التراث والحداثة لدى الجابري وأركون

شتاء ريتا - الفنّان عبد الله عكر

يعدّ التّراث والحداثة من أهمّ المفاهيم الّتي انشغل بها الفكر العربيّ الحديث والمعاصر، منذ أواخر القرن التّاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وما يزال النّقاش حول التّراث مستمرًّا إلى يومنا هذا.[1] اختلفت النّظريّات والآراء لدى المفكّرين والباحثين حول طريقة معالجتهم وفهمهم لهذه القضيّة، إلّا أنّ هناك ثلاث نظريّات عامّة حول التّراث، منها النّظرة التّقديسيّة للتّراث، والّتي سُمّيت بالاتّجاه السّلفيّ، وهي تقوم على إحياء الماضي وبعثه من جديد؛ أمّا النّظرة الثّانية فهي ذات طابع تغريبيّ ليبراليّ، ترفض الرّجوع إلى التّراث؛ بينما كانت هناك نظرة ثالثة توافقيّة، تقوم على الجمع بين إيجابيّات العودة إلى الماضي وإيجابيّات الانفتاح على الغرب.[2]

أطرح في هذه المقالة مقاربة مختصرة لمفهوم التّراث والحداثة لدى كلّ من المفكّرين العربيّين، محمّد عابد الجابري ومحّمد أركون، من ناحية فهمهما لكلّ من المنهج والأداة لمفهوم التّراث وعلاقته بالحداثة، والعكس، كما أقف على النّقد الّذي وُجِّه لطرحيهما.

ما التّراث؟

اختلفت آراء المفكّرين والباحثين في طريقة معالجتهم وفهمهم لقضيّة التّراث والحداثة، وهذا يعود إلى العامل الأيدولوجيّ الّذي كان له الدّور المركزيّ والأساسيّ في فهم كلّ من الجابري وأركون لمنهجيّة وجدليّة التّراث والحداثة، فقد انطلق الجابري من الحداثة الغربيّة لنقد التّراث، أي أنّه كان يدعو إلى تحديث التّراث ليكون مواكبًا للنّهوض والتّطوّر والتّقدّم الغربيّ؛ أمّا فكر أركون فكان أكثر اهتمامًا بالنّظرة التّصوّفيّة، والّتي كان يرى أنّها رحلة جدارة، ليتمكّن عبرها من اكتشاف المعنى للوقت الحاضر، وبهذا كان يرفض آليّات الفكر الاستشراقيّ، فكان يرى أنّ الموقف السّائد في الغرب اتّجاه الثّقافات الأخرى يقوم على إهمال الفكر التّراثيّ العربيّ الإسلاميّ.

عدّ الجابري التّراث كلّ ما خلّفه الماضي، لكنّه بقي حيًّا في الحاضر، وفي موضع آخر عرّفه بأنّه 'كلّ ما هو حاضر فينا أو معنا من الماضي، ماضينا نحن أم ماضي غيرنا، القريب منه أو البعيد،'[3] فاشترط الجابري الحضور والتّأثير والفاعليّة في التّراث. أمّا أركون، فقد عرّف التّراث بأنّه مجموعة متراكمة ومتلاحقة من العصور والحقب الزّمنيّة، وعرّفه أيضًا بأنّه بنية تراكميّة تشكّلت عبر أجيال متلاحقة،[4] وبالتّالي فهي مزيج من المعارف المتداخلة بطريقة لا يُفْصَلُ فيها بين الإلهيّ والبشريّ، ويقوم على القراءة التّفكيكيّة للمكوّنات الدّاخليّة.

الحداثة والتّحديث

وفي منهجيّة وطريقة فهم التّراث والحداثة، اختلفت مواقف الجابري وأركون، فقد اتّخذ الجابري موقفًا عصرانيًّا في طرحه للنّموذج الحداثيّ ونظرته للتّراث والحداثة، وكان فكره نموذجًا حداثيًّا عقلانيًّا علمانيًّا، وهذا النّموذج يفرض حتميّة تاريخيّة حضاريّة للحاضر والمستقبل. يستند موقف الجابري إلى الارتقاء بمستوى التّراث والتّعامل معه نحو لحظة معاصرة ومواكبة للعصر، وقد تخلّى عن الفهم التّراثيّ للتّراث وذهب إلى أنّ طريق الحداثة نحو التّراث تقوم على الانتظام النّقديّ في الثّقافة العربيّة، أي تحريك التّغيير من الدّاخل، لنتمكّن من الوصول إلى حداثة في المنهج وحداثة في الرّؤية، ولذلك كان يرى ضرورة الممارسة العقلانيّة لقراءة التّراث، فالحداثة رسالة حضاريّة يقوم هدفها على تحديث الفكر والذّهنيّة والتّطوّر والنّهوض بالتّراث، وذلك من خلال إعادة كتابة التّاريخ التّراثيّ والثّقافيّ بروح نقديّة وعقلانيّة، تقوم على التّحرّر ونقل التّراث من الماضي وتحويله إلى شكله المعاصر، ولهذا كان فكر الجابري يفتح بشكل عقلانيّ، واستنادًا إلى فكر نهضويّ تنويريّ ضخم، المجال للتّأمّل والحوار والمجادلة بين فكر الشّرق والغرب، وثنائيّة الأنا والأخر.

أمّا أركون، فقد كان يرى أنّه يجب النّظر إلى العلاقة القائمة بين التّراث والحداثة من منظور وعي تاريخيّ، وإحلال هذا المنظور محلّ التّفسيرات اللّاهوتيّة والأسطوريّة، من خلال نقد العقل العربيّ والإسلاميّ، وذلك حتّى يكتسب الفكر العربيّ الإسلاميّ بعدًا علميًّا أكثر. لقد ميّز أركون بين مصطلح الحداثة والتّحديث، حيث كان يرى أنّ الأخير مقتصر فقط على تطبيق المناهج الغربيّة والفكر الـــغربيّ، وبطــريقة آليّة، على الواقع الفكريّ العربيّ الإسلاميّ، دون أيّ خلق أو محاولة تعديل؛ أمّا الحداثة الّتي يعــــنيها هذا المفكّر، فهي الّتي تتخطّى حـدود الزّمن وتلغي حواجزه، لأنّ الحداثة أكبر من أن تــــؤطّر بسياج التّاريخ، فـهي 'موقف للرّوح أمام مشكلة المعرفة'.[5]

التّحرّر من سلطة النّصّ

كان الجابري يرى أنّ تعامل المفكّر العربيّ مع التّراث يطرح مشكلتين متلازمتين: الأولى الموضوعيّة، أي كيفيّة فصل الذّات عن الموضوع في التّعامل مع التّراث العربيّ الإسلاميّ، والثّانية مشكلة الاستمراريّة، بمعنى أنّ التّراث ما زال مستمرًّا وممتدًّا في ثقافتنا المعاصرة،[6] وقد كانت قراءة الجابري للتّراث ثلاثيّة الأبعاد منهجيًّا، فقد استندت على ثلاث خطوات منهجيّة، وهي الطّرح البنيويّ والتّاريخيّ والأيدولوجيّ،[7] كما جاءت في كتابه 'نحن والتّراث'. أمّا رؤية أركون المنهجيّة فقد أكّدت على الخلاصة النّظريّة الّتي تقول إنّ المفكّر العربيّ الإسلاميّ لا يمكنه الانفتاح على العقلانيّة الحديثة بشكل فعليّ ودائم وناجح، إلّا بتفكيك مفهومي الدّوغمائيّة والأرثوذكسيّة الخاصّين بتراثه، وكان يرى أنّ الطّريق إلى الحداثة تكون بالتّحرّر من سلطة النّصّ الّتي تكوّنت في ظلّ ثوابت العقل الإسلاميّ ومحدّداته، كما كان يرى ضرورة تحرير العقل الإسلاميّ من الأساطير العديدة الّتي تشوبه، إذ كان يقول بفتح العقليّات المغلقة وتحريرها.[8]

يتبيّن من طرح كلّ من المفكّرين على صعيد استخدامهما للمنهج والأداة في تفسير التّراث والحداثة، أنّ الجابري اعتمد على النّقد الأبيستمولوجيّ، ولم يعط أهميّة كبيرة للظّاهرة الدّينيّة ولا للدّور الّذي أدّاه الرّمز والخيال، إنّما اشتغل وركّز على نصوص تراثيّة تدخل في صُلب ما أنتجه العقل الإسلاميّ، بينما سلّط أركون منجزات مناهج علوم الإنسان والمجتمع واللّغة على التّراث العربيّ الإسلاميّ، وقد طرق باب المقدّس والمستحيل التّفكير فيه، مستعينًا في ذلك بالألسنيّة والسّيميائيّة، وطرح الكثير من الأسئلة الشّائعة الّتي تحثّ الفكر على رفض التّقوقع. كما أنّ الجابري اهتمّ بالعقل العربيّ، بينما اهتمّ أركون بالعقل الإسلاميّ، واعتمد منهجه على الفصل بين العقل العربيّ والإسلاميّ، وكذلك بين المشرق والمغرب.

 

[1]. بلقيز، عبد الإله. العرب والحداثة في مقالات الحداثيّين. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2007.

[2]. الجابري، محمّد عابد. التّراث والحداثة: دراسات ومناقشات. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1996.

[3]. شعلان، عبد الوهّاب. 'خطاب الحداثة في الفكر العربي المعاصر'. جريدة المستقبل العربيّ 14، 2004.

 [4]. نصر الله، حسين. التّراث والحداثة بين الجابري وأركون، صحيفة هسبريس، 20 فبراير 2009: انظر الرّابط  http://www.hespress.com/art-et-culture/11217.html

[5]. مسرحي، فارح. الحداثة في فكر محمّد أركون - مقاربة أوّليّة، الجزائر: الدّار العربيّة للعلوم، 2006.

[6] . الجابري، محمّد عابد. التّراث والحداثة...

[7]. ن.م.

[8]. مسرحي، فارح. الحداثة...

 

ختام عجارمة: طالبة ماجستير في كلّيّة العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة بمعهد الدّوحة للدّراسات العليا.