كتاب الحرّيّة: بيان كمال أبو ديب في فضاءات متابينة

كمال أبو ديب

يقدّم المفكّر السوريّ، بروفسور كمال أبو ديب، بيانه من أجل تحقيق الحرّيّة في السياسة والثقافة والأدب والفكر والجسد وممارسة الحضور في العالم، وذلك في كتابه 'الحرّيّة'، الصادر عن دار فضاءات للنشر في العاصمة الأردنيّة عمّان.

تكوّن الكتاب، كما يشير مؤلّفه، في زمن أعتى أنواع القمع والاستبداد والطغيان في العالم العربيّ، على مستوى أنظمة الحكم، وعلى مستوى العلاقات بين الفئات والكتل الاجتماعيّة، مشيرًا إلى أنّ المنطلق الفكريّ الأساسيّ لكتابه، رفعة شأن الإنسان وتعظيم وجوده في العالم.

ثورات فيسبوك وتويتر؟

يتوقّف أبو ديب في الفصل الأوّل من كتابه على الأبعاد الخفيّة للثورات العربيّة، من العالم الافتراضيّ إلى الحقيقيّ، مؤكّدًا على أنّ الانفجارات التي زعزعت ركائز الأنظمة الطغيانيّة القمعيّة في العالم العربيّ، كانت أعمق بكثير وأعظم قيمة وأهميّة من تسميتها بـ 'ثورات الفيسبوك والتويتر'، فهذه التسمية تربط تلك الثورات بالتبشير الأمريكيّ بالحرّيّة والديمقراطيّة، بينما الفيسبوك وغيره من مواقع التواصل لم يكن أكثر من وسيلة اتّصال مرحليّة منحت الشرارة، الموجودة بالأصل، القدرة على إحداث الحرائق وامتدادها؛ فالثورة، بحسب المؤلّف، لها أسباب حقيقيّة تكمن بالواقع اليوميّ المحسوس، لكن لحظة اندلاعها تظلّ عصيّة على التكهّن، فلم يكن ممكنًا التكهّن بما سيؤدّي إليه إحراق رجل مفرد نفسه في تونس، أو مقتل شابّ واحد بسبب التعذيب في مصر.

ويوضح أبو ديب أنّ المرء داخل الفضاء اللا محدود الذي توفّره مواقع التواصل، يتمتّع بإحساس هائل بالقوّة والسيطرة والقدرة على الفاعليّة والاختيار، والحرّيّة المطلقة بالتواصل مع آلاف الأشخاص، وهكذا يكتسب الفرد المعزول بين أربعة جدران وشاشة صغيرة حسًّا قويًّا بالانتماء الجماعيّ، يزيل من داخله شعوره بالعزلة وانعدام الانتماء، وهكذا تتشكّل بنية الفكر النفسيّة لديه، وتتعاظم قيمة الحرّيّة المطلقة بالقدرة على الفعل والمشاركة والإضافة والابتكار والتطوير والتغيير، كما أنّ التعبير عن الحرّيّة داخل العالم الافتراضيّ منطلقة بلا حدود، خرجت كذلك مع الشباب إلى الشوارع والميادين.

تشوّه

غير أنّ هذه الثورات، تحديدًا في هذه المرحلة، تعاني من الغموض في الرؤية واختلاط المفاهيم، وتعاني من التشوّه الداخليّ، ينبع ذلك، كما يرى المؤلف، من تكدّس مجموعات متباينة، بعضها انضمّ إليها في صراع على السلطة، لا هدف له سوى تحقيق مطامح شخصيّة أو عشائريّة - قبليّة أو طائفيّة، والبعض الآخر يخوض المعركة من أجل همّ الحرّيّة السياسيّة بمعنى محدود، ولا علاقة له بالحرّيّة بمعناها الواسع، وبعضها منخرط بدافع غريزيّ، سببه الانضمام إلى خضمّ هائج في لحظة انفعاليّة، وبعضها يندمج بدوافع الفقر والحرمان والجهل.

الحرّيّة كلّ لا يتجزّأ ولا ينقسم، فهي إمّا تكون أو لا تكون، ويتمثّل معنى الكلّيّة الذي يريده المؤلّف على أصعدة وجود الإنسان كلّها، كصعيد تكوينه الفرديّ، فهي حرّيّة الفكر والروح، فلا معنى لأن تكون الروح حرّة والفكر والجسد مستعبدين. 

هكذا يعاين أبو ديب الخلل في بعض هذه الحركات، من خلال تحديد الطريقة التي يتعامل معها الشباب مع المؤسّسة الحاكمة في مطالبهم؛ فهم يطرحونها من منطلق القوّة التي يشعرون بها، بينما يتحدّثون عن الديمقراطيّة، ومنطق هذه القوّة لا يختلف عن المنطق الذي يحكم به الطغاة العرب شعوبهم؛ فقوّة الأنظمة عسكريّة بوليسيّة، وقوّة الشباب عدديّة تنبع من إحساسهم بأنّهم يجسّدون ثورة الشعب ورغباته وحقوقه، غير أنّ ذلك كلّه لا يعني مطالبة للثورات في العالم العربيّ أن تتوقّف أو تتخلّى عن أحلامها، فمن دونها لن تحصل أيّ تغييرات، لأنّ الأنظمة الديكتاتوريّة العربيّة، كما يراها أبو ديب، لا تفهم إلّا لغة القوّة على المستوى الداخليّ، أمّا على الصعيد الخارجيّ، فهي غالبًا ما تتقلّب، ليّنة القياد طيّعة ذليلة مسترحمة.

كلّ

يناقش الفصل الثاني من الكتاب مفهوم 'الحرّيّة' والهدف منها، وهو لدى أبو ديب خلق عالم أكثر جمالًا ونبلًا وفيضًا بالإنسانيّة والعطاء والغبطة بالوجود. أراد المؤلّف لهذا الفصل أن يكون قولًا مباشرًا وبوحًا شخصيًّا، لا بحثًا علميًّا محشوًّا بالاقتباسات والشواهد والحجج والحجج المضادّة، بل يقدّمه شهادةً على تاريخ وزمن ومصير. ويعرّف المؤلّف الحرّيّة بأنّها ليست ترفًا يملك الأسياد الحّق في أن يقرّروا متى يجوز للبشر أن يصبوا إلى امتلاكه، ومتى لا يجوز لهم، فالحرّيّة ليست شعارًا يتشدّق به الذين يعتقلون كرامة الإنسان، بل هي حقّ مكتسب للإنسان منذ لحظة ولادته، ومن يهب الحرّيّة هو فعل الخلق الأوّل، وما من أحد له الحقّ في سلبها سوى فعل العدم الأخير.

ويرى أبو ديب أنّ الحرّيّة كلّ لا يتجزّأ ولا ينقسم، فهي إمّا تكون أو لا تكون، ويتمثّل معنى الكلّيّة الذي يريده المؤلّف على أصعدة وجود الإنسان كلّها، كصعيد تكوينه الفرديّ، فهي حرّيّة الفكر والروح، فلا معنى لأن تكون الروح حرّة والفكر والجسد مستعبدين. كذلك على صعيد وجود الإنسان الجمعيّ، فلا معنى من حرّيّة المرء سياسيًّا ويكون في الوقت نفسه مستعبدًا اقتصاديًّا، والعكس أيضًا، فإمّا أن تكون الحرّيّة كاملة جذريّة شاملة أو لا تكون. ولا معنى، أيضًا، من حرّيّة يمتلكها الرجل في الوقت الذي تكون فيه المرأة مستعبدة، فهذه التجزئة تمارسها الأنظمة الشموليّة الديكتاتوريّة.

الأدب الحرّ

ويفرد الكتاب حيّزًا كبيرًا لكيفيّة تبلور مسألة الحرّيّة في ما يتعلّق بالأدب. يتحقّق ذلك بإدراكنا أنّ الأديب إنسان أوّلًا، قبل كونه أديبًا، وأنّ الأدب الخلّاق له شروط لا يمكن له أن يبلغ ازدهاره من دونها، فينبغي أن تتوفّر للأديب الحرّيّة ذاتها التي تتوفّر للإنسان من حيث هو إنسان، إلّا أنّها لديه ضرورة أكثر إلحاحًا؛ فهي ضرورة وجود وتفتّح ونضج واكتمال، إذ أنّ توفّر مناخ حقيقيّ من الحرّيّة في الإبداع، يجسّد قوّة داخليّة تحضّ على المغامرة والبحث والتجديد والاكتشاف المستمرّ، وسبر أغوار مساحات بكر لم يطأها خيال مبدع من قبل، يخرج الكتابة العربيّة من الجمود ضمن قوالب محدودة لزمن طويل.

إمكانيّة ازدهار الأدب في غياب الحرّيّة، لا يعني أنّ غيابها شرط أكثر ملاءمة لازدهاره من توفّرها؛ فالأديب الذي يزدهر في غياب الحرّيّة، هو ذلك المنتهك للكبت والقمع، ما يستنفذ طاقات الأدب الخلّاقة

ويتأمّل أبو ديب الدلالة وعمقها في الثورة الشعريّة التي انتهج روّادها أساليب جديدة تختلف عن الكتابة المعهودة وتخرج عن قواعدها، فيرى أنّ كلّ ما حدث من تغيير كان على مستوى الشكل بسبب الفهم المحدود للحرّيّة. يستذكر المؤلّف نازك الملائكة التي كانت ذاتها مقيّدة، غير أنّ آخرين غيرها حظوا بالحرّيّة ودخلوا وهج المغامرة والسبر واكتناه عوالم إيقاعيّة وتشكيليّة لم يكن من المتوقّع، حتّى في الحلم، تحقيقها وارتيادها خلال أقلّ من عشرين سنة، أمام هيمنة الشكل التقليديّ.

ويبيّن المؤلّف أنّ إمكانيّة ازدهار الأدب في غياب الحرّيّة، لا يعني أنّ غيابها شرط أكثر ملاءمة لازدهاره من توفّرها؛ فالأديب الذي يزدهر في غياب الحرّيّة، هو ذلك المنتهك للكبت والقمع، ما يستنفذ طاقات الأدب الخلّاقة، فيعجز عن اكتناه عوالم أخرى بالغة الثراء، بصرفه، أيضًا، عن مناحي الإبداع الحقيقيّة، كما هو في الكتابة الإبداعيّة العربيّة المعاصرة، التي بذلت جهودًا كبيرة في فضح الطغيان، ما بدّد قدرتها على إغناء فهمنا للإنسان والمجتمع والعالم والما وراء.

السيطرة

ويؤكّد على أنّ الأدب لن يموت في غياب الحرّيّة، فللمبدع وسائله في مواجهة القمع، منها تقبّله للمنفى ثمنًا للحرّيّة، إذ أنّ مقاومة القمع تولد لدى الأديب ظواهر فنّيّة ولغويّة كاملة، كذلك ظواهر فكريّة وسلوكيّة، وتدفعه إلى إعلان العصيان الفيزيائيّ والمقاومة المسلّحة، كما يحدث في فلسطين وغيرها من البلاد العربيّة. فالقمع لا يقتل الإبداع، وإن كان في بعض الأحيان يقتل المبدعين الأفراد، بمعنى أنّ قوّة ما قد تتمكّن من إعدام أديب أو شاعر أو فنّان، لكن ليس بمقدورها إعدام أدبه وفنّه، والشواهد كثيرة على ذلك، في التاريخ القديم والحديث.

إنّ مشكلة الأديب العربيّ، بحسب المؤلف، عدم امتلاكه لوسائل القوّة ليضمن له موقعًا يخلّصه من هامشيّته وخضوعه الدائم للأقوياء الذين يحدّدون فضاء الحرّيّة الذي يُسمح له بالحركة ضمنه. وممّا يواجهه الأدب ويشكّل خطرًا عليه، سيطرة المؤسّسة الدينيّة الرسميّة والمؤسّسة السياسيّة وغوغائيّة الفكر السياسيّ والتنظيمات الحزبيّة، كلّها فرضت حدودًا تضيّق من حرّيّة الأديب، كذلك تقمع حرّيّة القارئ أو المتلقّي الذي يشارك المنتج للنصوص الإبداعيّة تأليفها من حيث عمق التأويلات التي يخرج بها من خلال قراءته.

 

محمّد عريقات

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ يقيم في الأردنّ. صدرت مجموعته الشعريّة الأولى تحت عنوان 'أرمل السكينة' بطبعتين، عن المركز القوميّ للدراسات والتوثيق في فلسطين 2009، وعن المؤسّسة العربّية للدراسات والنشر في بيروت 2010. صدرت مجموعته الشعريّة الثانية 'أكلتني الشجرة'، عن المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر في بيروت 2016. حاصل على عدّة جوائز أردنيّة وعربيّة. يعمل في مجال الكتابة الدراميّة في المركز العربيّ للإنتاج الإعلاميّ.