونها أعلى النخيل، أعلى السعف، والحجارة شاهدة.

***

 

قبل أن يموت جدّي وتعيش شطحةٌ بيضاءُ منه فيّ، كان بارعًا بإطعام عابري السبيل، الّذين يمدّون أيديهم البيضاء لإنزال أكياس الزيتون المفروط، يقدّم هريسة الصباح، الهريسة الّتي كانت تتفتّت تحت ثناياه قطر ندًى، فتئنّ أيّامه الّتي قضاها يطالع الأسماء، ولياليه الّتي آنسته بالغربة والمنافي السماويّة، وأقلامه الّتي شقّت ألف حرزٍ في نفوس القرويّين حتّى ينام أطفالهم، ويقضوا ليلهم بالمسرّة والوعود.

***

 

البئر لم يجفّ يومًا، والمزاريب تتهيّأ لدموع الربّ في تعاويذ الشتاء، والبيت كان دافئًا في الكانونين، كلّما حفّت كفّه حرير السكينة، كان الصمت يصلّي، الهواء يذوب في طاسة تنقشها الآيات بالرضا. والبئر فائض الدموع الّتي تتجمّع الكلمات فيه، ترجمان أشواقٍ للحبّ والإيمان. كانت البئر صحن البيت الّذي لا يحتاج إلى توابل التوبة؛ لأنّها من فيض الرؤى الدامعة.

ومن بعدك، البئر جفّت يا جدّي!

 


 

علي قادري

 

 

من مواليد قرية نحف في الجليل. شاعر ومعلّم للغة والأدب العربيّين في المرحلة الثانويّة بمدرستي "مسار" – الناصرة، و"ابن سينا" - نحف. يعمل محرّرًا أدبيًّا لمجلّة "الغد الجديد" الثقافيّة، الصادرة عن جمعيّة المنار للثقافة والهويّة الفلسطينيّة. له مجموعة شعريّة بعنوان "خراب وثلاثون جثّة".