نظرة إلى «متحف الشعب الفلسطينيّ» في واشنطن العاصمة

«موعد لعب غير مشروط»، دالية الشربيني | «متحف الشعب الفلسطينيّ»

 

المصدر: Mondoweiss.

ترجمة: خالد السيّد - فُسْحَة.

 

عندما تدخل «متحف الشعب الفلسطينيّ» في واشنطن العاصمة، تشعر كما لو أنّك دخلت مكانًا تنتمي لأهله. تتوالى الأحاديث، ويتردّد صدى الحكايات والتاريخ الشفويّ في كلّ زاوية من المتحف. وتُظهر الحيطان المكسوّة بالصور، وجوهًا وإرثًا تدعو ارتباط الناظر إليها.

 تقول منسّقة التنمية ووسائل التواصل الاجتماعيّ في المتحف، آنا ميشيل بيباك: "تجري روابط (في المكان)، فالناس يأتون هنا، ويلتقون بآخرين، ويتواصل الزوّار مع بعضهم بعضًا ومع التاريخ. ونقول لهم إنّ ذلك متأصّل في الثقافة الفلسطينيّة: أي الترحيب الهائل، وكرم الضيافة، وأن تتجمّعوا في الحيّز مع الأصدقاء".

وليس شعور الطمأنينة والحسّ العائليّ والأحاديث الطاغية على المكان بصدفة، فيقول مؤسّس المتحف ومديره، بشارة نصّار، إنّ حلم المشروع كان بسيطًا، ويتلخّص برواية قصص فلسطينيّة وخلق حيّز ليتواصل الناس داخله. وحُقِّقَ هذا الحلم لأوّل مرّة عام 2014، عندما ابتكر نصّار «مشروع متحف النكبة»، وهو معرض متنقّل وصل إلى أكثر من 50 منصّة، تعرض أعمالًا فنّيّة، وخرائط، وصورًا، وفيديوهات تفصّل التاريخ الفلسطينيّ، في الولايات المتّحدة.

والآن، عثر المتحف المتنقّل على مأوًى لنفسه في واشنطن العاصمة، في مساحة متواضعة لكن مُنسّقة بعناية. وبصفتها أمينة المتحف، أخبرتني ندى عودة، بأنّ عمليّة تجميع القطع للتشكيلة الدائمة في المتحف، فضلًا على مجرّد افتتاح أبوابه في الصيف الماضي، لم تأتِ دون صعوبات.

وكما تقول عودة: "لم يكن من السهل افتتاح المتحف، خاصّة التحدّيات الماليّة وتحدّيات فتح مساحة في العاصمة، وجمع قطع لعرضها. يتطلّب الأمر شجاعة، فقد تردّد البعض، بينما كان بعضهم الآخر قلقًا بشأنه سياسيًّا"، بينما لم يعرف الآخرون ما عليهم أن يتوقّعوه من حيّز جديد كهذا.

 

من معرض «صنعوا بصمتهم» في «متحف الشعب الفلسطينيّ» | آنا - ماتيون فوتوغرافي

 

على الرغم من المصاعب، إلّا أنّ الحيّز الجديد يتزيّن بالفنون، والتحف التاريخيّة، والمعروضات المتعدّدة الوسائط والتفاعليّة. وحصل المتحف على معظم القطع الّتي يعرضها من تبرّعات مجتمعيّة، ومنها ما يتضمّن جوازات سفر فلسطين الانتدابيّة، وخرائط رُسمت قبل أكثر من 100 عام، وأشعار فلسطينيّة، وأغراض أخرى تثبت الوجود التاريخيّ الطويل لفلسطين، فذلك موضوع مركزيّ في جميع زوايا المتحف؛ أي تأكيد الهويّة والوجود، والمحاججة ضدّ أيّ محاولة لمحو حيويّة أو جسارة التاريخ الفلسطينيّ.

إحدى أوائل القطع الّتي تصادفها عند مدخل المتحف، عبارة عن جرّات للمياه من عصور قديمة، في شهادة على الأهمّيّة المتواصلة للمياه، وحقّ الوصول إليها. أمّا على الجدار المقابل للجرّات، فثمّة دليلان على الهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة: مقالان من عدد صادر من مجلّة «ناشيونال جيوغرافيك» في 1914، أحدهما يحتفي بـ «أراضي الكتاب المقدّس، ومهد الحضارة الغربيّة»، والثاني بـ «حياة القرية في الأراضي المقدّسة». كلا المقالين مصحوب بخرائط توضّح الحدود العثمانيّة لفلسطين. يمثّل حضور هذه القطع الأثريّة، تحدّيًا ذكيًّا للمحاولات المستمرّة والتاريخيّة للإقلال من شأن الهويّة الفلسطينيّة وطمسها ومحوها التامّ.

وأطلعتني بيباك على الدور الحيويّ الّذي أدّته مجموعة من الفلسطينيّين، والأمريكيّين الفلسطينيّين، وغيرهم من الداعمين في إحياء المتحف، قائلة إنّ في "قلب هذه المؤسّسة، ثمّة قاعدة شعبيّة". وفي نواة هذه القاعدة الشعبيّة، يكمن الشتات الفلسطينيّ، الّذي تغطّي أعماله الفنّيّة الجدران في المعارض الدوريّة، وأدّى دورًا رائعًا في دعم المتحف.

وأضافت: "لدينا فنّانات فلسطينيّات، وفلسطينيّون من مخيّمات اللجوء، وفنّانون كنديّون فلسطينيّون، وأمريكيّون فلسطينيّون، وفلسطينيّون من غزّة ومن حيفا. إنّها لمجموعة متنوّعة من الأصوات، تسعى إلى سرد قصّة التجارب المتنوّعة للفلسطينيّين".

ومع بداية تدفّق التبرّعات، كان أهمّ المهامّ الملقاة على عودة هو التأكّد من موثوقيّة القطع، وكونها مدعومة بمصادر تراعي الأخلاقيّات، وإمكانيّة وصولها إلى المتحف دون مساس. ولأنّ العديد من الفنّانين المساهمين لا يستطيعون السفر خارج فلسطين، وهي من العوائق الّتي أوجدها الاحتلال الصهيونيّ المتواصل، شُحِنَت اللوحات والأعمال الفنّيّة آلاف الأميال. وفي هذا الجانب تحديدًا تصبح وسائل الإعلام الرقميّة ذات أهمّيّة خاصّة، حيث تُعْرَض على شاشات التلفزيون والأجهزة اللوحيّة في جميع أنحاء المكان، عروض فيديو مسجّلة للمطربين ومؤلّفي الأغاني الفلسطينيّين في غزّة.

 

«متحف الشعب الفلسطيني» | آنا - ماتيون فوتوغرافي

 

يسلّط المتحف الضوء على ثيمات جوهريّة في جميع زواياه: التاريخ، والثقافة، والنكبة، والصمود، عدا «إعادة تصوّر المستقبل»، وهو معرض تتعدّد فيه الأعمال الفنّيّة المدهشة. وكلّ قسم من أقسام المتحف يلازمه جانب سياسيّ. وعن ذلك تقول كلٌّ من عودة وبيباك، إنّه أمر لا مفرّ منه عند النظر إلى المحتوى الّذي يطرحه.

وتضيف بيباك: "إذا ما رأيت أحدهم يقول إنّه غير مسيّس، فهي علامة على امتيازاته. بإمكانك أن تختار أن تصطفّ إلى جانب خطاب السلطة ما لم تؤثّر فيك، أو إذا كانت السلطة في صالحك، ولكن بالنسبة إلى الفلسطينيّين، وغير البيض، والأقلّيّات، هذا ليس خيارًا: إنّه واقع معيش".

عندما ناقشت عودة عن الطابع السياسيّ لمحتوى المتحف، حتّى لو كان ذلك عن غير سابق إصرار، أخبرتني بأنّ "الفلسطينيّين يعانون من الاحتلال، والعيش في ظروف صعبة، وهذا وضع سياسيّ من الأصل. لا نصبّ تركيزنا على السياسة، ولا نحاول الترويج لأجندات معيّنة، ولكن مجرّد مشاركة هذه القصص هو أمر سياسيّ".

في طبيعة الحال، من الصعب تجاهل الجانب السياسيّ لوجود المتحف من الأصل؛ إذ تُظْهِر الصور على الجدران فلسطينيّين مسنّين، يحملون مفاتيح منازلهم المسروقة، أو الّتي هُجِّروا منها أو المدمّرة، وتُظْهِر اللوحات المذهلة للفنّانة داليا الشربيني أطفالًا فلسطينيّين يلعبون بمحاذاة جدار الفصل العنصريّ الإسرائيليّ، وثمّة الأستاذ في «جامعة الأقصى» والفنّان محمّد مسلم، الّذي يبيّن لنا في عمل فنّيّ فسيفساء جواز السفر الفلسطينيّ من الشتات، وأفلام وثائقيّة تعرض بالتفصيل تجارب السجينة السياسيّة، وأيقونة المقاومة الدوليّة عهد التميمي. كلّ ذلك يبدو سياسيًّا للغاية بالنسبة إلى معظم الغرباء.

ومع ذلك، يؤكّد القائمون على المتحف أنّ هدفهم مشاركة القصص المختلفة، والدخول في حوارات، وأن يقدّموا حيّزًا يمكّن المجتمع من الارتقاء والازدهار، ويأملون في المستقبل أن يشبكوا مع مؤسّسات محلّيّة ومتاحف أكثر في واشنطن العاصمة، واستضافة برامج وورش تثقيفيّة، ومواصلة إنماء الحسّ الشعبيّ العائليّ، الّذي أتاح لهم الوصول إلى هنا.

وأخبرتني عودة بنبرة شغوفة: "نأمل أن نملك مساحة أكبر يومًا ما، ونريد أن يكون لنا رأي في ما يمكن أن نفعله في المستقبل. أعتقد أنّ المتاحف تستطيع أن تكون جزءًا من الحلّ، ومناقشة الموضوعات السياسيّة والقضايا الإنسانيّة؛ فهي تتحوّل إلى جزء من حلول أيّ صراع، وآمل أن نتمكّن من الاستمرار في ما نفعله هنا؛ أي إظهار ما يحدث في العالم، وأن نكون صادقين مع الجميع".

 

الكاتب: ديفين سبرينغر، يعمل في المجال الثقافيّ الأميريّ، ومنظّم مجتمعيّ، وباحث مستقلّ.

 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من الإنجليزيّة والفرنسيّة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، بإشراف المترجمين، أسامة غاوجي ومعاد بادري.

موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا.