تهاوي الإسلام السياسيّ: من المَودودي إلى إردوغان

علماء في بيت الحكمة من العصر العباسيّ | الحريري

 

أصدر الكاتب والسياسيّ والأكاديميّ السوريّ هيثم منّاع، كتابًا جديدًا بعنوان «تهاوي الإسلام السياسيّ: من المودوديّ إلى إردوغان»، عن دار «هاشيت أنطوان/ نوفل»، حيث يرصد فيه تطوّر الإسلام السياسيّ منذ سقوط الخلافة الإسلاميّة.

يبحث الكتاب في أيدولوجيّة المؤسّسة، وطروحات منظّرين من أبو الأعلى المودوديّ وحسن البنّا وسيّد قطب حتّى إردوغان اليوم، ويستعرض فيه الممارسات والتوجّهات التي ابتعدت عن تعاليم الفقه، وانغمست في إرساء أيدولوجيّات شموليّة، كما يبحث من خلال هذا الكتاب، أسباب فشل معظم هذه الأيدولوجيّات بمجرّد احتكاكها بالواقع ومحاولة تطبيقها.

 

وجاء في نبذة الكتاب المنشور

بعد سقوط الخلافة العثمانيّة وقيام الجمهورية التركيّة، ومنذ العام 1928، دخل مصطلحا «الحركات الإسلامية السياسية» و«الإسلام السياسي» قاموس الحياة السياسيّة من لاهور إلى القاهرة. خلال عقدين، أصبح في الإمكان الحديث عن «أيديولوجية سياسيّة» أكثر من كونها مشروعًا دينيَّا. بهذا المعنى، يحاول المؤلّف تتبّع ورصد عملية بناء «الأيديولوجية الشمولية» التي بدأها الرواد أبو الأعلى المودودي وحسن البنا وسيّد قطب، واستمرّت حتى يومنا هذا. خصوصًا أنّ هذه الحركات تحوّلت، بعد هزيمة حرب 1967 ووصول الإمام الخمينيّ إلى السلطة في طهران، من أداء دور «المظلومية» و«الضحية»، إلى مشاريع بناء استراتيجيات سلطة في بيئة سادها التصحّر الثقافيّ وأيديولوجيّات الطوارئ و«التديّن العامّ».

كانت صدمة الانتقال إلى صناعة القرار في أكثر من بلد أقوى من كل الكتب النقدية التي تناولت الإسلام السياسيّ، ولعلّ مطحنة الواقع تشكّل السبب الأوّل لتهاوي الحركة الإسلاميّة السياسيّة اليوم، فماذا بعد سقوط «الأيديولوجية الشمولية الإسلاموية»؟

تنشر فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، فصلًا من الكتاب، بالتعاون مع دار «هاشيت أنطوان/ نوفل».

 

الأيديولوجيّة الإسلاميّة والحقوق الإنسانية

قال الحسن البصريّ في الخوارج: هم أصحاب دنيا. فأجابه خارجيّ: ومِن أين قلت، وأحدهم يمشي في الرمح حتى ينكسر فيه ويخرج من أهله وولده؟ قال الحسن: حدِّثني عن السلطان. أيمنعك من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحجّ والعمرة؟ قال: لا، قال: فأراه منعك من الدنيا فقاتلته عليها.

 

أصل الداء

أبرز أبو الحسن الندويّ في كتابه «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» حقيقة الانحدار الحضاريّ-المدنيّ والتأخّر العلميّ والثقافيّ للعالم الإسلاميّ، ولكنّه لم يمتلك الجرأة على طرح الأسباب الجوهريّة لأفول الحضارة العربيّة و/أو الإسلاميّة. فإطلاق تعريف الحضارة ليس اعتزازًا شوفينيًّا أو مراضاة شعبويّة، لقد عاشت بغداد بالفعل تلك الحقبة الذهبية التي سبقت أوروبا في وضع أهمّ مقوّمات التنوير على بساط البحث: التناقض بين المعجزة والواقع والمواجهة بين النبوّة والعقل، إنسانيّة الـ«نحن»، ملفّ التعارض بين النقل والعقل (الاتّباع والتجديد، الاستمراريّة والانقطاع...) والصراع بين المعرفة الحكمية والمعرفة الدينيّة، إشكاليّات التعارض بين مفهوم العدالة الإلهيّة ومظالم الخلافة الإسلاميّة، إعادة اكتشاف العلوم التطبيقيّة والفلسفة الإغريقيّة والتراث الآسيويّ، التعدّدية المعرفيّة والمنهجيّة بوصفها اغتناءً طبيعيًّا لا عنصر ضعف وانطلاقة فكرة الإنسان الكامل، السلف المباشر لنهاية الإنسان القاصر كشرط للتنوير... 

