عن موت شمعون: كيف يكتب الفلسطينيّ نفسه إسرائيليًا؟ (1)

شيمعون بيريز

عبد الله البيّاري

من أهمّ الديناميّات التي انبنت عليها الحداثة، أنّها 'لحظة أنا' لا تقوم إلّا بآخرويّتها اللانهائيّة في الأنا؛ وقد ابتلعت تلك الديناميّة كلّ أنماط السرديّات، حتّى الدينيّة منها، جاعلة من آدم و/ أو الله آخرًا لإبليس، والعكس كذلك. وعليه، فإنّ أيّ محاولة لسبر أغوار الأنا/ الذات الحداثيّة، لا تكون من دون الاصطدام بتمثّلات لا نهائيّة للآخر داخل الأنا. والمعرفة الحداثيّة ليست استثناءً لهذه السيرورة، بل هي إنتاج وإعادة إنتاج لهذه الثنائيّة، ثنائيّة الأنا والآخر، وما ينتج عنها من أنماط لإدراك الواقع المعيش والمتخيَّل، إنتاجًا واستهلاكًا، ومن بين تلك مفهوم 'الهويّة'، باعتباره نتاجًا حداثيًّا.

الألم والمرآة

ويغدو السؤال أساسيًّا: من أين يأتي الآخر الحاضر أبدًا في الأنا/ الذات؟ ولماذا لا تقوم الذات من دون آخر؟

وإن كان مجال علم النفس، في بعض أطواره، يميل إلى إرجاع تلك الثنائيّة إلى العلاقة التخوميّة للجسد، بين حدّين اثنين: الألم والمرآة، أي الحسّيّ والمتخيّل، والتي طوّرها جاك لاكان إلى ما يُعرف بـ 'مفهوم المرآة' الأساسيّ في تعريف الهويّة الذاتيّة للأنا والآخر، فإنّ المتخيّل المجتمعيّ (الآخر)، لا يمكن أن يكون إلّا بالحسّيّ (الأنا)، وهو ما يعطي 'الموت' فرادة في الوجود الإنسانيّ.

 يثير الموت فينا من الحسّيّ (الأنا) الكثير، باعتباره أثرًا يقع على 'الجسد' البشريّ، كما أنّ الموت، أيضًا، له نصيب كبير من المُتَخَيَّل (الآخر) في التجربة الإنسانيّة الوجوديّة (وتحديدًا في صورتها الاجتماعيّة والعمرانيّة)، ولعلّ دراسة أنماط الحياة لا تنفصل عن دراسة أنماط الموت في المجتمع (لننظر مثلًا إلى احتجاز إسرائيل لجثامين الشهداء الفلسطينيّين). وغنيّ عن القول، كذلك، إنّ الموت أحد أهمّ أبواب التجربة الدينيّة التي تتحكّم في قيمة الوجود الحيّ للإنسان، الفرد، وكلّما تعمّقنا في حدث الموت مجتمعيًّا، أمكن لنا تفهّم معاني الحياة، في المجتمع وسياساتها.

خلق التابع

يمكننا ممّا سبق أن نفهم دلالة موت شيمعون بيريز باعتباره 'آخرنا' الإسرائيليّ، كفلسطينيّين، وهنا تبدأ الإشكاليّة السرديّة للذات الفلسطينيّة مع حياتها وموته (أو/ والعكس)، كذات واقعة تحت قمع كولونياليّ استيطانيّ.

يقول الكاتب عمر خليفة في مقال عن موت بيريز بعنوان 'كيف دفن شمعون بيريز العدالة معه' (موقع 'حبر'، 17 تشرين الأوّل): 'بيريز جزء أساسيّ من تعريف الفلسطينيّين بأنفسهم،' ويكمل: 'بهذا المعنى المحزن للذات، فإنّ بيريز يصبح جزءًا من الذاكرة الفلسطينيّة، وفي موته، بالتالي، خسارة ما لهذه الذاكرة.'

يبني كاتب هذه السطور المقتبسة وجهة نظره على فرضيّة تقول: 'في كلّ القصص الفلسطينيّة، والحكايا، والأشعار، والمراثي، والنكات، ثمّة إسرائيليّ ما، مرئيّ أو غير مرئيّ، محسوس أو مجرّد، لكنّه هناك، حتّى لو رغبنا في نسيانه للحظات،' ويصبح بيريز بالنسبة له: 'ليس مجرّد عدوّ، بل هو جزء من معنى الذات الفلسطينيّة'(!!!).

وإذ لا نجادل في أنّ 'إسرائيليّة' الفلسطينيّ الواقع تحت الاحتلال تزداد بزيادة فلسطينيّته (وبدرجة جدليّة أقلّ فلسطينيّو الشتات، أيضًا)، إلّا أنّنا يجب أن نعي تمامًا أنّ  تلك الأخيرة يجب ألّا تُكتب إسرائيليًّا، ولا أن تبدأ من الإسرائيليّ وجسده وسرديّته، كما يفوح من تلك السطور؛ فمحاولة كتابة الفلسطينيّ لذاته السرديّة في المراثي والحكايا والأشعار والنكات، وغيرها، وإن كانت تحتوي على 'إسرائيليّ ما، مرئيّ أو غير مرئيّ، محسوس أو مجرّد،' فإنّها لا تبدأ منه، وإلّا غدا الحسّيّ/ الألم/ الأنا هو المرآة/ الآخر/ الموت.

بمعنى آخر، إذا كان 'موت' بيريز هو موت للذاكرة والذات الفلسطينيّة، فيُفهم من ذلك ضمنًا أنّ حياة بيريز هي 'حياة' الذات والذاكرة الفلسطينيّة، بل وتعريف الفلسطينيّ لذاته، كما يدّعي المقال، ما يجعل الفلسطينيّ، ككيان سرديّ ووجوديّ، يبدأ حصرًا مع الإسرائيليّ ومنه، وهو لبّ سياسات الهويّة في المنظومة الكولونياليّة لخلق أو كتابة 'التابع'.

هل تهدم أدوات السيّد السيّد؟

كلّ سرديّة وجوديّة ما، بعامّة، عليها، لتستمرّ وتؤثّر وتدّعي سلطةً ما، أن تبدأ الزمن من ذاتها. فمثلًا، كان على السرديّة الإسلاميّة أن تبدأ الزمن من ذاتها بالهجرة، وما سبق عليها كان 'جاهليّة'، كما كان على التنوير أن يبدأ الزمن من نفسه بالثورة الفرنسيّة، وما سبق عليه كان 'عصر ظلام'. كان على الإسرائيليّ/ الصهيونيّ أن يبدأ وجوده في فلسطين من ذاته 'جسدًا'، فكانت قبله 'أرضًا بلا شعب'، أو كما قالت غولدا مائير:  'لا وجود لشعبٍ ]/جسدٍ[ فلسطينيّ،' وهو نفس المبدأ - الحاكم - الذي تنبني عليه وجهة نظر صاحب المقال، فالذاكرة الفلسطينيّة لدى الكاتب تنبني/ تبدأ على/ من 'الآباء المؤسّسين' لإسرائيل، وليس قبلها، لدرجة أنّ موت أحدهم، بيريز ، هو موت لجزء كبير منها، بل أنّه حين يتحدّث عن 'رؤية' فلسطين ما قبل 1948، يتحدّث عنها بعين إسرائيليّة/ صهيونيّة حصرًا، إذ يقول: 'مات أحد أهمّ من رأوا فلسطين التي قبل، وفلسطين التي بعد.' بمعنى آخر، هو يرى بيريز، حصرًا، في مرآته كفلسطينيّ، ويخلط بينه وبين ذاته الفلسطينيّة، ما يجعل الذاكرة الفلسطينيّة، هنا، مطابقة لذاكرة الإسرائيليّ/ الصهيونيّ؛ وإلّا فما معنى أن تكون فلسطينيًّا؟ يجيب الكاتب بالقول: 'يعني أن تكون من فلسطين التي بعد، تلك التي يعيش فيها ويشكّلها شمعون بيريز،' وليست فلسطين التي قبل وأثناء والآن، هو يعني إسرائيل لا فلسطين.

وينسى الكاتب، هنا، أنّ 'الذاكرة في ذاتها فعل مقاوم،' كما علّمنا إدوارد سعيد في تفكيكه للبنية الكولونياليّة، وإعطاء 'التابع' حقّ 'الكلام والسرد' بذاته ولذاته لا بلغة وبيداغوجيا السيّد، لكنّه (الكاتب) ينسى أنّ 'أدوات السيّد لا تهدم بيت السيّد.'

فقدان الفقدان

في كتابه الفذّ بعنوان  'معماريّة الفقدان' (2012)، يقول الباحث والأكاديميّ الفلسطينيّ إسماعيل ناشف عن الواقع الفلسطينيّ، إنّه يمتدّ زمنًا 'من الفقدان الأوّل الذي نتج عن حرب 1948 إلى كلّ الأزمنة اللاحقة، إلى يومنا هذا،' ويشير إلى الوجود الفلسطينيّ باعتباره 'حركة بين ’الشيء‘ و’فقدان الشيء‘، فنرى أنّ بنية السرد الفلسطينيّة هي على الشكل التالي: كان لنا وطن، في لحظة زمنيّة (تتوّجت في عام 1948) فقدنا فيها الوطن، (...) فالفقدان الأوّل الذي حصل عام 1948، هو جزء من العمليّة الاجتماعيّة التاريخيّة، والتي ناضل الفلسطينيّون عبر أسلوبهم الأوّل؛ الحركة بين ’الشيء‘ و’فقدان الشيء‘ لاستعادة ما فُقد. فشِل هذا المسعى لدرجة أنّنا لم نعد نستطيع حمل الفقدان ذاته فأجهضناه – إن جاز  هذا التعبير الأسود -. بذلك خرجنا من التاريخ إلى الأسطورة، حالة فقدان الفقدان، وهذه بدورها لا تؤدّي إلى العودة السويّة إلى للتاريخ، بل الوقوف فيه ناظرًا إليه من خارجه،' وهو ما يمثّله القول إنّ الفلسطينيّ قَبْلَ الإسرائيليّ لا ذات له ولا ذاكرة، ومن يحدّد معنى الفلسطينيّ هو بيريز حصرًا!

نقض ذاكرة المحتلّ

يتساءل الكاتب ويقول: 'أيّ قسوة أكثر من أن تحتاج لقاتلك ليقول لك من أنت؟!' ويضيف: 'بيريز  وحده يملك الجواب،' إذ إنّ 'بيريز يملك نصفنا الذي لم نعرفه، يخبّئ في ثناياه أشياءنا وفراغاتنا،' فبيريز هو أحد هؤلاء الذين 'سرقوا فلسطين والقدرة على تخيّلها من دونهم.'

يفقد الكاتب، إذًا، ذاته وذاكرته الفلسطينيّة ليخبّئها له بيريز، ويتنكّر لجيل فلسطينيّ كامل وسرديّة تاريخيّة لفلسطين كانت قبل الإسرائيليّ (بؤرة السرد لديه)، أي قبل 1948 وبعدها، ومن يفقد الذاكرة فلا حاضر له، وهنا تحضرني مقولة لعبد الكريم الخطّابيّ إذ يقول: 'الهزيمة تأتي من الداخل دومًا،' لا سيّما أنّ كلّ مقولات كاتب المقال تلك تحضر في ظلّ مَنْ قال 'لا تَمُتْ قبل أن تكون ندًّا،' غسّان كنفاني، إذ يقتبس عن رائعة الأخير 'عائد إلى حيفا'، حديثه الشهير مع 'صفيّة' عن 'الوطن'، لكنّه – الكاتب - لم يستطع أن يكون ندًّا وإن اقتبس ما اقتبس، فينسى أنّ كنفاني الذي رفض أن يتموضع في سرديّة خطابيّة صهيونيّة تستخدم الذاكرة والإدراك الصهيونيّ لكتابة 'الفلسطينيّ' في 'تحديقه' (بالمصطلح النقديّ) لذاته الفلسطينيّة، في مقطع فيديو ظهر مؤخّرًا، يستخدم ذاكرته لنقض ذاكرة المحتلّ، وليس للتماهي معها والخضوع لها والولوج إلى سرديّتها!

هل يستطيع التابع أن يتكلّم؟

'هل يستطيع التابع أن يتكلّم؟' هكذا تساءلت غياتاري سبيفاك وهي تتحدّث في كتابها الذي يحمل نفس التساؤل عنوانًا، عن 'إضفاء الطبيعة الآخريّة' Othering))، وأنّ هذه الطبيعة ليست احتكارًا كولونياليًّا بدئيًّا/ قبليًّا (Prior). ويردّ حميد دبشي ('بشرة سمراء أقنعة بيضاء.' 2014): 'لماذا يُسخطنا ويُثيرنا شخص يبدو مثلنا أكثر من أيّ شخص آخر؟ هل لأنّنا نتساوى معه؟ أم لأنّ العالم - العالم الأبيض - يساوي بيننا؟!'

في عام 1835، أصدر الضابط الإنجليزيّ الكولونياليّ في الهند، توماس ماكولي، مرسومًا يقول فيه: 'يجب أن نبذل قصارى جهدنا لتشكيل طبقة يمكن لها أن تكون مُتَرْجِمة بيننا وبين الملايين الذين نحكمهم، طبقة من الأشخاص الهنود في الدم واللون، لكنّهم إنجليز في الذوق والآراء والألفاظ والفكر.'