تأثير المسرح الشبابي في فلسطين

من مسرحيّة "مروّح ع فلسطين" | إنتاج "مسرح الحرّيّة"

 

المصدر: howlround.com.

ترجمة: فريق روزنة - فُسْحَة.

 

 "إنّنا لا نُنتج فنّانين، بل نخلق قادة مجتمع"، هذه كلمات الراحل جوليانو مير خميس، مؤسّس "مسرح الحرّيّة" ومديره الفنّيّ في فلسطين، كلمات لا يزال صداها حاضرًا بعد مرور سبع سنوات على اغتياله. هذا الشهر - أيلول – [الماضي]، سيُعيد "مسرح الحرّيّة" إطلاق "مدرسة المسرح المحترف"، بعد قرابة عام ونصف من التوقّف؛ لتقدّم تعليمًا في ما يخصّ التمثيل والابتكار والمقاومة الثقافيّة، لشباب مدينة جنين، في أقصى شمال الضفّة الغربيّة، المنطقة الّتي شهدت صراعات متعدّدة طوال السنين.

ثمّة حاجة ملحّة إلى البرمجة الثقافيّة الشبابيّة في فلسطين، ولحسن الحظّ، كان "مسرح الحرّيّة" واحدًا من المؤسّسات الّتي أخذت على عاتقها هذه المهمّة، بالعمل إلى جوار منظّمات من قبيل "مسرح عشتار" في رام الله، و"جمعيّة الروّاد للثقافة والفنون" في بيت لحم، تهدف جميعًا إلى التفاعل مع الحاجات الثقافيّة للمجتمعات المحلّيّة. وإضافة إلى تمكين الشباب من منصّة للتعبير الإبداعيّ، تقدّم هذه المجموعات للشباب مساحة آمنة للانخراط المباشر في بناء المجتمع، باعتباره وسيلة إبداعيّة لمقاومة الاحتلال، بالإضافة إلى التدريب المهنيّ والمهاراتيّ الّذي يتلقّونه هناك.

 

من إنتاجات "مسرح عشتار" في رام الله

 

أظهر تقرير "الجهاز المركزيّ للإحصاء الفلسطينيّ" عام 2017، أنّ 30٪ من مجموع 4,95 مليون ساكن في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، هم بين 15 و29 عامًا. وترتفع نسبة البطالة بين هؤلاء الشباب لتصل إلى 40٪، خصوصًا في صفوف مَنْ هم بين 20 و24 عامًا. علاوة على ذلك، وصلت نسبة البطالة بين مَنْ لديهم شهادة جامعيّة إلى 56٪، نسبة ارتفعت مقارنة بالسنة الّتي سبقتها. اجتمعت هذه الإحصائيّات اللافتة مع قرار الرئيس دونالد ترامب الأخير؛ تقليص 200 مليون دولار من المساعدات الّتي كانت تقدّمها دولته لمنظّمة "الأونروا"؛ خالقًا - ما قد يبدو من الخارج - تأطيرًا لليأس.

"نحن - بصفتنا عاملين في المجال الثقافيّ - لا نملك رفاهية اليأس"، يقول د. عبد الفتّاح أبو سرور، مؤسّس "جمعيّة الروّاد للثقافة والفنون" ومديرها، ويضيف: "حينما يكون لديك أطفال في سنّ الثماني أو التسع، يتحدّثون عن أحلامهم في حصّة السرد والحكي، ويخبرونك بأنّهم يحلمون بأن يموتوا؛ إذ لا أحد يهتمّ… حينئذٍ ستتأكّد أنّهم قد وصلوا إلى قمّة اليأس؛ لأنّهم لا يرون أحدًا جديرًا بالثقة، كما أنّ الوعود السياسيّة لم تأتِ إلّا بمزيد من القمع؛ هذا الوضع لن يكون أبدًا خيارًا تتركه للأطفال والأجيال القادمة".

يعمل موظّفو "الروّاد"، الموجودون في مخيّم عايدة وسط الضفّة الغربيّة، مع شباب المخيّم؛ لخلق ما يسمّونه "المقاومة الجميلة": "الإيمان بأنّ أيّ مقاومة ضدّ الظلم، هي بالضرورة فعل إنسانيّ جميل"، وهم يحقّقون ذلك باختيارهم للثقافة والفنون والتعليم.

يقول أبو سرور في هذا الصدد: "الهدف إنقاذ الحيوات؛ أن تلهم وتعطي الأطفال كلّ إمكانيّة للتعبير عن ذواتهم، بالطرق الأكثر جمالًا وإبداعًا وسلميّة"، ويضيف: "لن تحصل المعجزات هكذا وحدها؛ إذ علينا نحن الفنّانين أن نصنع المعجزات، وأن نحفّز حصولها؛ إنّها مسؤوليّتنا".

ثمّ إنّ من الطرق الّتي يفعّلون بها مسؤوليّتهم هذه، تقديم تدريبات مهنيّة لأبناء مخيّم عايدة. إنّ "الروّاد" لا تخلق فقط فرص عمل دوريّة لمن يكونون جزءًا من برامجها، بل إنّ عددًا من شباب المخيّم، تمكّن من الوصول – أيضًا - إلى مراكز قياديّة في الجمعيّة، حينما أصبحوا بالغين، وهو أمر تشترك فيه أيضًا مؤسّستا "مسرح الحرّيّة" و"مسرح عشتار".

 

د. عبد الفتّاح أبو سرور، مدير عامّ "جمعيّة الروّاد للثقافة والفنون"

 

في الجانب الفنّيّ، يعطي المشهد المسرحيّ النشيط في فلسطين، الشباب فرصًا للعمل على عدد من الأجناس، بما في ذلك الكلاسيكيّات، وأعمال شكسبير، والمسرح الراقص، والتراث الشفويّ المستلهم من الحكواتيّ، وهو تقليد قصصيّ عربيّ قديم، يعود بجذوره إلى مجمل منطقة الشرق الأوسط.

يقول ملكار معلّم، وهو ممثّل وأحد خرّيجي مدرسة "مسرح عشتار": "من المهمّ أن يعلم الناس بوجود مسرح فلسطينيّ"، ويضيف: "أعتقد أنّ الكثيرين يملكون فهمًا خطأً للثقافة الفلسطينيّة، ولا يقدّرون غناها، إنّنا نهتمّ حقيقةً بحكاية قصّتنا الخاصّة، بنفس القدر الّذي نهتمّ فيه بتطوير مجتمعنا؛ فالمسرح وسيلة سلميّة للاحتجاج ضدّ الاحتلال، وضدّ الفساد الداخليّ في الآن ذاته".

يواجه صنّاع المسرح الفلسطينيّون تحدّيات صعبة جدًّا؛ ففي الشهر المنصرم فقط، في 9 آب (أغسطس) [الماضي]، سُوّي "مركز سعيد المسحال الثقافيّ" ومسرحه بالأرض في غزّة، بعد قصف إسرائيليّ. كان المبنى من آخر المساحات الثقافيّة المتبقّية، الّتي تحتضن الموسيقى والرقص والمسرح، وتقدّمها لسكّان غزّة. بعد وقت قصير من قصفه، اجتمع مئات الفنّانين والجمعويّين فوق أنقاض المركز، لإظهار تضامنهم وقوّتهم.

يقول محمّد عبيد ذو الـ 28 عامًا، في حوار مع الـ "غارديان": "اختفت ذكرياتنا الآن، لا أعلم إن كنّا قادرين على خلق أخرى جديدة، سنحاول مجدّدًا، لكنّني لست متأكّدًا إن كان بإمكاني إقناع زملائي بالاستمرار". ويدير عبيد "فرقة العنقاء للفنون"، الّتي كانت تؤدّي رقصات الدبكة الفلسطينيّة، الّتي كانت مستضافة في المركز المهدّم، الّذي استطاعت فيه أيضًا تدريب أكثر من 250 شابًّا وشابّة.

كانت هذه المساحة الثقافيّة، مركزًا أيضًا لمجموعة فرع "مسرح عشتار" في غزّة منذ 2008. و"مسرح عشتار" الّذي أسّسه الممثّلان الكاتبان إيمان عون وإدوارد معلّم عام 1991، كان أوّل مدرسة مسرحيّة في فلسطين، تقدّم برنامجًا تعليميًّا من 5 سنوات للممثّلين الشباب، وهو برنامج لصالح الشباب بين 15 و24 عامًا، يمكّنهم من تقنيّات التمثيل، والمسرح الجسديّ، ومسرح المقموع/ المقهور، إضافة إلى فرص لتطوير مهاراتهم القياديّة خارج خشبة المسرح.

 

الفنّانان إيمان عون وإدوارد معلّم في مسرحيّة "حجارة وبرتقال"

 

وحسب عون؛ لا يقدّم النظام التعليميّ الرسميّ في فلسطين إلّا "مساحة صغيرة لتعليم الناس كيف يفكّرون وينقدون ويكتشفون ويتساءلون"، في ما يحاول عشتار إدخال هذه النواقص إلى حياة الفنّانين الشباب. ترى عون أنّ هذه التجارب الّتي يتعرّض إليها الشباب، مثل التقاء أقرانهم من كلّ البلاد والعالم، ساعدتهم على اكتشاف ذواتهم، والدور الّذي يؤدّونه في مجتمعهم.

في تمّوز (يوليو) الماضي، أسهم 9 طلبة من خرّيجي مدرسة "مسرح عشتار"، في التنسيق للنسخة الرابعة من "مهرجان الشباب الدوليّ السنويّ"، الّذي جمع فنّانين ومدرّبي مسرح من كلّ العالم؛ ليشاركوا في ورشات وعروض طيلة 10 أيّام، ويتعاونوا مع منظّمات فلسطينيّة أخرى، مثل "مسرح نعم" في الخليل، و"المسرح الشعبيّ" في مخيّم الأمعري للاجئين، والخروج بعرض ختاميّ مشترك.

قدّم المهرجان فرصة نادرة للشباب الفلسطينيّين، والدوليّين القادمين من روسيا وبولندا وألمانيا والنرويج والولايات المتّحدة؛ للتبادل الثقافيّ وإطلاق برامج زمالة متبادلة. لقد عمل هؤلاء الطلبة، على تجاوز حواجز اللغة والانتماء الجغرافيّ وتحدّي الأفكار المسبقة؛ إذ كان المشاركون يقضون قرابة 12 ساعة يوميًّا، في الفصول الدراسيّة وتجارب الأداء، يحضرون العروض، ويتشاركون في وجبات الطعام، ويخلقون جوًّا تضامنيًّا في ما بينهم.

بعيدًا عن الأثر السوسيونفسيّ للمسرح، يكتسي الأمر مثل تزويد الشباب بالمنهجيّات والانضباط، وزرع المهنيّة وأخلاقيّات العمل فيهم، أهمّيّة كبيرة لدى العاملين في "مسرح عشتار"؛ ففي الليلة الّتي سبقت افتتاح المهرجان، وفي واحدة من الاجتماعات الّتي تلت تجارب أداء النسخة العربيّة من مسرحيّة "بير جينت Peer Gynt"، قدّم كلٌّ من إيميلي أندري سابا - مخرج العمل وأحد خرّيجي البرنامج - وماشا كابوستينا - الكوريغرافيّة ومصمّمة الأزياء - قدّما نصائح وتوجيهات صريحة لطلبتهما.

في هذا الصدد، تقول كابوستينا: "ليس ثمّة عذر لعدم حفظ تفاصيل تغيير أزياء العمل، ومعرفة الكوريغرافيا"، في ما نادت سابا عددًا من الطلبة الّذين رأت أنّهم لم يعطوا كلّ ما في جعبتهم، وذكّرتهم بأنّه في الأعمال الجماعيّة يكون الكلّ مسؤولًا عن أيّ ضعف، أو تصرّف خطأ؛ قد يهدم كلّ العمل".

 

تظاهرة فنّيّة بين أنقاض "مركز سعيد المسحال الثقافيّ" في غزّة بعد قصفه

 

لقد رفع سقف التحدّي عاليًا، وليس على طلبة "مسرح عشتار" أن يصلوه فقط، بل أن يتجاوزوه؛ فهؤلاء الشباب كانوا يظهرون على أنّهم يفهمون جيّدًا، أنّ عليهم العمل بجدّ، للتحضير لافتتاح المهرجان.

تقول سما شلبي ذات الـ 15عامًا في هذا الصدد: "ليس مسرح الشباب سهلًا كما قد يظنّ البعض"، وتضيف: "على الرغم من أنّنا لا نزال صغارًا، إلّا أنّنا نُعامَل على أنّنا محترفون". وتشعر شلبي بأنّ هذا التعامل صنع منها عاملة قويّة وشخصًا أفضل، إنّها تحلم بالعيش في مدينة نيويورك، وأن تصبح محامية؛ تقول: "قرأت عن نيويورك في الإنترنت كثيرًا"، وتضيف: "لم أزرها قطّ، لكنّني سمعت عن مكتب قانونيّ في بروكلين، يقدّم فرص تدريب خيريّة لمن لا يستطيعون تحمّل تكاليف التعلّم، وأريد أن أعمل هناك"، وتستطرد: "لقد صنعني ’مسرح عشتار‘، وساعدني على الخروج من منطقة راحتي (Comfort zone)"، وتضيف: "لقد ساعدني على اكتشاف ذاتي بطرق عديدة؛ أنا الآن راضية عن نفسي".

يتّفق كلّ أعضاء الفرقة مع ما عبّرت عنه شلبي؛ فالمسرح كان علامة فارقة في حياتهم جميعًا؛ المكان الّذي اكتسبوا فيه ثقتهم بأنفسهم وأصدقائهم. من جهة أخرى، يبدو أمير زبانة، أحد طلبة "مسرح عشتار" أيضًا، متحمّسًا بشدّة لبدء مسار مهنيّ في المسرح؛ يقول: "لا أريد أن أكون محدودًا، لا بالقوميّة، ولا الدين، ولا مكان وجودي؛ أريد الهروب من النُّظم والأنماط الّتي تحاول أن تجعل حياتي مملّة". إنّ المسرح بالنسبة إليه وسيلة للهروب، بالإضافة إلى أنّه أداة ثقافيّة، علّمته وزملاءه كيف يتحرّرون من التعريفات الّتي أعطاهم إياها المجتمع.

بالنسبة إلى الشباب في فلسطين، يصبح التعبير الإبداعيّ والمقاومة السياسيّة مجالين متداخلين جدًّا؛ يقول زبانة: "يمكن أن يكون الفنّ أداة قويّة جدًّا للثورة ومقاومة القمع"، ويضيف: "لكن يمكن أن يكون منفصلًا عنها أيضًا؛ فالفنّ السياسيّ يجب ألّا يكون مباشرًا بالضرورة، كقصيدة عن الاحتلال، أو لوحة بألوان العَلَم، فحينما تهدم توقّعات الناس، وتُفاجئهم بشيء ما جديد، تكون قد بدأت فعلًا في صنع التغيير؛ فحينما تقدّم لهم الفنتازيا، على الرغم من نظرتهم السلبيّة لها، تكون قد صنعت شيئًا ما".

 

طاقم مسرحيّة "جنان أم جرابات طوال" من إنتاج "مسرح الحرّيّة"

 

فكما كتب كلٌّ من مايكل بلفور، وجيني هيو، وجيمس ثومسون، في "المسرح في أماكن الحروب  Performance in Place of War": "الخيال أوّل مراحل خلق - أو إعادة خلق - عالم خارجيّ له حياة تتعدّى الجسد، وتولّد روابط مادّيّة واجتماعيّة، تقوّي حماية الأفراد والجماعات ومرونتهم"؛ فـ "مسرح عشتار" و"الروّاد" و"مسرح الحرّيّة"، وبرامج أخرى، توفّر مساحة للشباب؛ لا ليتخيّلوا مستقبلهم فقط، بل ليخلقوه أيضًا. تقول عون في هذا الصدد: "فحتّى إن لم يستمرّ الشابّ في صناعة المسرح، فإنّه سيستمرّ بالضرورة في صناعة حياة أفضل؛ فأيًّا كان ما سيفعلون حينما ينتهون، فإنّهم سيكونون مدركين لأثر ما تعلّموه - بشكل مباشر أو غير مباشر - في المسرح".

 

 

* روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من الإنجليزيّة والفرنسيّة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، بإشراف المترجمين، أسامة غاوجي ومعاد بادري.

موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا. 

* بعض الموادّ البصريّة الواردة في هذه المقالة من اختيارات هيئة التحرير، لا المصدر الأصل.