غلاف الكتاب

إلّا أنّ هذا الصراع النظريّ والفكريّ والسياسيّ الاجتماعيّ حورب من الخلافة الرسمية بالسيف بدعم من الأئمّة الذين اعتمدوا سياسة تكفير الآخر والتقوقع والانغلاق على النفس خوفًا من أيّ حوار ممكن لتتبلور جملة أركان فتاوى الاستبداد بتعبيره الشموليّ: قياس التقوى بالطاعة العمياء، حصر العلم بالتمسّك بالسلف الصالح (الدين منقول وليس بمعقول)، اختزال الإيمان في غياب حرّية إرادة الفرد والجماعة: «الخلق كلّه لله يميت ويحيي ويفقر ويغني ويصحّ ويسقم ويبتدي بالنعم من يشاء» (ابن قتيبة)، الفتوى بطاعة الخليفة وطائفيّة السلطة (طائفة الخليفة هي طائفة الأئمّة والمجتمع). 

وهكذا، لم ينتظر المشرق العربيّ و/أو الإسلاميّ اجتياح المغول وسقوط بغداد (656هـ/1258م) ليدخل عهود السواد. وإن كانت الخلافة قد تسابقت مع الدين في تفسّخها، فقد مثّل القرن الخامس الهجريّ/الحادي عشر الميلاديّ بحقّ مرحلة «الهيمنة العقيدية» التي طبعت الدين الإسلاميّ بل حوّلته إلى جثّة مشرحة في مخابر الأئمّة لا تنبض بأيّ روح، عبر محاصرته في البيت الأيديولوجيّ بأسوأ ما للكلمة من معنى: «نظام مغلق من «الحقائق» المطلقة الأبديّة: ربوبيّة مطلقة، عبوديّة مطلقة، طاعة غير مشروطة، طوفان الفتاوى والشعائر، مصادرة فكرة الإنسان العاقل المستقلّ البالغ لمواصفات الخليفة وحده...». 

جعبة ميراث العلوم الدينيّة كلّها تخرج عن سيرورة إنتاجها الفعلية لتدخل مع القرآن في هالة اللاهوت والقدسيّة عبر التكرار والاجترار المقيت للآباء الأوائل: ما فعلوا وقالوا وما سمحت به عقليّة الحقبة من إضافات ضروريّة لما فعلوا وقالوا ضمن منطق سيعيش طويلًا (الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت – سيّد قطب). لم يعد للطاقم الإسلاميّ (فقهاء ورجال دين وعلماء ومشايخ) إلّا رصد حركة التأويل والتفسير والفقه والرواية والقياس والإفتاء في القرون الأربعة الأولى للإسلام ضمن مهمّة واعية ومنظّمة وضع قاعدتها الإمام الشافعي في «التكافؤ في تقديس المراجع»، باعتبارها الوسيلة الوحيدة لوضع حدٍّ لتطاول الفلسفة والعقل والإلحاد والزندقة والمجون والعامّة على الدين الحنيف، مع تأكيد إعلان حالة طوارئ دائمة باعتبار سدّ الذرائع شرطًا وقائيًّا لإغلاق أبواب الفتن. 

سيتكفّل الماوردي (توفّيَ عام 450هـ/1056م) بترتيب دستور الخلافة ومنح بركات الشرعيّة التاريخيّة والدينيّة للخليفة. عبد القاهر البغدادي (مات 429هـ/1037م) سيبيّن «الفرق بين الفرق» لتحديد مواصفات الفرق الكافرة والفرقة الناجية. ابن الجوزي (مات 597هـ/1200م) سيغسل الأرثوذكسيّة وينقّحها من شوائب الشيطان في كتابه «تلبيس إبليس»، بعد أن لخّص الغزالي (مات 505هـ/1111م) الإسلام بمقولته: «الدين شطران، أحدهما ترك المناهي والآخر فعل الطاعات» (بداية الهداية)، ونظّم السنن في موت-إحياء علوم الدين ليُعمَّد حجّة للإسلام السنّي. 

الغيبتان، الصغرى والكبرى، سجّلتا انتقال الإمام إلى السماء وسلطته إلى الإكليروس الاثني عشريّ. جفاف الرؤوس بعد اثني عشر إمامًا لا تقلّ قداستهم عن الأنبياء، ستنكفئ في أسطورة الجثّة السلفيّة الشيعيّة إلى الكمال الأرضيّ في العلم تحقيقًا للكمال في السماء: «الكافي في الحديث»، «من لا يحضره الفقيه»، «إكمال الدين وإتمام النعمة في إثبات الرجعة»... إلخ ستؤرّخ، بحسب تعبير علي حسين الجابري، لـ«نقاء العقيدة وصفائها»، أي غسلها من شوائب الشيطان والنظر والجدل والبدع والغلوّ والجابريات...

«يا عليّ! لولا نحن ما خلق الله آدم ولا حوّاء ولا الجنّة ولا النار ولا السماء ولا الأرض» (ابن بابويه، كمال الدين، ص 248). 

لقد اكتملت عملية تركيب الأسطورة الشموليّة في الكتب والشعائر. أمّا في الحياة اليومية، فمهما كان مبالغًا في القول بوجود «مائتي ألف محدّث» في قُم، فعُشرهم بأضعف الإيمان، معتاش من إمامة العدل، يأكل ويشرب وينكح من الخُمس، فيما سيعطي إلى جانب جهاز الخليفة، جهاز سلطان الأئمّة. 

رُفعت الأقلام وجفّت الصحف، ما كان في وسع البشر قوله قيل، ومجرّد طرح السؤال عمّا إذا كان المسلمون أم الفلسفة ما تهافت، بعد تدوين الغزالي (تهافت الفلاسفة)، سيكلّف ابن رشد إحراق كتبه على الملأ. 

الصورة التي طمح لها الخليفة المنصور، «لا يصلح السلطان إلّا بالتقوى ولا تصلح رعيّته إلّا بالطاعة»، تتحقّق في كاريكاتور الدويلات والسلاطين المحكومين من قادة جيوشهم، وسيُشبع الأئمّة مجلّدات الحديث بعبارات للنبي والخلفاء والصحابة من قبيل: «الملوك ملهمون»، «السلطان ظلّ الله في الأرض»، «الظالم سيف الله ينتقم به ثمّ ينتقم منه»، «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم حبشيّ كأنّ رأسه زبيبة»، «من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجّة له»، «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات ميتة جاهلة»... 

وليس من الغريب في هذا السياق الإصرار الحنبليّ من ابن الجوزيّ إلى ابن تيميّة على أنّ الحديث النبويّ «أوّل ما خلق الله العقل» موضوع بإجماع الأئمّة. 

أصبح الانغلاق سمة العصر: انغلاق الفرق على نفسها بل تكلّسها كجماعات عضوية، وتعصّب القبائل لمكوّناتها في السرّاء والضرّاء، اندثار الدويلات في جحر سلاطينها والحاضر في أسطرة ماضيه. وفسّر الفقهاء الانحسار والانحدار الاقتصاديّ والتردّي الاجتماعيّ والتراجع الثقافيّ والأمّية المعمّمة باعتبارها أمورًا من خصيصة الإسلام وخاصيّته: خروج المرأة من بيتها مجون، والنقاش في الدين والفلسفة زندقة، الحديث عن الاستبداد فتنة، واعتماد العقل اعتزال، مناقشة الإمامة باطنية وشكوى الفقر قرمطة.

ليس لنا أن نصف البؤس بكلمات لا تملك أن تعبّر عن مداه، كلّ يوم يحمل لأصحابه مصائب جديدة... لقد هرم الناس بل دفنوا أنفسهم أحياء.

الإسلام الذي انتشر قرونًا، لم يكن إسلام الخمسين عامًا الأولى، ولا حمل التعبير عن غنى النهضة العربية الإسلاميّة وخصبها في الحقبة العبّاسيّة المزدهرة، وإن كان، بالمعنى التاريخيّ، نتاج قرابة مئة وخمسين عامًا عاش فيها عَمَدَة التكوين البنيويّ للحديث والفقه. ولتسهيل مهمّة البناء الأيديولوجيّ لما سيُعرف بالسنن، ظهر قرابة خمسين حديثًا نبويًّا لإدانة كلّ من سيتهمّ بالخروج عن المنظومة الأيديولوجية طور التكوين: «كلّ بدعة ضلال»، «ما أحدث قوم بدعة إلّا رفع مثلها من السنّة»، «إنّ الله حجب التوبة عن كلّ صاحب بدعة حتى يدع بدعته»، لا يقبل الله لصاحب بدعة صومًا ولا صلاة ولا حجًّا ولا عمرة ولا جهادًا ولا صرفًا ولا عدلًا يخرج من الإسلام كما يخرج الشعر من العجين» (ينظر البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه وأحمد والبزّاز).

ولكن ما هي السُنن؟ كيف يمكن «سدّ باب الفتنة»؟ وكيف يمكن إحكام التوتاليتاريّة العقيديّة لمواجهة الزندقة والمجون والإلحاد والترجمة والفلسفة؟ هنا، سيبدأ العمل الأيديولوجيّ الشموليّ الواسع لاستحواذ الحياة الدنيا، إلغاء مجال حركة الإنسان، تكبيل وجوده المدنيّ، وتأطير قدرته على الاستقلاليّة الفكرية. وبتأصيل الاتّباع في الممارسة، أُجرِيَت عملية قتل الزمن الحرّ أو أيّ فكرة حرّة للإبداع.

 

 

هيثم منّاع

 

 

كاتب ومفكّر وناشط سوري، درس الطبّ والأنثروبولوجيا والقانون الدولي في سوريا وفرنسا، وهو أحد مؤسّسي اللجنة العربيّة لحقوق الإنسان. كتب في الحقوق الإنسانيّة والديمقراطيّة وحقوق المرأة والإسلام وقضايا التنوير. صدر له أكثر من خمسين كتابًا بالعربية والإنجليزيّة والفرنسية، من أبرزها موسوعة «الإمعان في حقوق الإنسان»، «مستقبل حقوق الإنسان»، «الإسلام وحقوق المرأة» و«تحدّيات التنوير». يرأس المعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان/ مؤسّسة هيثم منّاع في جنيف.