"إني أتهم": الثقافة والاشتباك والشهادة

والد باسل الأعرج يلقي التحيّة العسكريّة على ولده خلال مراسم التشييع (أ ب)

في فترة الثمانية عشر يومًا الأولى من عمر ميدان التحرير (الثورة المصريّة)، وهي الفترة التي لزمت الميدان لخلع حسني مبارك والدخول في المواجهة التالية، كان ثمّة ظاهرة فارقة تستدعي التأمّل، حيث كانت مكانيّة وزمانيّة الميدان متقدّمة، نقديًّا وعقلانيًّا ومؤسّساتيًا، وطبعًا أخلاقيًّا، على زمانيّة ومكانيّة الدولة ومؤسّساتها، ومن ضمن تلك المؤسّسات، بالمعنى البنيويّ، كانت 'الثقافة'؛ فقد أنتج الميدان ثقافته وجعل لها عتبة معياريّة قيميّة نحتتها مطالب الثورة في شعاراتها: 'العيش، والحريّة، والكرامة الإنسانيّة، والعدالة الاجتماعيّة' (جدير بالتأمّل حجم المواجهات بين مؤسّسة الثقافة الخاصّة بالدولة المصريّة العميقة، وثقافة الثورة والميدان). وبالتالي، كانت زمانيّة ومكانيّة الميدان قادرة على قبول و/ أو رفض أيّ مثقّف أو خطاب ثقافيّ لم يصادق على تلك العتبة الثوريّة الأخلاقيّة، وقائمة الشخصيّات الثقافية التي احتضنها الميدان (حتّى ولو كانت خارجه جغرافيًّا)، وتلك التي طردها الميدان فعليًّا من حدوده، تطول، ولا مجال هنا لاستعراضها، حتّى وإن كان لذلك دلالته المهمّة.

كان هذا المشهد كاشفًا لبنيويّة الثقافة والمجتمع وموقع 'المثقّف' منهما في السياق الاجتماعيّ بعامّة، والثوريّ بخاصّة، وهو موقف ممتدّ من امتحانات المثقّف أمام شعبه ومطالباته بالحرّيّة والانعتاق، وكذلك أمام الأنظمة والسلطات، وهو سؤال أساس عن ماهيّة المثقّف والثقافة معًا.

علامة فارقة

استمرّت الأمور تتكثّف في السياق الثوريّ العربيّ في هذا الشأن؛ فقد كانت الثورة ابنة جيل له قدرة على الانفصال عن ثقافة الدولة الرسميّة ومواجهتها نقديًّا واجتماعيًّا ومعياريًّا (أخلاقيًا)، حتّى كان استشهاد المثقّف المشتبك باسل الأعرج علامة فارقة. هذا الشابّ الفلسطينيّ المميّز، والذي أعاد طرح سؤال المثقّف الذي لم يغب إلى الآن، بكثافته، علينا حين قال: 'بدّك تصير مثقّف؟! لازم تكون مثقّف مشتبك، وإذا ما بدّك تشتبك، لا فيك ولا في ثقافتك!'

باسل الأعرج في مواجهة مع جنود الاحتلال

في عريضته الشهيرة 'إنّي أتّهم'، تعامل إميل زولا مع المثقّف بوصفه سلطة ضميريّة لا تستمدّ شرعيّتها من المكانة الاجتماعيّة القائمة على الإنجازات العلميّة والأدبيّة وغيرها، فحسب، بل تستمدّها، أيضًا، من اتّخاذ موقف نقديّ من ممارسات السلطات.

جاء استشهاد الأعرج ليضع عتبة معياريّة أعلى، وهي 'الاشتباك'، تلك اللفظة التي حضرت بحضوره وتكثّفت بغيابه، في المظاهرات المندّدة باستشهاده نتيجة التنسيق الأمنيّ الفلسطينيّ مع الاحتلال الإسرائيليّ، والتي شهدتها مدن وعواصم عربيّة عديدة، أمام المقارّ والقنصليّات الدبلوماسيّة لـ 'السلطة الفلسطينيّة'.

ومثلما كان ميدان التحرير قادرًا بعتبته القيميّة المعياريّة الثوريّة أن ينتج مثقّفًا (حتّى وإن طمسته مؤسّسة الدولة بعد ذلك، بأساليب القوّة الناعمة أو الصلبة)،  وخطابًا ثقافيًّا ممثّلًا لجماعة عضويّة 'مصريّة'، تستطيع بهما أن تتقدّم على زمانيّة ومكانيّة الدولة ومؤسّساتها، في تعريف وامتحان 'مصريّتها' ثوريًّا، كان الأمر نفسه في المسألة الفلسطينيّة، والتي أنتجت مثقّفًا وخطابًا ثقافيًّا مشتبكًا مثل نموذج الأعرج المنبعث من شريحة شبابيّة، قادرة على تجاوز كلّ التقسيمات الإدراكيّة التي أسّس لها الاحتلال من خلال أوسلو، ومن خلال خلق مؤسّسة فلسطينيّة وكيلة له، بل وإدراك فصائليّ وأيديولوجيّ ومناطقيّ لفلسطين والفلسطينيّ، في محاولة للاشتباك – بالمعنى النقديّ - مع سؤال 'من هو الفلسطينيّ؟'

فوق الهيجمونيا

باسل الأعرج الذي جمع بين الموقف المعياريّ/ الأخلاقيّ، والموقف العقلانيّ/ النقديّ، من دون أن يغلّب أحدهما على الآخر، في الارتقاء بوظيفته الاجتماعيّة مثقّفًا ينتمي لثقافته ومجتمعه، ولا ينفصل عن جماعته العضويّة فلسطينيًّا، والتي لم تستطع إلى الآن، وبصعوبة، أن تطمسها أدبيّات أوسلو وتآمر الجغرافيا وتواطؤ الأنظمة العربيّة ووكلاء الاحتلال على 'البلاد'، بأن فصلت بين غزّة والضفّة وأراضي 48 والمنافي. كان الأعرج قادرًا على الارتقاء فوق الهيجمونيا وتحوّلاتها.

الهيجمونيا لغةً، عند الإغريق، 'الانتشار والاكتساح بدافع إرادة القوّة والسيطرة'، ويحلّلها القدّيس أغسطينوس على أنّها 'شهوة السيطرة'، أمّا ابن خلدون فقد أسماها 'الاستبداد' و'الغلبة'. أنتجت الهيجومونيا (وهي في جزء منها نتاج للمركزيّة الغربيّة والعولمة) نعوتًا لآخرها محبطة، بين التخلّف والعجز والدونيّة، لبلدان في طريق النموّ أو نامية أو عالمثالثيّة، وهي نعوت انبنت على خلط واسع الانتشار في الرأي العامّ الغربيّ والعربيّ بين التخلّف المادّيّ – البنيويّ، والتخلّف الذهنيّ – الفكريّ، وهو الخلط الذي استبطنه عدد من مثقّفي العالم العربيّ، لينأوا بأنفسهم عن واقعهم، وليصعدوا أبراجًا عاجيّة تعطيهم الفرصة ليحاكموا شعوبهم وثقافاتهم، ويتنصّلوا من واجبهم الاجتماعيّ والعقلانيّ والمعياريّ/ القيميّ. فبعضهم، مثلًا، يقول إنّ من الخطأ وصف العالم العربيّ بأنّه يعاني من العنصريّة والجهل والتخلّف والذكوريّة، إلخ... لكن وجب القول – وفق هؤلاء - إنّ من يعاني فعلًا، قلّة قليلة من هذا المجتمع، أمّا البقيّة فمتآلفة مع هذه الأمراض ولا تسعى إلى أن تُشفى منها، ولا أن تواجهها، ولا أن تطلب عونًا من طبيب أو غيره.

ثمّة نَفَسٌ متعال في هذه المقولة على الشعوب العربيّة، لا تختلف في لا موضوعيّتها (والتعالي في ذاته غير موضوعيّ!) عمّن يحكم على هذه الشعوب، كونه 'مثقّفًا'، من خلال إحصائيّات معارض الكتب، وهي إحصائيّات كمّيّة لا نوعيّة. هذا التعالي لا يمكن أن يمتلك أرضيّة أخلاقيّة كافية لنسائله عن معتقلي الرأي والمختفين قسريًّا في بلادنا، ولمَ تزداد السجون وقوائم المختفين، ويتضاعف حجم المؤسّسات الأمنيّة، طالما أنّ قلّة قليلة هي من تأذّت بتلك الأمراض الاجتماعيّة؟ وهو منهم بالطبع.

هذا النفس المهدويّ (من 'المهدي المنتظر') يساوي بين عباءة الأب وعباءة الفقيه وعباءة المخلّص المثقّف/ النبيّ، الذي يعاني من أجل شعبه ومجتمعه، بينما هؤلاء لا يقدّرون قيمته وبعد نظره، وقد تحوّلت أنويّته وشعاراته إلى مركزيّة لاهوتيّة، فتحوّلوا إلى أصوليّين حداثيّين.

أليست مقولة الأعرج: 'ليست الصالونات الفكريّة والثقافيّة هي التي ستحرّر بلادنا، بل النزول للناس والشارع'، تضع الثقافة، بمعناها الإنسانيّ، بين يدي الأحوج والأقدر على التعبير عنها؟!

'إنّ ما يصنع المثقّف ليس التوجّه الذي يدفع إلى تجنّب اتّخاذ موقف، بل التوجّه الذي يدفع إلى اتّخاذه'، لا سيّما حين نرى هذا الحراك العربيّ ضدّ الظلم والقمع، وكمّ المعتقلات والسجون. وإذا كان لنا أن نقارن بين الخطابين في مواجهة الهيجمونيا، وأن نضع خطّ قياس/ معيار ، وهو مقولة 'إنّي أتّهم'، لوجدنا أنّ الأعرج يرتفع بالاتّهام الموجّه إلى الهيجمونيا إلى درجة الاشتباك من الأساس، وهو الشارع، بينما الخطاب الثقافيّ الآخر ينطلق من 'إنّي أتّهم' إلى العدميّة، وهو ما يتحوّل إلى موقف متعال ومحافظ يدعو إلى عدم فعل شيء، وإلّا اختلّ الميزان. هي وجهة نظر هويّاتيّة سلبيّة، كونها تعريف للذات بالسلب، فلولا أنّ تلك المجتمعات – في نظر أصحاب خطاب كهذا - مجتمعات وثقافات مريضة ولا تسعى إلى علاج، لما أمكن لهؤلاء أن يقدّموا أنفسهم مخلّصين ومعانين. هي، أيضًا، دعوة للاكتفاء بالنقد دون اختلال المعايير الرأسيّة، وإلّا اختلّ إدراكه لذاته وموقعه. بمعنى آخر، يؤسّس هذا الخطاب لمثقّف يتعالى على مجتمعه، حتّى وإن نقد مؤسّسة تتعالى على مجتمعها وتصفه بالأمراض والتخلّف والرجعيّة وغيرها.

مَنْ منّا ينسى مقولة عمر سليمان، نائب الرئيس المصري المخلوع، حين وصف الشعب المصريّ بأنّه لا يعي ما هي الديموقراطيّة، وأنّه غير جاهز لها بعد، حتّى في وقت يقدّم الشعب فيه الشهداء والمعتقلين والنماذج الثقافيّة والديموقراطيّة والمؤسّساتيّة المميّزة.

التوبارموس

الأعرج، الذي كان مأخوذًا بحركة 'التوباماروس' النضاليّة في أمريكا اللاتينيّة، بالتوازي مع دراسة بنية النظام الاستيطانيّ الاستعماريّ الصهيونيّ، لم يكن بذلك، أبدًا، مثقّف صالونات ومقاه وندوات، أو مصابًا بالنزوع الاعتزاليّ وقصوره العاجيّة، ولم يعرّف نفسه بالسلب والرأسيّة.

بهذه الدرجة من الاشتباك تمكّن الأعرج، وفقط بها، من التغلّب على مرضين شديدين للمثقّف: الاغتراب والنفي، والاصطفاء الناتج عنهما. فقد حوّل غربته الفرديّة الاجتماعيَة إلى دافع لبناء زمانيّة ومكانيّة من بنية جماعته الفلسطينيّة الواقعة تحت الاحتلال، تنفتح له وللآخر، بأن حرص على مسافة نقديّة، أفقيّة منفتحة لا رأسيّة متعالية من العصبيّات والتحزّبات والفصائليّات والأيديولوجيّات، وغيرها من الفضاءات التي تحوّل الجماعة العضويّة إلى وظيفيّة في خدمة المؤسّسة والسلطة، ما جعله ابن مجتمعه وثقافته قبل أن يكون مثقّفهما. ولعلّ هذه النقطة تحديدًا، ما تفسّر بعضًا من اهتمامه بـحركة 'التوباماروس' النضاليّة؛ 'فالتوباماروس' كما يقول ريجيس دوبريه، 'ظاهرة خاصّة، فمن المعروف أنّهم لم يدّعوا أبدًا إعطاء دروس أو تأييد فكرة أو إملاء قواعد منهجيّة عامّة على أحد، لكن علينا ألّا نكون مغفلين، فنتقيّد بحرفيّة تواضعهم، بل على العكس، علينا أن نخترق أعماق الحرب لنستأصل الجوهر الحيويّ (...) فليس للأسماء أهمّيّة لأنّ ’التوبامارو‘ إذا كان يحتلّ موقعًا قياديًّا، أو إذا كان مجاهدًا بسيطًا، لا يمكن أن يتكلّم عن ذاته إلّا بصيغة جمع المتكّلم، فيقول ’نحن‘ أو ’الرفاق‘ أو ’هم‘، فهذا الصوت الجماعيّ الذي لا اسم له، الدقيق الصافي، الجافّ والساخر حينًا، والرقيق والرصين حينًا آخر، هو البرنامج السياسيّ والأيديولوجيّ، وهو أيضًا طريقة الحياة و الموت. (...) إنّ الذي يجب أن يفهمه كلّ من يريد أن يدخل في الحركة، وهذا عمومًا صعب للغاية، هو أنّ الثورة تتحقّق في ميادين صغيرة ودائمة، وأنّ الحدث البطوليّ ابن ساعة واحدة، في حين أنّ الأعمال المملّة التي تبدو بدون عظمة، هي الأكثر عددًا. فإذا فهم المناضل هذا يكون قد فهم الأساس. (...) إنّ الممارسة الدائمة في هذه اللحظات الاستثنائيّة الحادّة والمحكمة، التي تعبّر عنها العمليّات نفسها، والأشياء الوضيعة التي يكرّس لها الثوريّون وقتهم، والمواظبة الدائمة والمنهجيّة في تزوير السيّارات والبطاقات وأوراق الهويّة، وفي التنكّر والتقنّع، هي سبب نجاحها'.

إذا لم يكن معنًى واضح لمقولة 'المثقّف النقديّ'، باعتبار أنّ النظريّة الاجتماعيّة بطبيعتها نقديّة، أي تحليليّة، وأنّ النقد يوجّه، عادة، إلى عالم الأفكار، فيمكن نقد أيديولوجيا أو نظريّة ما، أمّا نقد العلاقات الاجتماعيّة، فهو الفعل الإراديّ ذاته، ويبدأ هذا الفعل بالموقف، فإنّ نقد البنية الاجتماعيّة لا يكون على مستوى الأفكار، فقط، إنّما الفعل، أو ما أسماه الأعرج 'الاشتباك'، والذهاب إلى هذا الاشتباك بكامل الإرادة والثقافة معًا.

وكما كانت 'مجادلات التوباماروس هي عمليّاتهم!' كانت ثقافة وإرادة الأعرج 'اشتباكه'، و'بارودته' التي تعرّي القبيح وتحمي الجميل فينا.

(إلى روحك الحاضرة دومًا، إلى صديقي باسل الأعرج، وكلّ شهدائنا/ شهيداتنا).

 

عبد الله البيّاري

 

 

طبيب وباحث أكاديميّ فلسطينيّ، متخصّص في النقد الأدبيّ والدراسات الثقافيةّ، وله مقالات وبحوث منشورة في صحف ومواقع ومجلّات عربيّة.