تفكيك كولونياليّة الرغبة: سياسات الحبّ

ثلاثة ذكور بيض، وامرأة سوداء، لوحة لكريستيان فان كوينبيرغ 1632

ما الذي يعنيه أن تكون/ ي محبوبًا/ محبوبة؟ من يستحقّ/ تستحقّ أنواعًا محدّدة من الحبّ، ومن لا يستحقّ/ تستحقّ؟ كيف يُبنى 'الحبّ' وكيف يُعاد إنتاجه؟ ما الغائب، ومَنْ، حين يحضر الحبّ؟

 

بقلم داليا غابرييل

13 شباط (فبراير) 2017

ترجمة د. عبدالله البياري

 

تتفحّص الكاتبة داليا جابرييل الخطاطات الكولونياليّة التي تبني فيها 'الجماعات البشريّة'، ومن خلالها، إمكانيّة الحبّ، متضمّنةً في أنظمة الخطاب الخاصّة بالحبّ، والرغبة، والانضباط العاطفيّ، وهي رموز ذات قيم اجتماعيّة، موسومة لأجساد بعينها؛ تلك التي تستحقّ أن تُعشق وتُحبّ، وأن تُصوّر ضمن هذه الأنماط. أمّا الجهد التفكيكيّ للبنية الكولونياليّة التي تُهندس أنماط التمثيل تلك، فهو نموذج بنيويّ، وبالتالي، يستلزم تناول التاريخ المادّيّ له.

***

'المرأة الشرقيّة ليست أكثر من آلة، لا يمكنها التفريق بين رجل وآخر؛ تدخّن، ترتاد الحمّامات العامّة، تلوّن رموش عينيها، وتحتسي القهوة – حيث دائرة هذه المهامّ تقع في مجال وجودها... والذي يجعل هذه المرأة، بشكل ما، جميلة، هو أنّها تنحو، بشكل ما، إلى الحالة الطبيعيّة'.

غوستاف فلوبير عن المرأة المصريّة.

 'أنا مهووس بشدّة، لدرجة أنّني أرغب في ارتداء بشرتكِ كأنّني أرتدي قطعة من فرساتشي'.

كيت بيري، مقتبسة عن جمهور يابانيّ في مقابلة مع جيمي فالون.

'اليوم، أؤمن بقدرة الحبّ، لهذا السبب أسعى لتتبّع عيوبه، وانحرافاته'.

فرانز فانون، بشرة سمراء أقنعة بيضاء.

 ثمّة تنامٍ في النقاش حول ما أسمته آفريل كلارك بـ 'التفرقة في الحبّ'؛ ففي كتابها، تستخدم كلارك بيانات الإحصاءات الوطنيّة، والمقابلات الشخصيّة القائمة على التوزيع الإثنيّ، لتكشف فرادة الصعوبات التي تواجهها امرأة جامعيّة سوداء في بحثها عن علاقة رومانسيّة وزوجيّة، بالمقارنة مع مَنْ يقابلنها من الأصول الإسبانيّة. عام 2014، نشر موقع OkCupid بيانات تكشف أنّ 'معدّل الاستجابة' في المواعدات الغراميّة يتأثّر بنوعيّة 'التصنيف العرقيّ' للأفراد؛ فثمّة فائضٌ من المدوّنات، والموادّ الفكريّة، لنساء ملوّنات بخاصّة، توّثق التجارب الصادمة والمهينة خلال المواعدة والجنس، والتي تحدث، تحديدًا، من خلال 'التصنيف العرقيّ' للفرد ومعه. الكاتب يونات دياز، والمحسوب له الفضل في نحت مصطلح 'التفكيك الكولونياليّ للحبّ'، يكشف في روايته 'مونسترو'، تفاصيل رحلة بحث فتاة نصف هاييتيّة نصف دومينيكانيّة - ونعم، نعني 'بحث' عن الحبّ - في عالم يضمن لها كفتاة مصنّفة عرقيًّا، ألّا تُعشق ولا تُحبّ'. أن نحوز 'الاهتمام' على مواقع المواعدة، طبعًا، أو نكون متزوّجين، ليست علامة ضامنة لأن نكون محبوبين. ما تقوله لنا كمّيّات المعلومات تلك، والسرديّات الشخصيّة، على أيّ حال، هو إنّ 'العرق' يبني، على نحو أساسيّ، تجربتنا في الرغبة، والارتباط، والاحترام أيضًا.

نتائج بحث OkCupid 2014

الممارسة الاجتماعيّة الأوّليّة/ الأساسيّة للحبّ، في المواعدة والزواج، كانت من خلال آليّتين اثنتين؛ أوًلًا: المعياريّة الجندريّة (التقابل الجندريّ/ التقابل في النوع الاجتماعيّ)، وثانيًا: قاعدة 'الشريك الواحد'؛ في حين أنّ ثمّة نقاش راديكاليّ، مهمّ واضطّراريّ، بشأن القمع المُتضمّن في بنية هذه العلاقات، وأنّها تسير وفق توزيع الأدوار العاطفيّة، بناءً على الأدوار الجندريّة غير المتكافئة.

 ما يثير اهتمامي هو البحث، عميقًا، في ما هو معنى أن تكون/ تكوني مميّزًا/ مميّزة في هذه الأنماط الخطابيّة الإشكاليّة للـ 'حبّ'. فالاستثناء من هذه الأطر، ليس بالضرورة مرادفًا للتحرّر؛ فهو، في حدّ ذاته، نوع من القمع العرقيّ، أيضًا.

حين أُعيد النظر في تجربتي، تتبدّى لي انهيارات فضولي الجنسيّ المراهق بسبب خليط من الانكشاف الجسديّ الكامل في الغالب، والاستهانة به، أيضًا. تعلّمت مجموعة من الدروس الصغيرة من الأفلام، والتلفاز، والتجربة الشخصيّة، شكّلت في مجموعها فهمي لمن هم مثلي، ممّن لا يمكنهم/ نّ أن يكونوا/ نّ 'موضوعةً للحبّ'. لو حالفنا الحظّ، صرنا موادّ للفيتش(1)، لكن هذا يختلف، تمامًا، عن أن نُدْرَكَ بصفتنا محبوبين/ محبوبات.

المنسيّ، عادة، بشأن الديناميّات العرقيّة في 'الحبّ'، وفي 'أن تكون/ ي محبوبًا/ محبوبة'، هو السؤال: من أين تأتي تلك الترميزات – عمّن يمكنه/ يمكنها أن يكون/ تكون محبوبًا/ محبوبة، ومن منّا حبّه/ ا أهمّ؟ من أين لقواعد الرغبة العرقيّة كلّ هذه القوّة؟ حتّى أنّ فنون 'البورنو' الإباحيّة باتت خاضعة للتصنيف العرقيّ، أيضًا!

في مقالتها عن سياسات الجنس الكولونياليّة، تكشف ساندرا بونزينسي، كيف أنّ الصورة المتطابقة جنسيًّا بين 'الحريم' و'الهوتنتوت'(2)، قد أطّرت أنماط التمثيل كلّها لنساء أفريقيا و'الشرق' (المتعارف عليه الآن بـ 'الشرق الأوسط')، في الفنّ والأدب الأوروبيّين، خلال القرن التاسع عشر. ففي تلك الخطاطات الكولونياليّة، نعثر على جذور قواعد التصنيف العرقيّ التي نتحدّث عنها، ونبدأ بتفكيك علاقات القوى التي تنتجها. والأهمّ، يمكننا بناء 'مفهوم' حول تمثيل 'الحبّ'، كمملكة متعالية وغير مُسيّسة، من الانجذاب الذي نقع فيه بلا قصد، وكيف أنّها خضعت، فعليًّا، لعمليّات تسييس مرتبطة ببنى واسعة من العنف، الذي تواجهه النساء الملوّنات عالميًّا.

الحريم – لوحة لفريدريك آرثر بيرديجمان 1904

في بنية 'خطاب الحبّ'، ثمّة ترميزات ذات قيم اجتماعيّة مرتبطة بأجساد بعينها؛ حول 'أيّ جسد يستحقّ الحبّ؟' الهوتنتوت والحريم في مقالة بونزينسي نموذجان مختلفان لتحديق(3) الشهوة. الحريم، عادة، يتمثّل من خلال مجموعة من أجساد النسوة الملوّنات، تُرى بعين متلصّصة، حيث تُخلق الإثارة من التلميح إلى أنّ فعاليّة تلك الأجساد الجنسيّة 'مغلقة بالمفتاح والقفل'، وتكون أجساد هؤلاء النسوة، عادة، مكسوّة بالقليل من الملابس الخفيفة، كما أنهنّ لا يعلمن أنهنّ مُراقبات. الإثارة الإيروتيكيّة، هنا، تنبع من إمكانيّة رؤية أجساد تقع خارج حدود التملّك الذاتيّ للعين الرائية، وعلى العكس من ذلك هو الهوتنتوت؛ فتمثيل النسوة فيه يؤسّس لنموذج فريد من التذويت (إنتاج 'الذات')، حيث التركيز على التفاصيل الدقيقة والاقتحاميّة التي تنزع الآدميّة عن الجسد الأنثويّ. والنموذج الأساس في سرديّة الهوتنتوت هو، طبعًا، نموذج سارة بارتمان، المرأة الجنوب إفريقيّة من جماعات 'خويخوي'، والتي ارتحل جسدها، في القرن التاسع عشر، عبر أوروبا كلّها تقريبًا، مع 'السيرك الأوروبيّ'، وعُرض بصفته جسدًا جوهرانيًّا ممثّلًا لكلّ الأجساد الأنثويّة الأفريقيّة، و'ذاتًا' تعكس حالة الانبهار الأوروبيّ. لم تنج بارتمان، حتّى بعد موتها، من الكراهية العرقيّة للنساء، والمستبطنة في التحديقة الأوروبيّة للمرأة الأفريقيّة الملوّنة؛ فدماغها، وهيكلها العظميّ، وأعضاؤها الداخليّة الجنسيّة بقيت معروضة في متحف باريسيّ حتّى عام 1974، أي بعد أكثر من مئة وخمسين عامًا على وفاتها عام 1815(4).

ما يربط بين النموذجين هو الاختزال التامّ للشخصيّة إلى حدود المادّيّ منها، فالهوتنتوت صامت، صورة ثابتة غير متحرّكة؛ نماذج شرح مهمّة لتدعيم عرض ما. أمّا نساء الحريم السمراوات، فأجسادهنّ مواقع للمغامرة، واكتشاف للذات، لتوثيق المغامرات والرحلات الذاتيّة، والهيمنة في بنية السرد الكولونياليّ.

 في تأمّلات إدوارد سعيد العبقريّة والعميقة في ما يتعلّق بالمواجهة بين فلوبير وكشك هانم، غانية الأغنياء – النموذج الأكثر تأثيرًا للمرأة الشرقيّة -، لا يمكن لنا إلّا أن نقتبس:

       'هي لا تتحدّث عن نفسها أبدًا، لا تسمح لنفسها بأن تُظهر عواطفها، بشكل حاضرٍ أو تاريخيّ. هو يتحدّث عنها ويقدّمها... المرأة الشرقيّة فرصة ومناسبة لفلوبير لتقديم أفكاره، فتثيره باكتفائها الذاتيّ، وسلبيّتها العاطفيّة، وكذلك في استلقائها إلى جانبه، فتسمح له بالتفكير أعمق'.

يمكن فهم الانجذاب الأوروبيّ للأجساد الكولونياليّة، في الحريم والهوتنتوت، من خلال مفارقة كراهية تلك الأجساد. الهوتنتوت - تلك الأيقونة المميّزة لأهمّيّة القرن التاسع عشر -، كان على الدوام مرتبطًا بالفنون، والآداب الطبّيّة، عن النشاط الجنسيّ المفرط الخارج عن السيطرة، والذي يُصَوَّر بصفته مرضًا عضويًّا عضالًا؛ فالرسومات الشارحة للفرج لدى النساء الأفريقيّات بُنيت على أساس إظهار أنّ البظر والشفرتين تفاصيل 'بالغة النموّ'، علامةً على إفراط بيولوجيّ جنسيّ في الجسد، وإثباتًا لطبيعة حيوانيّة مرضيّة. هذه العنصريّة العلميّة تجاه النساء الأفريقيّات، أُنتجت، بشكل كامل تقريبًا، إلى جانب تصوير أعضائهنّ ونشاطهنّ الجنسيّ، على نحو يختلف عمّا حدث مع الرجال الأفارقة. الأمر ذاته في تصاوير فلوبير للحريم؛ فالنشاط الجنسيّ للمرأة الشرقيّة التي هي كـ 'الآلة'، يصنّفها 'بدائيّة'. ففلوبير يتحدّث عن الروائح المثيرة للغثيان، لحشرات السرير، التي تحيط بها – ويعني 'المرأة الشرقيّة' -  وكيف أنّ هذه الحالة الجنسيّة 'هي التي تنحو بها إلى الحالة الطبيعيّة'.

نموذج الهوتنتوت المبدئيّ في الخطاب الكولونياليّ، أواخر القرن السابع عشر، يمكن تطبيقه بسهولة على الأيديولوجيا العنصريّة، والحاجات المادّيّة المطلوبة في أمريكا من العبيد بصفتهم/ نّ أملاكًا مادّيّة، إذ كانت حاجة إلى عدد كبير من العبيد لتغطية الحاجة المتزايدة إلى العمالة، فكان التعامل مع الرجال والنساء السود، بصفتهم/ نّ سلعة أدنى من بشريّة. وفي ما يتعلّق بالنساء، فقد كان هذا الأمر، تحديدًا، مبنيًّا على قدرتهنّ الإنجابيّة، وما يترتّب عليها من إمكانيّة زيادة العبيد، وبالتالي زيادة أرباح ورأسمال مالك العبيد، من خلال أجيال متلاحقة منهم/ نّ. كانت النسوة يُغتصبن بشكل روتينيّ من أفراد طاقم الرحلة العابرة للأطلنطيّ أثناء نقلهن للأمريكيّتين، وفي المزادات العلنيّة للعبيد، كانت القدرات الإنجابيّة والخواصّ الجنسيّة للنسوة محلّ تفضيل من الزبائن، بصفتها علامات جيّدة على الاستيلاد والتلقيح. أمّا عمليّات 'التلقيح' القسريّ مع العبيد الذكور، فقد كانت أمرًا شائعًا.

لوحة للويس فرانسوا شارون 1815

هذه الصيغة من انتهاك إنسانيّة النساء، عبر السلوكيّات الممأسسة للاغتصاب، انعكست بشكل أكبر وأوسع على تعامل النظام (الدولة ومؤسّساتها) مع أجسادهنّ. فخلال الاستعباد، لم يواجه اغتصاب النساء السوداوات – كما هي الحال مع النساء من السكّان الأصلانيّين - قانونيًّا؛ وفي حين أنّ النساء البيضاوات كنّ يحاربن ضدّ انتهاك الموافقة الزوجيّة في مؤسّسة الزواج، مُنعت النسوة الملوّنات من دخول قاعات المحاكم. حتّى بعد إلغاء العبوديّة، بقيت تلك التشريعات قائمة، تحديدًا في الجنوب، فكان الرجال السود يتعرضّون للتجريم والتعنيف باسم الدفاع عن النساء البيض، فيما النسوة السوداوات كنّ يكافحن من أجل أن يُعرّف العنف الواقع عليهنّ – وتحديدًا من الذكور البيض - بصفته عنفًا.

تصوير النسوة السود بصفتهنّ ذوات طبائع حيوانيّة مفرطة جنسيًّا، أخرجهنّ من أيّ موافقة على منحهنّ تعريفًا جنسيًّا مستقلًّا لذواتهنّ، وبرّر غياب أيّ دعم قانونيّ أو اجتماعيّ لضحايا الاعتداءات والعنف منهنّ.

عمليّة إنتاج الجسد الأنثويّ وفق العرق، كولونياليًّا، وأثناء فترة الاستعباد، بصفته دنسًا، وحالةً من الشبق الجنسيّ، وأقرب للطبيعة، كانت من خلال حالة مفترضة من التقابل مع طهر ونقاء النساء الفيكتوريّات، اللائي كنّ مرتبطات بالحيّز الخاصّ من البيت وما فيه من ألفة وتدجين، كما يقول بيل هوكس في 'ألست أنا امرأة':

'الانتقال من صورة المرأة البيضاء الطاهرة الفاضلة إلى السوداء الشبقة الخاطئة، حصل بتزامن مع الانتهاك الجنسيّ الجماعيّ للنساء السوداوات المستعبدات. وكما كانت صلابة البنية الأخلاقيّة في المجتمع الفكتوريّ الإنكليزيّ قادرة على خلق مجتمع يمجّد المرأة الأمّ، والمُعينة للذكر، فكذلك خلقت بنية الدعارة التحتيّة'.

تمثيل النساء الهامشيّات في المجتمع - كعاملات الجنس والكويريّات (5) -، كان، فعليًّا، من خلال أنماط إنتاج مشابهة.  فكتاب في طبّ النساء والولادة في القرن التاسع عشر، للجرّاح ثيودور بيلروث، يربط بين الأشكال النمطيّة للإفراط في النشاط الجنسيّ والنسوة الأفريقيّات، تحديدًا، وهذا 'الإفراط' هو 'ما يُسمّى الحبّ المثليّ'. تنبّهنا ساندر غيلمان، على نحو مشابه، في كتابها المميّز 'أجساد سوداء، أجساد بيضاء'، إلى أنّ التوجّه للعمل في 'الخدمات الجنسيّة' يحدّد بيولوجيًّا، حيث مجموعة سلوكيّات فيزيولوجيّة تورث الإفراط في النشاط الجنسيّ، وهو ما يدفع النساء إلى العمل في الخدمات الجنسيّة. وبالتالي، فإنّ العاملات في الخدمات الجنسيّة يُنظر إليهنّ بصفتهنّ مسألة 'صحّة عامّة'، مرتبطة بالتلوّث في المدن.

'أوليمبيا' لإدوارد مانيه 1865

ما يربط بين هذه الكيانات النسائيّة المهمّشة وغير المرغوب بها، جميعًا، أنّها كيانات خطابيّة مبنيّة بصفتها مضادّة لخطاب الحبّ والرومانسيّة والزواج والعائلة. أجسادهنّ انبهارات ومغامرات وفضائح وأمراض، ما يعني أنهنّ، كموضوعات للحبّ، لسن مستحقّات لأيّ انضباط عاطفيّ مُتضمّن في أيّ التزام، كالزواج والحبّ والرومانسيّة.

أمّا الانحراف الجنسيّ والانهيار الأخلاقيّ للنساء البيضاوات، فكان يُشار إليهما، عادة، من خلال التقارب مع جسد أسود أو بنّيّ آخر. في تمثيلات النساء الأوروبيّات، بداية من القرن الثامن عشر، كانت تلك وظيفة مركزيّة للأجساد الملوّنة في الفنون. يحيلنا غيلمان إلى لوحة إدوارد مانيه الشهيرة، 'أوليمبيا' (1865)، وفيها رسم امرأة بيضاء عارية، ممدّدة على سرير، تقوم على خدمتها خادمة سوداء، بصفتها – اللوحة - نموذجًا مبدئيًّا لهذا المجاز. أثارت اللوحة الغضب، أخلاقيًّا، حين عرضها للجمهور، وذلك لتضمّنها العديد من العلامات، منها حضور جسد أسود يمثّل المحرّم في التمثيل، في حين لم تقدّم أعمال فنّيّة أخرى، محايثة لـ 'أوليمبيا'، ما قدّمته الأخيرة.

 

ضُمّن إرث تلك الخطاطات الكولونياليّة، اليوم، بشكل كبير في الثقافة المعاصرة؛ التلفاز، والأفلام، والموسيقى المصوّرة، ما أتاح له انتشارًا أكبر، وتحديدًا في الغرب. حتّى عندما يُغطّى ذلك بعباءة العاطفة، فإنّ اللغة التي نتحدّث بها عن الرغبة يحاصرها الكثير من 'التشييء العرقيّ'، وإلّا فما الفرق بين قصيدة الملحّن والمغنّي الإنكليزيّ دايفيد بوي، التي يغنّيها لـ 'فتاته الصينيّة'، إذ يقول: 'يمكنني التخلّص من هذا الإحساس مع فتاتي الصينيّة/ أشعر بالضعف من دون فتاتي الصينيّة الصغيرة'، وغرق فلوبير – كما يقول - 'في المناسبات والفرص المتاحة' في جسد كشك هانم، الملقى إلى جانبه، والذي 'يسمح له بأن يفكّر'؟

كان التبرير النسويّ للحرب على العراق، بشكل مماثل، مغلّفًا بلغة الحبّ والتضامن لمن لا صوت لهنّ من النساء، كما هي الحال مع كشك هانم التي 'لم تكشف عن مشاعرها ولا وجودها ولا تاريخها'.

من النماذج المشهورة، أيضًا، نجمة البوب الأمريكيّة مايلي سايرس، ومحاولاتها تقديم نفسها بشكل صارخ أكثر، خروجًا عن صورتها كمراهقة وطفلة ديزني الصالحة، ما استلزم منها تغييرات استراتيجيّة حادّة في 'صناعة صورتها'، بما في ذلك أزياء وكلمات أغانٍ أكثر إثارة. وكما في حكاية قديمة قِدم الإمبرياليّة نفسها، أحاطت نفسها براقصات سوداوات. ولا أستغرب صدمتها العميقة حين قالت: 'تلك ليست حليّي أنا، بل هي بمثابة منزلي'، فمن خلال المنطق الخاصّ بها، تعبّر هكذا عن حبّها للـ 'نساء السوداوات'.

المطربة الأمريكيّة مايلي سايرس في أحد عروضها الغنائيّة 2013

ماذا يمكننا أن نستنتج من كلّ هذا؟ عندما نتأمّل حبًّا مفكّكًا للبنية الكولونياليّة، فلن يكفينا أن نتمسّك بسلوكيّات الذوق العامّ، فالإشكاليّات المتعلّقة بانتهاك الإنسانيّة 'والفيتيش' لم تبدأ من العلاقات الفرديّة، لكنّها انكشفت لنا من خلال سياقات رومانسيّة وجنسيّة، ولن تنته عند الأفراد، فقد بدأت من خلال منظومة تمثيلات أنتجتها علاقات القوى؛ علاقة وُجدت لأجل السيطرة على الموارد والاستثمار المادّيّ للأجساد. ستغذّي سياسات الهجرة، والعمالة، وتوزيع الموارد، لاحقًا، هذه البنية الهرميّة (الهيراركيّة) العرقيّة للرغبة. أمّا الجهد التفكيكيّ للبنية الكولونياليّة التي تُهندس أنماط التمثيل تلك، فهو نموذج بنيويّ، وبالتالي، يستلزم تناول التاريخ الماديّ له.

لنؤمن – كما يقول فرانز فانون – بقدرة الحبّ، علينا إدراك حقيقة أنّنا لا نسقط هكذا، ببساطة، في الحبّ، بل إنّنا نخضع لعمليّات ترميز فيه، وخارجه، ولذلك تداعيات تتخطّى تجاربنا الشخصيّة.

..........

الهوامش:

* العنوان الأصليّ للمقال:

Decolonising Desire: The Politics of Love

** داليا غابرييل، كاتبة متفرّغة ومنسّقة حملة 'تفكيك الحدود' (Undoing Borders). تقوم، حاليًّا، على تحرير عدد خاصّ من 'المادّيّة التاريخيّة' بشأن 'سياسات الهويّة'، كما تعمل على نصوص 'تفكيك الكولونياليّة' في الجامعات.

رابط المقال بالإنكليزيّة.

 (1) الفيتش Fetish: تحويل الكيان المادّيّ أو المعنويّ إلى كيان وثنيّ صنميّ في حالة من اللافاعليّة/ السلبيّة المادّيّة، وإسقاط مجموعة من القيم والرموز والمعاني عليه [المترجم].

 (2) الهوتنتوت: الاسم الذي أطلقه الرحّالة الأوروبيّون البيض على مجموعات الـ 'خويخوي' الأفريقيّة في القرن السابع عشر، ويُعتقد أنّ أصل التسمية ألمانيّة، وحاليًّا، تُعدّ تلك التسمية عنصريّة، لما تحمله من مضامين استعماريّة وداروينيّة [المترجم].

(3) التحديقة The Gaze: مفردة نُحتت في سبعنيات القرن المنصرم، تشير إلى وضع خاصّ، يعالج تبادل النظر في عالم السينما والفيلم، حيث يكون/ تكون المشاهد/ ة في مرحلة النظر وإسباغ المعنى على المشهد أمامه/ ا، باعتباره/ ا الذات الفاعلة [المترجم].

(4) جدير بالذكر أنّ المركزيّة الأوروبيّة لم تستطع التنازل عن الإرث العنصريّ والإمبرياليّ في ما يتعلّق برفاة سارة بارتمان، حتّى أنّ حكومة جنوب أفريقيا لم تتمكّن من استعادة رفاة بارتمان إلّا بالقانون والمحكمة الدولّيين ضدّ دولة فرنسا وحكومتها، فكان أن تسلّمت الرفاة أوائل القرن الحاليّ فقط [المترجم].

(5) يترجم قاموس المورد كلمة Queer بأنّها: غريب، غير مألوف، شاذّ، مهووس بـ ، منحرف جنسيًّا، لوطيّ، مشتهي المماثل. بينما في كتاب 'الدراسات الثقافيّة: مقدّمة نقديّة' لسايمون ديورنغ، فإنّ Queer تعني 'اللانمطيّة'، إلّا أّننا نفضّل كتابتها 'كويريّة'، تحسّبًا لغياب ترجمة عربيّة أكاديميّة ونقديّة معتمدة [المترجم].

(6) 'نسائيّة': تعني النسويّة، هنا، أنهنّ مجموعة نساء، وليس مجموعة ذات توجّه نسوي نقديّ [المترجم].

 

د. عبد الله البيّاري

 

 

 

 

طبيب وباحث أكاديميّ فلسطينيّ، متخصّص في النقد الأدبيّ والدراسات الثقافيةّ، وله مقالات وبحوث منشورة في صحف ومواقع ومجلّات عربيّة.