ألغوا «متحف الفنّ الحديث»: حالة فلسطين

مقاتلون صهاينة يمثّلون القبض على عربيّ من أجل الصورة عام 1948 | أرشيف الجيش الإسرائيليّ

 

المصدر: Journal of Visual Culture Palestine portfolio.

ترجمة: علاء سلامة - فُسْحَة.

 

بينما نشاهد العنف المنظّم والمدعوم من الدولة الصهيونيّة ضدّ الفلسطينيّين في كلّ أنحاء فلسطين المحتلّة، لا حاجة إلى التذكير. "إنّنا لا نشاهد ‘حربًا أهليّة‘ داخل إسرائيل"، تكتب لانا طرطور (طرطور، 2021)، "بل دولة الاستعمار الاستيطانيّ الإسرائيليّة تعلن الحرب على ‘مواطنيها‘ المستعمَرين"، والفلسطينيّون يقاتلون من أجل تحرّرهم". إنّ جغرافيا الاستعمار الاستيطانيّ مربكة بشكل مقصود. فلنكن واضحين مرّة أخرى، فلسطين هناك، حيث كانت دائمًا. يبدو ذلك بديهيًّا، ولكنّ الجغرافيا الإمبرياليّة مربكة بشكل مقصود. الكثير من العنف يُسْتَخْدَم من أجل تطويع الجغرافيا، وتطويع إدراك الناس لها.

في البدء، شُنَّتْ حرب ديموغرافيّة بهدف صناعة جسم سياسيّ جديد؛ طُرِدَ الفلسطينيّون ومُنِعوا من العودة، وأُعْطِيَتْ هويّة إمبرياليّة جديدة لملايين المواليد اليهود في فلسطين الّتي حُوِّلَتْ إلى إسرائيل، تعلن أنّ فلسطين ما عادت موجودة. تُسْتَعْمَل الهويّة كسلاح خفيف؛ إذ تعكس الجغرافيا الاستعماريّة الجديدة. هؤلاء الرضّع كبروا مؤمنين بأنّهم «إسرائيليّون». أُعْطِيَتْ هذه الهويّة لهم جزءًا من عمليّة تحويل «إسرائيل» من موضوع نزاع إلى حقيقة مكتملة. ييسّر الغسيل الفنّيّ هذا عمليّة التحوّل الاستعماريّ من فلسطين إلى إسرائيل. مرّة أخرى يكون توثيق «متحف الفنّ المعاصر» لجرائمه، الإثبات الّذي نحتاج إليه: ألغوا «متحف الفنّ المعاصر».

في عام 1964، عمل «متحف الفنّ المعاصر»، مع مجلسه الدوليّ، و«مؤسّسة إسرائيل الأميركيّة»، الّتي تهدف إلى "التأثير في الطريقة الّتي يقبل فيها العالم بإسرائيل؛ من خلال صناعة الجيل الآتي من سفراء الثقافة الإسرائيليّة"، على المساعدة في تحقيق هذه المهمّة. نظّم المتحف معرضًا جاب الولايات المتّحدة للفنّ الإسرائيليّ، «إسرائيل الفنّ»، مؤكّدين ما أرادت الدولة الإسرائيليّة أن تعلنه: إنّ فلسطين غير موجودة. توصّل قيّم معارض مهمّ في المتحف إلى الآتي، وأنا أقتبس منه حرفيًّا: "حدّة التعاطف الإنسانيّ، والفخر، والفكر، والإبداع الّذي يأتي من دولة إسرائيل نفسها، هو المصدر الرئيسيّ الّذي يحرّك الفنّ الإسرائيليّ ويعطيه هذا النفس المميّز، مهما كان أسلوبه". لقد كانت خطّة تقسيم فلسطين، ومحو فلسطين، خطّة صهيونيّة أوروبّيّة. اعتراضًا على قرار خطّة التقسيم، توجّه الفلسطينيّون إلى الشوارع. هنا، كانوا في لحظة غالية كان ممكنًا فيها قلب الأمور. ليست هذه بداية ما يدعونه بـ «حرب استقلال إسرائيل»، كما يظهر مكتوبًا في وصف الصورة الرسميّ. هذا احتجاج عارم ضدّ الخطّة الصهيونيّة الأوروبّيّة. إنّنا نشهد لحظة ما قبل ظهور كذبة «الطرفين»، الفلسطينيّون لا يحتجّون على إسرائيل، إنّهم يحتجّون على إقامتها ضدّهم.

 

 

العنف، الحدود، المساحات السجينة، الرضّع الموسومون بهويّة المستوطنين، ووثيقة ملزمة، كلّها اسْتُعْمِلَ من أجل طرد الفلسطينيّين، وإجبارهم على أن يصبحوا غرباء عن وطنهم الّذي جُعِلَ وطن المستوطنين. انظروا إلى الوثيقة في وسط هذه الصورة، «اللحظة الحاسمة» لإعلان الاستقلال، الخامس عشر من أيّار (مايو)، 1948.

