إنكار النكبة في إسرائيل عميق وطويل | ترجمة

الطنطورة قبل عام 1948 | مكتبة الكونجرس

 

العنوان الأصليّ: Nakba denial in Israel is long and deep, new documentary shows

المصدر: Mondoweiss.

 

35 في 4 أمتار، هذه هي أبعاد القبر الجماعيّ الّذي يضمّ رفات أكثر من 200 فلسطينيّ من قرية الطنطورة، حيث دُفِنوا بعد المذبحة الّتي قام بها لواء «أليكساندروني» التابع لميليشيا «الهاغاناة» الصهيونيّة اليهوديّة في أيّار (مايو)، في اليوم الأوّل لتأسيس إسرائيل.

هذه الأبعاد موثّقة الآن في فيلم وثائقيّ جديد عنوانه «الطنطورة» لمخرجه ألون شوارتز، الّذي يُعْرَض في مهرجان «سندانس» في ولاية يوتا الأميركيّة. أضحى موقع حدوث المجزرة اليوم شاطئًا محبوبًا في إسرائيل.

يثير عرض هذا الفيلم الضجّة مرّة أخرى في إسرائيل. حاول العسكريّون المتقاعدون من لواء «أليكساندروني» إسكات الحقيقة عام 2000، بعد أن قدّموا شهاداتهم للمؤرّخ ثيودور (تيدي) كاتز، من أجل رسالة الماجستير الّتي كانت المجزرة موضوعها الأساسيّ عام 1998. شهاداتهم - إضافة إلى شهادات الناجين الفلسطينيّين - كان يمكن أن تبقى مجهولة ومخفيّة في مكتبة «جامعة حيفا» لولا أنّ صحيفة «معاريف» الإسرائيليّة ألقت الضوء على المجزرة عام 2000. رفع المحاربون القدامى دعوى تشهير ضدّ كاتز (مليون شيكل إسرائيليّ، أو 321 ألف دولار أميركيّ بالقيمة الحاليّة)، وفي لحظة ضعف، ودون محاميه، وتحت ضغط ماليّ وعائليّ، ووضع صحّيّ متردٍّ (كان قد أُصيب بجلطة)، وقّع كاتز رسالة جاهزة تراجع فيها عن رسالته من أجل الخروج من ورطته. بعد ساعات قليلة ندم على ما قام به، لكنّ الأوان كان قد فات. أعلنت القاضية، الّتي لم تطّلع على الشهادات الّتي جمعها كاتز، أنّ القضيّة انتهت.

في صحيفة «هآرتس» تقرير حول الفيلم الوثائقيّ، أعدّه آدم راز، بعنوان «ثمّة قبر جماعيّ فلسطينيّ تحت شاطئ استجمام إسرائيليّ محبوب، اعترف محاربون قدامى». في التقرير، يشير راز إلى حقيقة أنّ القاضية استمعت لبعض الشهادات الّتي جمعها كاتز لأوّل مرّة أثناء إعداد الوثائقيّ، وقالت:

"إذا كانت هذه هي الحقيقة فالأمر محزن… ما دام لديه أشياء مثل هذه، كان عليه أن يمضي بها حتّى النهاية".

لا مكان هنا لعبارة "إذا كانت هذه هي الحقيقة". لقد كان لدى كاتز بالفعل "أشياء مثل هذه"، 60 ساعة منها. ألم يكن مهمًّا للقاضية أن تلقي نظرة على هذه الشهادات قبل أن تقفل القضيّة؟

حتّى شهود كاتز اليهود كانوا واضحين؛ يوسف جراف، دليل من زِخْرون يَعْكوف القريبة، رافق قوّات «أليكساندروني»، قال: "إنّني أقول لك، هؤلاء الناس ارتبكوا مجزرة". مردوخاي سوكلر، دليل آخر من زِخْرون يَعْكوف، قال: "بعد ثمانية أيّام عدت إلى المكان الّذي دفنوهم فيه، بالقرب من سكّة القطار. كان ثمّة تلّة كبيرة في الأرض بسبب انتفاخ الجثث". أخبر سوكلر كاتز بأنّه عدّ 230 جثّة.

عندما نجح محاربو «أليكساندروني» في إجبار كاتز على التراجع عام 2000، كانوا شديدي الابتهاج. على موقعهم الرسميّ كتبوا بالعبريّة:

"قصّة الطنطورة - نهاية فرية الدم

في كانون الثاني (يناير) عام 2000، نُشِرَ تحقيق صحافيّ في صحيفة ’معاريف‘، بدأه شخص يُدْعى تيدي كاتز يدّعي أنّه مؤرّخ، حول مجزرة من المفترض أنّ مقاتلين من الشعبة 33 (أليكساندروني)، ارتكبوها بحقّ مدنيّين عزّل بعد معركة الطنطورة. خاض المقاتلون في اللواء معركة عامّة وقانونيّة من أجل أن يطهّروا أسماءهم ويمسحوا الوصمة الظالمة الّتي ألحقها بهم هذا ’المؤرّخ‘. في التالي تفاصيل هذه المعركة الّتي انتهت بإظهار الحقيقة إلى العلن".

ما كان هو عكس ذلك تمامًا، حاول المحاربون القدامى أن يدفنوا الحقيقة مرّة أخرى. لقد كانت درجة الإنكار لدى محاربي «أليكساندروني» مثيرة للفضيحة؛ ذهبوا إلى حدّ أنّ شاهدًا رئيسيًّا، هو محارب سابق في جيش الدفاع، الجنرال شلومو أمبار، وقّع على إفادة قانونيّة قال فيها إنّه ورفاقه لا يتذكّرون شيئًا ممّا سبق أن قالوه لكاتز.

كانت شهادة أمبار تحديدًا شهادة ثقيلة. أقام أمبار مقارنة بين أفعاله ورفاقه وبين أفعال النازيّين، وخلص إلى أنّ سياسة النازيّين تجاه أسرى الحرب كانت أفضل من سياستهم:

"لا أربط [بين ما حدث في الطنطورة] إلّا مع هذا: لقد حاربت الألمان الّذين كانوا أشدّ أعدائنا. لكن، عندما حاربنا أطعنا قوانين الحرب الّتي فرضتها الأعراف الدوليّة. هم [الألمان] لم يقتلوا أسرى الحرب. قتلوا السلافيّين، لكن ليس أسرى الحرب البريطانيّين، ولا حتّى أسرى الحرب اليهود. كلّ أسرى الحرب الّذين أخذهم الألمان نجوا".

والآن، في الفيلم الوثائقيّ الجديد، يظهر أمبار مرّة أخرى، لكنّه هذه المرّة ينكر بشكل يثير الدهشة (كما نقل راز في هآرتس):

"ما الّذي تريده؟" سأل شلومو أمبار، الّذي ارتقى إلى مرتبة قائد لواء «الدفاع المدنيّ» ورئيسه، الّذي أصبح اليوم «قيادة الجبهة الداخليّة». "تريد منّي أن أكون رقيقًا وأن أقول الشعر؟ لقد ابتعدت عن طريقهم. هذه كلّ الحكاية، يكفي". أمبار، متحدّثًا في الفيلم الوثائقيّ، أوضح بشكل صريح أنّ الأحداث في الطنطورة لم تعجبه، "لكن، بما أنّني لم أقل شيئًا يومذاك، فلا سبب لديّ لأقول شيئًا اليوم".

ثمّة شهادات أكثر صراحة في الوثائقيّ

"من غير اللطيف أن نقول ذلك، وضعناهم في برميل، وأطلقنا النار على البرميل، بإمكاني أن أتذكّر الدم في البرميل". لخّص أحد الجنود الأمر بالقول إنّ رفاقه في السلاح ببساطة لم يتصرّفوا مثل بشر في الطنطورة، ثمّ صمت.

شهادة أخرى:

"جنديّ آخر في اللواء، ميشا فكتون، تحدّث عن ضابط "أصبح في سنوات لاحقة مسؤولًا كبيرًا في ’وزارة الدفاع‘. بمسدّسه قتل عربيًّا بعد الآخر. لقد كان مختلًّا بعض الشيء، وكانت أفعاله من أعراض اختلاله".

واحدة من أكثر الشهادات قتامة في الفيلم، كانت شهادة أميتزور كوهن، الّذي تحدّث عن شهوره الأولى جنديًّا في الحرب: "كنت قاتلًا، لم آخذ أسرى". يؤكّد كوهن أنّه إذا ما استلمت مجموعة من الجنود العرب ورفعوا أيديهم، أطلق النار عليهم جميعًا. كم من العرب قتل خارج وقت القتال؟ "لم أكن أعدّ. كان لديّ سلاح رشّاش فيه 250 رصاصة؛ لا أستطيع أن أقول كم قتلت".

في المحصّلة، ليس في هذه الشهادات المروّعة جديد. لدينا عشرات الشهادات من فلسطينيّين بعد المجزرة بقليل. مثل هذه الشهادة الّتي سمعها تيدي كاتز من صالح عبد الرحمن من الطنطورة:

"وافق [شمعون ماشفتز] [على وقف القتال] بعد أن قتل [وحده] خمسًا وثمانين شخصًا. قتلهم [بمسدّس ستن]. وقفوا أمام الحائط، وجههم إلى الحائط، أتى إليهم من الخلف وأطلق النار على رؤوسهم… كلّ مجموعة من عشرين أو ثلاثين شخصًا. مرّتين أو ثلاثًا بدّل مشط رصاصه.

علي عبد الرحمن (أبو فهمي) أخبر كاتز:

"الرجل الّذي كان معي كان يتقن العبريّة، سمعهم يقولون: بعد أن ينتهوا من حفر القبر الجماعيّ، دعهم يحفرون قبرًا ثانيًا، ثمّ اقتلهم وضعهم داخله… قال بيانهم العسكريّ إنّهم قتلوا 250. كان ذلك إعلانًا حربيًّا بثّوه عبر الراديو".

ليس من المهمّ أن نعرف كلّ كلمة وتفصيل، لكنّ هذا بالضبط ما أراده محاربو «أليكساندروني» في سعيهم إلى اصطياد كاتز. وجدوا ستّة أمثلة لم يكن النصّ فيها دقيقًا بما يكفي، مثل أنّه كتب ’النازيّين‘ بدلًا من أن يكتب ’الألمان‘ (عند كتابته شهادة أمبار) ووافقت القاضية على هذه النسبة البسيطة من الخطأ المزعوم دون أن تطعن به.

بعد انتهاء المحاكمة، وبعد بيان لواء «أليكساندروني» السخيف الّذي أعلن انتصارهم على ’فرية الدم‘، انضمّت «جامعة حيفا» إلى الصيد. على الرغم من أنّ كاتز حصل على أعلى درجة يمكن تخيّلها (97)، فقد ادّعت الجامعة أنّ ثمّة أخطاء في رسالته، وأنّ عليه أن يصحّحها. صحّحها كاتز، وأضاف إليها شهادات أخرى. اثنان من الممتحنين أضيفا إلى لجنة النقاش، د. أبراهام سيلا (من «الجامعة العبريّة»)، ود. أرنون جولان (من «جامعة حيفا»)، أعطيا كاتز درجتَي 50 و40. على الرغم من أنّه حصل على 85 و83 و74 من الممتحنين الثلاثة الباقين، ما يعطيه بالإجمال علامة ناجح، انتزعت «جامعة حيفا» شهادة الماجستير من كاتز. سيلا وجولان من أهمّ مشوّهي النكبة الإسرائيليّين، حتّى المؤرّخ الإسرائيليّ بني موريس أعرب عن قلقه من تشويههم للنكبة، وتقليلهم من أحداث طرد الفلسطينيّين من اللدّ والرملة.

هذا كلّه جزء من عار الإنكار الإسرائيليّ للنكبة. كتب البروفيسور إيلان بابيه، الّذي كان أحد أقوى مؤيّدي كاتز، على فيسبوك:

"عام 2007، وبناء على إصرار ’وزارة التعليم الإسرائيليّة‘، أجبرت على تقديم استقالتي من ’جامعة حيفا‘ (على الرغم من حقيقة أنّي كنت من الأساتذة المثبّتين). إحدى ’جرائمي‘ كانت إصراري على أنّ مجزرة وقعت في الطنطورة عام 1948، كشفها طالب الماجستير تيدي كاتز. أجريت بحثي الخاصّ، وأعلنت بشكل قاطع أنّها كانت واحدة من أسوأ الجرائم الّتي ارتكبها الجيش الإسرائيليّ عام 1948، حتّى بعد أن سحب كاتز نتائج بحثه بسبب الضغط والتهديد.

لا أشعر بالندم، ولا حتّى للحظة واحدة، بل إنّني أشعر بالامتنان لأنّي استطعت أن أستمرّ في نضالي ضدّ إنكار النكبة في ’جامعة إكستر‘ على مدى 15 عامًا، وما زلت آمل أن أؤسّس مركزًا للنضال ضدّ إنكار النكبة في لندن".

بُنِيَ «كيبوتس ناحشوليم» فوق أطلال الطنطورة بعد ثلاثة أسابيع قصيرة من تهجير أهلها عرقيًّا، وحُوِّلَ القبر الجماعيّ إلى موقف سيّارات. اليوم، تُسَمّى الطنطورة «ناحشوليم» أو «شاطئ دور».

إذا ما نظرت إلى الكتيّبات السياحيّة، تبدو منطقة «شاطئ دور» مثل جنّة، شمس، ومياه زرقاء، لكن، أسفل هذه الجنّة جحيم حقيقيّ.

إنّنا نعرف الآن موقع القبر الجماعيّ بشكل دقيق (من خلال المقارنة بصور جوّيّة تُظْهِر المكان قبل المذبحة وبعدها، عُرِضَت ضمن الفيلم الوثائقيّ). إنّنا نعرف طول القبر وعرضه: 35 مترًا في 4 أمتار. أمّا عمقه فلا نعرفه بالضبط. وماذا عن الإنكار الإسرائيليّ للنكبة؟ إنّه شديد العمق. ثمّة حتّى الآن ملايين الصفحات من التقارير الإسرائيليّة عن أحداث النكبة عام 1948، لا تزال سرّيّة ومحجوبة عن الجمهور. إنّني أفكّر، إذا ما كان الناجون الفلسطينيّون وأبناؤهم وأحفادهم يجدون أنّه من المقبول والملائم أن تُخْرَج الرفات من القبر الجماعيّ؛ علّنا نجد في ذلك خاتمة ما.

ذلك لن يزيل الإنكار الإسرائيليّ للنكبة، فهو، على ما يبدو، مدفون تحت طبقات أكثر عمقًا بكثير من رمال شاطئ الطنطورة.

 


 

جوناثان أوفير موسيقيّ وكاتب إسرائيليّ الجنسيّة، يعيش في الدنمارك.

 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا.