نظريّة السلطة عند ابن خلدون

تمثال ابن خلدون في شارع الحبيبة بورقيبة - العاصمة التونسيّة

اهتمّ ابن خلدون[1] في إطار عمله التاريخيّ، "المقدّمة"، في مسألة السلطة وطُرُقِ نظام الحكم، والذي من شأنه أن يؤسّس للعمران البشريّ؛ وقد تناول السلطة في إطار النظريّات والطروحات الفكريّة الكبرى التي جاء بها، فكان لا بدّ من دراسة تلك الطروحات لنتعرّف على نظرته إلى الحكم، وصفات صاحب السلطة، وكيفيّة تولّيه أمور الناس ليُحقّق سعادتهم في الدنيا والآخرة. وهنا نطرح سؤالين مركزيّين: كيف نظر ابن خلدون إلى مسألة السلطة؟ وكيف يمكن لنا قراءة نظريّة السلطة من خلال فكره؟

القوانين السياسيّة

متى قرأنا النصّ الخلدونيّ حول نظام الحكم السياسيّ، والذي جاء في مقدّمة  كتابه، " تاريخ العبر وديوان المبتدأ والخبر  في أيّام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر،"[2] وجدنا أنّه يعدّ الاجتماع البشريّ شرطًا أساسيًّا لوجود السلطة وإدارة شؤون السياسة، كما يرى أنّ القوانين السياسيّة التي تحكم الناس ثلاثة، وهي كالآتي:

1 ـــ  قوانين تعتمد السياسة العقليّة: يكون جُلّ اهتمامها أمور الدنيا، وهي تخضع لغايات الحاكم المستبدّ، وتقدّم مصلحته على مصالح العامّة، وقد ذكر الفرس مثالًا.

2 ــــ قوانين تعتمد السياسة المدنيّة: وهي ما يطلق عليه الحكماء اسم المدينة الفاضلة، لكنّها سياسة خياليّة؛ وهي بعيدة المنال ومذمومة عنده؛ لأنّها تعتمد على الفرد، وتبتعد عن إرادة الحاكم صاحب السلطة.

3 ــــ قوانين سياسيّة دينيّة: أي الحكم بشرع الله (الإمامة والخلافة).

طاعة وليّ الأمر

يؤكّد ابن خلدون على أنّ القوانين السياسيّة الدينيّة أكثر نفعًا؛ لأنّه يراها الأحرص على تسيير أمور الناس الدنيويّة والأخرويّة، ويدعم آراءه بآيات قرآنيّة، ويحاول زرع هاجس الخوف في مخيّلة الناس؛ فيربط المظاهر العامّة بالخاصّة (يربط المعاملة بالعبادة)، فيورد قول الله تعالى: {ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور} (النور: 40). كما يرى أنّ صلاح نظام الحكم في وجود الخليفة الإمام، ويُعَرِّف الخلافة والإمامة بقوله: هي حمل الكافّة على مُقتضى النظر الشرعيّ في مصالحهم الأخرويّة والدنيويّة الراجعة إليهم،[3] ويراها ذات بعد دينيّ وسياسيّ لا يمكن أن ينفصلا، ويؤكّد بشكل مستمرّ على ضرورة طاعة ولي الأمر؛ لأنّ البيعة هي عهد على الطاعة، وهو ما شرّعه فقهاء المالكيّة؛ فهو بذلك يتّفق مع ما جاء به الماورديّ (ت: 405 هـ)  في "الأحكام السلطانيّة"، فالأخير عدّ الخلافة حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها واجب لمن يقوم بها من الأمّة، وبالإجماع.[4]

شروط الإمامة

يتصدّى ابن خلدون في مقدّمته لأتباع المذهب العقليّ، سواء أتباع ابن رشد أو المعتزلة أو الخوارج، وهم المعارضون لوجود الحاكم إذا لم يكن عادلًا أو مطبّقًا شرع الله. ورغم الحاجة لوجود حاكم بشكل دائم وفق ابن خدلون، إلّا أنّ الشرع يرفض الظلم، ويسعى لرفع المفاسد عن الناس، وبالتالي فإنّه يرى ضرورة توفّر عدّة شروط في الحاكم (الإمام)، وهي:  

1 ـ العلم:  يقصد به العلم الشرعيّ، ليقوم الحاكم بالاجتهاد، والعمل على تنفيذ أحكام الله.

2 ـ العدالة: لأنّ الخلافة منصب دينيّ ينظر صاحبها في جميع السلطات.

3 ـ الكفاية: لإدارة المصالح واتّخاذ القرارات لحماية المسلمين.

4 ـ سلامة الحواسّ والأعضاء: لأنّ فَقْدَ أحدها أمر مشين، والسلامة شرط أساسيّ، وهذا قانون وجد في التقليد الدستوريّ البيزنطيّ؛ إذ أنّه تسقط أحقّيّة الحكم عن الوريث لوجود إعاقة أو عيب جسديّ فيه.

النسب القرشيّ

إلّا أنّ ابن خلدون يهمل شرطًا خامسًا، وهو "النسب القرشيّ"، وذلك بالرغم من الإجماع في السقيفة على هذا المبدأ، إذ وجد خلافًا بين المسلمين حوله، ورأى أنّ جميع الذين سعوا للوصول إلى الخلافة ربطوا أنفسهم بالنسب الشريف.

يذكر ابن خلدون الشروط التي ذكرها الماورديّ في كتابه، لكنّ الأخير يرى ضرورة توفّر شروط ستّة في الإمام الحاكم؛ وهي: العدالة، والعلم، وسلامة الحواسّ والأعضاء، والرأي، والشجاعة، والجهاد، والنسب القرشيّ. فالماورديّ يصرّ على أهمّيّة النسب القرشيّ شرطًا للحكم.[5]

إنّ سبب اختلاف نظرة كلّ منهما لشرط النسب عائد ربّما إلى طبيعة العصر الذي عاشاه؛ فالماورديّ عاش في القرن العاشر الميلاديّ، في فترة التنازع بين المسلمين على الخلافة، أمّا ابن خلدون فهو ابن القرن الرابع عشر، و لم يعد للخلافة أهمّيّة مركزيّة في زمانه، وباتت سلطة رمزيّة ليس إلّا، وبرزت الكثير من السلطات الإسلاميّة في المشرق والمغرب داخل  الخلافة، ولذلك دعا إلى ضرورة إحياء الحكم على أساس الإمامة والخلافة، لأنّها الوحيدة الضامنة للاجتماع البشريّ.

تأويل الماورديّ

نلاحظ أنّ ابن خلدون بنى نظريّته في العمران البشريّ على أساس الحكم الإسلاميّ، "الخلافة والإمامةورفض أشكال الحكم الأخرى، لكنّ آراءه تلك، في الحقيقة، لا تنطبق على الأزمنة المختلفة في جميع أمصار العالم في الفترة الوسيطة. كما نلاحظ في طروحاته السياسيّة تداخلًا ما بين شخصيّته قاضيًا وفقيهًا مالكيًّا، وشخصيّته مؤرّخًا ومفكّرًا يكتب للاجتماع الإنسانيّ، فهو يُشَرِّع للحاكم حتّى لو كان ظالمًا، ويأخذ بالقانون العقليّ إذا اتّفق مع مبادئه السياسيّة ومصالح السلطة، فكان لديه كثير من الخلط في طروحات وأفكار السلطة وإدارة الحكم، ونراه يبني نظريّاته على  "ثقافة الموت"، ويُحَبّب في الآخرة، ويعدّ الأعمال للدنيا مردودة، وأعمال الآخرة محمودة.

لا بدّ أن ندرك أنّه من الضروريّ قراءة النصّ الخلدونيّ، ونظريّاته السياسيّة، في الإطار التاريخيّ الذي عاش فيه، ومرحلة الأزمات، الداخليّة والخارجيّة، التي شهدتها الأمّة في عصره. كما نلاحظ، من جهة ثانية، أنّ الكثير ممّا جاء من طروحات سياسيّة لدى ابن خلدون كانت موجودة  في "الأحكام السلطانيّة" للماورديّ قبل أربعة قرون من كتابة "المقدّمة"، وربّما يكون ابن خلدون قد انتحل الكثير من الآراء السياسيّة للماورديّ حول شرعنة السلطة وقواعدها، فالماودريّ كتب في مرحلة صراع بين الخلفاء العباسيّين السنّة، والوزراء البويهيّين الشيعة، وهي مرحلة خاصّة ولا يمكن تعميمها على كلّ المراحل التاريخيّة، ونرى أنّ ابن خلدون حاول تأويل آراء الماورديّ، وتحويلها إلى قواعد سياسيّة في نظريّة العمران البشريّ.

أخيرًا...

يمكن القول، أخيرًا، إنّ آراء ابن خلدون السياسيّة تُعَدّ جزءًا من مشروع العمران الإنسانيّ الذي صاغه، دالًّا على محوريّة السياسة الدينيّة في نظام الحكم، "الخلافة والإمامة"؛ لتحقيق مصالح الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة، فعلى الرغم من سعة أفقه وعبقريّته في زمانه، لكنّه لم يفصل بين الحكم السياسيّ والشرع، بل طوّع المجتمع انطلاقًا من مبادئه الدينيّة الإسلاميّة، وبالتالي لا بدّ من قراءة الخطاب الخلدونيّ ونظريّاته، ضمن المرحلة الزمنيّة التي عاشها، والسعي للاستفادة ممّا وضعه من نظريّات في مجالات شتّى، والتي لا تزال تتردّد أصداؤها، وتُكْتَشَفُ جوانب جديدة فيها من قبل مفكّرين وباحثين جدد بصورة دائمة.


1. ابن خلدون؛ هو أبو يزيد عبد الرحمن بن خلدون، ولد سنة  1332م، وهو أندلسيّ الأصل تونسيّ المولد. عاش في أسرة ذات ثقافة دينيّة عاليّة، ومكانة سياسيّة بارزة في المغرب الإسلاميّ، فأسرته كان لها أثر كبير في نشأته. عاش في القرن الرابع عشر الميلاديّ، حيث الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة التي عصفت بشمال أفريقيا بخاصّة، وبلاد المسلمين بعامّة، وكان قاضيًا من قضاة المالكيّة، وترك كتابات في التاريخ والاجتماع، أبرزها "التعريف برحلة ابن خلدون"، و"المقدّمة" التي تُعَدُّ أهمّ ما كتب؛ وقد تضمّنت فلسفة لحياة الإنسان كاملة. وبذلك استطاع أن ينال لقب أبو التاريخ وأبو علم الاجتماع البشريّ معًا، انظر :  عبد الرحمن أحمد، "إسهامات ابن خلدون في الفكر الاقتصاديّ"، مجلّة دراسات اقتصاديّة إسلاميّة 2، (2006)، 8-9.

 [2]. ابن خلدون، المقدّمة، تحقق  محمّد  تامر، (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينيّة، 2005)، 152-156.

 3. ابن خلدون، المصدر نفسه، 153.

 4. الماورديّ، الأحكام السلطانيّة، تحقيق أحمد مبارك البغداديّ. ج.1 (الكويت: مكتبة دار ابن قتيبة، 1989)، 3.

5. الماورديّ، المصدر نفسه، 6. 

* طالب ماجستير في معهد الدّوحة للدراسات العليا، برنامج التاريخ.