 

 

اعترف القانون الدوليّ (ومنظّمات إمبرياليّة أخرى أنشأتها القوى الإمبرياليّة على مدى قرون) بهذه الوثيقة، وأعطوها الأوّليّة على حساب التماسات السكّان الأصلانيّين الّذين تستهدفهم الوثيقة. من خلال إعلان قيام دولة إسرائيل، فقد أعلنت هذه الوثيقة بكلمات أخرى: فلسطين غير موجودة بعد الآن، فلسطين لم توجد قطّ. هذه هي النكبة المستمرّة. هذا نظام سياسيّ يقوده الصهيونيّون أوّلًا، والقوى الأوروبّيّة المهتمّة بإيجاد حلّ لـ «الشعب اليهوديّ» غير المرغوب فيه في أوروبّا، ولاحقًا، باتت تدعمه الولايات المتّحدة والمجتمع الدوليّ. لكن سرقة الأراضي، وطرد المنتفعين منها، أنظمة الحدود، وإعلان للسيادة، لم تكن كافية من أجل أن تُديم هذه الجريمة المنظّمة نفسها. كان لا بدّ من خلق الكيانات المعروفة بالمؤسّسات الثقافيّة من أجل أن تساهم في تطبيع هذه الجريمة المنظّمة الواسعة النطاق. كيف تعمل هذه الكيانات؟ هذه الكيانات آلات. إنّها تحوّل العنف الإمبرياليّ إلى أغراض مستقلّة، بما في ذلك الصور والوثائق، ثمّ تمنحهم قيمة عالية، مخصِّصة هذه الأغراض للدراسة، وللاستمتاع، وللعرض. هذه هي كلّ مَلَكات هذه الكيانات:

- الأرشيف: الإنتاج، والتدمير، والمحافظة على الوثائق في خدمة شرعنة السرقة.

- المتاحف: التعامل مع الأغراض المستقلّة الّتي يكون من خلالها إعادة تأكيد زمانيّة الإمبراطوريّة ومكانيّتها.

- الحقول الأكاديميّة: إبقاء المسافة الضروريّة بين الباحثين والأغراض البحثيّة «الخاصّة بهم»، بطريقة تحيل هذه الأغراض إلى «الماضي».

تعمل الإمبرياليّة عبر «نظام أغراض»؛ أغراض تُحْفَظ بعيدًا عن الناس، ويجري التعامل معها من قِبَل مختصّين منفصلين. أغراض تُسْتَعْمَل في سلب الشعوب المستهدفة بها وإضعافها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. قد لا يبدو أنّ نظام الأغراض الإمبرياليّ يرتكب العنف، ولكن تذكّروا... بدونه، كان يمكن الشعوب المستعمرة أن تنجح في منع الأنظمة الاستعماريّة من جعل نفسها حقيقة مادّيّة، وإدامة ذلك. بعد 500 سنة من الإمبرياليّة، بعد 73 سنة من استعمار فلسطين، لا يمكن أحدًا أن يستخفّ بدور نظام الأغراض (أغراض محدّدة كملكيّات خاصّة من أجل منفعة «العموم») في جريمة الإمبرياليّة.

لقد ذكرنا من قبل الوثائق والأرشيفات، دعونا نتابع نحو الصور والأرشيفات الصوريّة. هؤلاء الفلسطينيّون ليسوا لاجئين، إنّهم يتعرّضون للطرد من بيوتهم. إنّ المصوّر مدرّب على التقاط التاريخ؛ بالتالي، بالنسبة إليه، هؤلاء الفلسطينيّون لاجئون بالفعل. إنّ الأصول الإمبرياليّة للتصوير تُغْري المصوّرين ليلتقطوا «ما هو كائن الآن» في ظلّ عظمته التاريخيّة. تقود الافتراضات المصوّرين إلى الإيمان بأنّه من غير الممكن لأيّ شيء أن يوقف التاريخ، بما في ذلك معارضة أولئك الّذين يستهدفهم. لقد وُضِعَ العنف، المتطلّب من أجل تحويل السرقة والاستيلاء إلى «تاريخ»، خارج نطاق اختصاص المصوّرين. وإلّا فلماذا، منذ عام 1948، «وثّق» المصوّرون فلسطين، وعنونوا الصورة بـ «إسرائيل»؟ لقد أدّى التاريخ، بوصفه أيديولوجيا وفعلًا وتخصّصًا، دورًا رئيسيًّا في الجريمة العالميّة المنظّمة لتدمير مكان واستبدال مستعمرة مصطنعة به.

 

 

تحت نظام الأغراض الإمبرياليّ، كلّ غرض في مستعمرة المستوطنين له تاريخ، تاريخ عمره من عمر تاريخ المستعمرة. تواريخ تؤكّد، على سبيل المثال، أنّ ثمّة شيئًا اسمه «فنّ إسرائيليّ»، غرض يوجد مستقلًّا عن دوره في سرقة فلسطين. عام 1964، بعد النكبة بـ 16 عامًا، عندما كان الفلسطينيّون المطرودون في مخيّمات اللجوء، وكانت عودتهم ممنوعة، نظّم «متحف الفنّ الحديث» "أوّل معرض مهمّ للفنّ الإسرائيليّ الحديث" في الولايات المتّحدة.

بمساعدة أغراض الفنّ المستقلّة، طبّع هذا «المعرض المهمّ» الجريمة، وأعطى للجمهور رواية مهضومة عن تاريخ «الفنّ الإسرائيليّ»، حقيقة راسخة. إضافة إلى تجريد الأسلوب «الإسرائيليّ» الفريد، فقد وافق «متحف الفنّ الحديث» كذلك على استلاب الطبيعة الفلسطينيّة. كما بإمكانكم أن تقرؤوا في البيان، فإنّ القيّم يحيل هذه الثيمات الفنّيّة إلى المحن الحديثة الّتي مرّ بها الشعب اليهوديّ، وإلى الاحتفال بالطبيعة الإسرائيليّة.

 

 

في الوقت ذاته، حوّل «متحف الفنّ الحديث» «الشعب اليهوديّ» إلى شيء ملموس وواقعيّ، على حساب التنوّع اليهوديّ الّذي يظهر في تنوّع تواريخ اليهود وتجاربهم، متفوّقًا بذلك على جرائم الصهاينة بحقّ اليهود في العالمين العربيّ والإسلاميّ. لكن على هذا أن ينتظر إلى يوم آخر... دعونا ننهي كلّ هذا بكلام سلمان أبو ستّة (أبو ستّة، 2021) حول التبعات المستمرّة لمحو فلسطين، والموافقة على سرقة إسرائيل لها، وهنا أقتبس:

"أن يُقْصَف مليونا إنسان في 360 كيلومترًا مربّعًا من الجوّ والأرض والبحر، إبادة جماعيّة. لن تُنْسى، ويجب ألّا تُنْسى. لا بدّ من أن يكون هناك حساب. بصفتكم خبراء، قد تعرفون لماذا حُشِرَ مليونا شخص في معسكر اعتقال كبير في قطاع غزّة. لكن قد لا تعرفون السبب إذا كان قد أُخْفِيَ عنكم. هؤلاء الملايين في غزّة هم ضحايا التطهير العرقيّ الأصليّ، الّذي تعرّض له سكّان 247 قرية كانوا يعيشون في النصف (50%) الجنوبيّ من فلسطين عام 1948. لقد هوجِموا وهُجِّروا ودُفِعوا باتّجاه قطاع غزّة، الاسم الّذي اخْتُرِعَ للـ 1.3% المتبقّية من فلسطين. لم يكن ذلك ممكنًا دون عشرات المذابح، بعد احتلال تلك القرى، في برير، بيت دراس، وسمسم، على سبيل المثال، لم تتوقّف المذبحة منذ ذلك الحين.

لسبعين سنة، هوجم الفلسطينيّون في مخيّمات اللجوء. استشهد العديد منهم في أوقات مختلفة في عام 1953، 1956، 1967، 1971، دون أن ننسى ما حدث منذ عام 2006 حتّى اليوم. لماذا؟ لأنّ المذبحة الّتي تعرّضوا لها عام 1948 لم تكتمل. لقد مات الكبار بالفعل، لكنّ الصغار لم ينسوا أنّ لهم وطنًا، وما زالوا يطالبون بحقّهم في العودة إليه. إنّ مجرّد نجاتهم لعنة على إسرائيل؛ لذلك لا بدّ للمذبحة من أن تكتمل. هذا ما فعلته إسرائيل، وما زالت تفعله".

ولكن هذه اللحظة هي أيضًا لحظة انقلاب ممكن. فلسطين هناك، حيث كانت دائمًا.

الحرّيّة لفلسطين.

 


إحالات

- أبو ستّة، سلمان (2021): رسالة إلى مَنْ يُسَمَّوْن خبراء في الشرق الأوسط. لجنة بطرسبرغ فلسطين للتضامن. 17 أيّار (مايو).

- سايتز، ويليام سي. (1964) إسرائيل الفنّ: 26 رسّامًا ونحّاتًا. نيويورك. متحف الفنّ الحديث.

- طرطور، لانا (2021): هذه ليست حربًا أهليّة، إنّها وحشيّة استعماريّة استيطانيّة. موندويس. 13 أيّار (مايو).

- هذا نصّ مداخلة د. أرييلا عايشة أزولاي ضمن فعاليّة 10 أسابيع ضدّ متحف الفنّ الحديث (2021).

 


الكاتبة آرييلا عايشة أزولاي، أستاذة في الأدب المقارن والثقافة الحديثة والإعلام في "جامعة براون" في الولايات المتّحدة. مولودة في تل أبيب عام 1962، وهي من أصل جزائريّ.

 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا.