ميثاق "حماس": ما الذي نتعلّمه من تاريخ "التعديلات"؟

خلال زيارة خالد مشعل إلى غزّة عام 2012

لم تأت 'وثيقة حماس الجديدة' بجديد، بل توّجت 'الجديد' الذي بدأ تشكّله، رسميًّا، في انتخابات 2006. مَنْ قرأ برنامج حماس الانتخابيّ، وقتها، لم يفاجئه الميثاق الحاليّ، هذا من دون تتبّع للممارسة نفسها؛ لذلك، يبدو الميثاق تأريخًا أكثر من كونه تأسيسًا لما هو قادم. من المهمّ، في كلّ الأحوال، أن تَضَعَ أمام الجميع وثيقة تشرح فيها نفسك، لا سيّما أنّ الميثاق القديم لم يعد يعبّر عن 'حماس' اليوم.

'التعديل': كيف صار اللفظ مشبوهًا؟

نحتاج لأدوات نقديّة وتحسّس المسدّس، معًا، حين نسمع أنّ أحدهم يريد أن 'يعدّل ميثاقًا ما'؛ هذا التعبير، بحدّ ذاته، يحمل ذاكرة غير محبّبة لدى الفلسطينيّين، كما أنّ كلّ الذين سبق وعدّلوا ينتظرون تعديلك، وهو، مهما كان، تعديل في النهاية، وهذا، بحدّ ذاته، كافٍ للتدليل على صوابيّة تعديلهم هم، والمزاودة عليك، أيضًا، لأنّك تأخّرت في استنتاج ما سبق أن استنتجوه. هكذا يبدو موقف حركة 'فتح' من ميثاق 'حماس' الجديد.

'فتح'، التنظيم الوحيد، فلسطينيًّا، الذي استطاع أن يكون 'أمّ الجماهير'، أي أن يعمّم تجربته على الفلسطينيّين، بطريقة أو بأخرى؛ كلّ من يفكر سياسيًّا بعد 'فتح' يغرف ما كثر أو قلّ من ميراثها، ولذلك، فإنّ تفحّص تاريخها ضروريّ باستمرار، إذ يشرح لنا، وعلى نحو تراجيديّ، لماذا تبدو كلمة 'تعديل' مشبوهة السمعة لدينا.

لقد استمرّت 'فتح' في إعادة إنتاج نفسها على شكل 'مواثيق' و'مبادرات' موزّعة على سنوات طويلة، حتّى تفتّتت واختُزلت إلى ماهي عليه اليوم.

ياسر عرفات خلال الإعلان عن ميثاق الجزائر عام 1988

طرح الميثاق القوميّ الفلسطينيّ، عام 1964، 'استعادة فلسطين كاملة'، وما إن مرّت أربع سنوات حتّى جرى التعديل الأوّل تحت شعار 'الدولة الفلسطينيّة الديمقراطيّة التي يتعايش فيها العرب واليهود'. ويبدأ الميثاق القوميّ الفلسطينيّ ذو النزعة التحرّريّة في التآكل من أطرافه، ليصبح، عبر السنوات، محض سلطة فلسطينيّة تبنّت شعار 'الدولة الفلسطينيّة المستقلّة' عام 1983. وقد طُرحت، بالتزامن، إمكانيّة التواصل مع من أسمتهم، وقتها، 'القوى اليهوديّة التقدّميّة'. كان التآكل آخذًا في الازدياد، حتّى أعلن عن نفسه في ميثاق مؤتمر الجزائر عام 1988، الذي قبل بدولة فلسطينيّة مستقلّة في حدود الرابع من حزيران، والاعتراف بدولة 'إسرائيل'، وحلّ النزاع بالطرق السلميّة... ووُضعت آخر اللمسات في التعديل على الميثاق الفلسطينيّ عام 1998، بحضور الرئيس الأمريكيّ بيل كلينتون.

السياسة تجري خارج 'المناكفة' و'المزايدة'

ونحن نعلم، اليوم، أنّ الذين يريدون التقدّم لخلافة محمود عبّاس يطرحون قدراتهم على شكل 'كفاية أمنيّة' (كما فعل هو سابقًا)، أي أنّنا أمام برنامج أمنيّ مكتفٍ بذاته، بعد أن اكتفت السلطة من نفسها، ومن السياسيّ، بتحوّلها إلى شركة أمنيّة. السياسيّ، كأفق تفكير، أُغلق في حركة 'فتح'، وحتّى يشاء الله خلاف ذلك، علينا أن نكون أمينين كفاية في تصنيف مداخلتها حول ميثاق 'حماس' في إطار 'المناكفة'.

أمّا مداخلة اليسار حوله، فيبدو أنّه واقع في إطار 'المزايدة'، ذلك لأنّه ثابر على دور شاهد الزور في مسيرة التعديل أعلاه، وللأمانة، كان يتغيّب عن جلسات التعديل أحيانًا. لكن يمكن للمرء أن يغيب عن الجلسات بسبب وعكة صحّيّة، أيضًا، ولا أدري كيف يمكن أن نَعُدَّ ذلك موقفًا سياسيًّا!

الشعبيّة، مثلًا، كانت تهلّل لخطوات أبو مازن في الأمم المتّحدة، مؤخّرًا، وهو سقف أخفض من سقف 'حماس' اليوم، بلا شكّ.

نقرّر هذه الحقائق الضروريّة لنقول إنّ النقاش ينبغي أن يتجاوز أرضيّتي 'المناكفة' و'المزايدة'، لأنّ السياسة تجري خارجهما.

الوفاء المستمرّ للهاوية

 إذا افترضنا أنّ 'التعديل' يتضمّن صيرورة حتميّة للتنازل، فإنّنا نعفي حركة 'فتح' من المسؤوليّة التاريخيّة، على اعتبار أنّ صيرورة التاريخ تبدأ في الانحدار لحظة 'أيّ تعديل'، وبذلك، ما من مسؤوليّة تاريخيّة مترتّبة على اتّفاقيّة أوسلو وما تلاها، ذلك لأنّ التعديل الأوّل قد جرى سلفًا، وما يجري اليوم هو الوفاء المستمرّ للهاوية، ليس أكثر.

محمود عبّاس في الأمم المتّحدة

لا يوجد علاقة حتميّة بين 'التعديل' و'التنازل'؛ نضع هذا التفريق اللغويّ، والذي يصلح للاستخدام على نحو متبادل ممّن يرغب بالتنازل، وممّن لا يرغب، على حدّ سواء، لكنّه مهمّ لبداية النقاش. 

لحظات التعديل لما هو سياسيّ لا تبدأ من الوثائق، إنّما من لحظات 'انكسار' أو 'تدفّق' الإرادة؛ تتعب الأيديولوجيا من نفسها فتقترح تعديلًا يكسرها بماء، يجعل شربها ممكنًا. أو تفيض الإرادة عن واقعها، فتحفر بأظافرها قنوات جديدة للتدفّق. التفريق بين النوعين يكتسب أهمّيّة نظريّة وعمليّة، لكي يضع حدًّا لكلّ سلفيّة في السياسة تقدّم نفسها على أنّها ثوابت وتقاليد راسخة، تمحو الفروق اللازمة بين الأدوات والغايات، في شموليّة تعطّل الفعل وتزاود على مَنْ يفعل في آنٍ واحد (والسلفيّة، هنا، يمكن أن تحمل أيّ اسم 'تقدّميّ'، لا يهمّ، المهمّ أنّ بنية الذهن كذلك).

التوقيت في السياسة

لا يمكن، في الواقع، نقد 'التوقيت' في السياسة، إلّا بحذر، وذلك لأنّ أيّ توقيت، مهما كان، محلّ شبهة. لكن علينا أن ننظر للأشياء من بعيد قليلًا، لتكفّ عن كونها 'توقيتًا' قدر الإمكان، وتدخّلًا في التاريخ، أو على الأقلّ، مشهدًا منه، بقطعة أوسع من 'التوقيتات'.

تجربة 'حماس' في دخول الانتخابات ثَبُتَ فشلها أو إفشالها (ضع ما تشاء من نوائب الفاعل)، في إقليم لم يعد متحمّسًا لها كثيرًا: حكم الإخوان المسلمين في مصر سقط أو أُسقط (ضع ما تشاء من نوائب الفاعل)، وفي سوريا كسبت 'حماس' رهانًا أخلاقيًّا، لكنّه لم يُترجم إلى زخم سياسيّ وعسكريّ، وفقدت خلاله حلفاءها التقليديّين، النظامين الإيرانيّ والسوريّ، كما أنّ الكفاية القتاليّة العالية في الميدان لم تَعْنِ، بالضرورة، مكاسب سياسيّة، وهذا ما رأيناه في النتائج السياسيّة للحرب الأخيرة.

'حلفاؤها' الإقليميّون لديهم طاقة على احتمالها (في الواقع، تأخير مؤتمر الإعلان عن الوثيقة بسبب اعتذار فندقين في الدوحة، يحمل دلالة ظريفة في هذا السياق)، والعالم يشهد صراعًا محمومًا على 'الإرهاب'؛ ولذلك، فإنّ أيّ شيء ستقوله عن نفسك يبدو داخلًا في شبكة من التعقيدات والضغوطات التي ليست لصالحك.

في أنّ 'الميثاق' ليس 'مبادرة'

تُقَدَّم المبادرة السياسيّة، عادةً، حين يقرّر طرف ما التزحزح من موقعه، والتنازل، مؤقّتًا، 'بصيغة ما' تدفع الخصم إلى التزحزح من موقفه هو أيضًا، وبالتالي، خلق ظروف جديدة 'تعاونيّة' أو 'تنافسيّة'. لكن ماذا إن لم يتزحزح الخصم؟! البدهيّ أنّ المبادرة تُسحب ويعود كلّ طرف إلى موقفه. ذلك من شروط فاعليّة المبادرة؛ أن تبقى لدينا القدرة على سحبها، وإلّا لِمَ نؤخذ على محمل الجدّ ونكون مطالبين، وقتها، بالمزيد من المبادرات من الجميع، بما فيهم الأصدقاء؟

حلفاء الأمس

يمكن، دائمًا، التراجع عن 'المبادرة'، وهذا من طبيعة اسمها، لكن ماذا يحدث إن تحوّلت المبادرة لموقف جديد؟ إنّ دوام التأمّل في الواقع وانتظار لحظات تقلّصه القادمة، لنتبرّع بمبادرة جديدة، يحكي صيرورة 'التنازل' وليس صيرورة 'المرونة'؛ لأنّ تحويل المبادرات إلى مواقف ثابتة يجعلها بعيدة عن كونها ورقة للسياسة، بل مكوّنًا وحيدًا للسياسيّ، فلا يُمارس السياسيّ، بذلك، خارج كونه ديمومة التزحزح عن الموقف!

موافقة 'حماس' على 'دولة بحدود الرابع من حزيران لعام 1967' وُضعت، بالأساس، كمبادرة لإقامة نظام مشاركة، محاصصة... إلخ (شرط أن نبقى على وزن 'مفاعلة'). نقول إنّ هذه المبادرة كانت في سياق 'تنازل ما' قدّمته 'حماس' لحركة 'فتح' وللنظام الدوليّ، لكي يقبل مشاركتها في الحكم، لكنّ أحدًا لم يعبأ بها، بل إنّهم يحاصرون تجربة حكمها، ومنذ اليوم الأوّل، وبدلًا من سحب المبادرة، تتحوّل اليوم إلى بند ثابت في الميثاق.

 السؤال الذي يُطرح هنا: ما هي الظروف التي جعلت من البند الذي يشير للقبول بدولة على أراضي الـ 67 بندًا ميثاقيًّا، يندرج في وثيقة موضوعة، بالأساس، لتعرّف بنفسك ورؤيتك للعالم وللصراع؟

إنّ عبارة من نوع 'فلسطين من النهر إلى البحر'، الواردة في الميثاق، تصبح إنشاءً وبلاغة، إذا كانت موضوعة إلى جانب القبول المرحليّ بدولة الـ 67؛ فالميثاق ليس مبادرة، إذ من الصعوبة تعديله، وهو يهدف إلى التعريف بالقيم الجوهريّة للتنظيم نفسه، وبهويّته، وكأنّ 'حماس' تعرف، سلفًا، أنّه لا يمكنها أن توجد، ذاتًا وحركة تحرّر إلّا بهذا البند، الذي غدا في التقليد الفلسطينيّ سقفًا للاشتغال السياسيّ.

مهانة السيادة الوطنيّة

لا يمكن قيام دولة على حدود الـــ 67، في الواقع لا يمكن إقامة دولة حتّى في حدود المقاطعة برام الله، والتاريخ القريب يعلّمنا أنّه يمكن اجتياحها بسهولة! إذن، ومن باب الواقع لا الأيديولجيّة، إنّ كلّ التفكير السياسيّ القائم على مبادرة 'الدولة/ الدولتين'، وكلّ مشتقات التداول في لغتنا، أصبح جزءًا من الماضي، وهو اشتباك مع القاموس أكثر من كونه اشتباكًا مع الواقع، وذلك لأنّنا اختبرنا حدود ممكناته حتّى أقصاها.

ليس غريبًا أن يكثر الحديث عن هذه الصيغ (دولتان، دولة واحدة ثنائيّة القوميّة، علمانيّة، ديمقراطيّة... إلخ) في المؤتمرات الأكاديميّة الفلسطينيّة، بوصفها حلولًا خلّاقة، مع أنّها اقتراحات قديمة في الواقع، لكنّ الأكاديميّة الفلسطينيّة، اليوم، تقيم في اللغة، وتظنّها مكانًا لإنتاج الحقائق على الأرض، وهذا موضوع آخر.

حسن نصر الله وخالد مشعل

 لننظر إلى خريطة العالم؛ لم يبق أحد يدافع عن نفسه في حدوده الوطنيّة، والجيوش في الخارج أكثر منها في الداخل، والدول أصبحت تعابير رمزيّة. يمكنك أن تتحدّث كما تشاء في الإعلام عن السيادة الوطنيّة وقرارات الأمم المتّحدة، لكنّ نظرة سريعة إلى الخريطة، حولنا، تريك المهانة التي لحقت بفكرة 'السيادة الوطنيّة'. لا أحد يحترم ذلك، فلماذا يبدو أنّ ثمّة تعويل على مرونة حركة 'حماس' في هذا الاتّجاه، وكأنّ الحصول على اعتراف بالسيادة الوطنيّة يعني السيادة بالفعل؟ ويجري تمرير كلّ ذلك تحت لاهوت وطنيّ يُسمّى 'الإجماع الوطنيّ الفلسطينيّ'، الذي، ويا للدهشة، لا يحدث إلّا عبر هذ النوع المخصوص من 'المرونة'. وحين يكون نوعًا واحدًا لا غيره أمامنا، فإنّه لا يعود خيارًا، بل فرضًا، ويصبح تعريف السياسة هنا: 'الاقتراب من حركة ’فتح’، ما أمكن'.

الانفصال عن حمّى المحيط

على المسائلات النقديّة، أعلاه، ألّا تشغلنا عن ملاحظة تطوّر الخطاب 'المدنيّ' لحركة 'حماس'. نحن نتحدّث عن حركة إسلاميّة مسلّحة في محيط يشهد تزايدًا متصاعدًا في أخذ الهويّة الدينيّة حتّى أقصاها، من قبل جماعات مسلّحة 'تسلفنت' جهاديًّا على نحو جزئيّ أو كلّيّ، وبالتالي، فإنّه من المهمّ ملاحظة هذا التطوّر، و'حماس'، على نحو تدريجيّ، كانت تنفصل عن التيّار الجهاديّ السلفيّ. قارن ميثاقها الأوّل، في اللغة والأهداف والمفاهيم، ستجده لا يبتعد عن القاعدة كثيرًا، بل إنّ صور بن لادن كانت تطبع إلى جانب صور أحمد ياسين حتّى وقت قريب (قبل 2006)، ولهذا الانفصال التدريجيّ قصّة أخرى.

 لكنّ 'حماس'، في النهاية، طوّرت الخطاب في اتّجاه انفصال كلّيّ؛ ميثاقها المعدّل، في الحقيقة، تتويج للانفصال عن التيّار الجهاديّ، وليس عن الإخوان المسلمين (الانفصال الأخير نحتاج لعشرين سنة أخرى حتّى نصدّقه!).

تعريف 'حماس' للصراع بأنّه سياسيّ وليس دينيًّا، يكتسب أهمّيّته من السياق العربيّ المحموم بصراعات الهويّة والتطييف، أمّا على مستوى الممارسة، فهذا التفريق قائم منذ نشأتها (لم نسمع، مثلًا، أنّ حماس تعرّضت ليهود السمرا في نابلس منذ تأسيسها حتّى اليوم). كان الصراع سياسيًّا، منذ نشأته، في وعي الفلسطينيّين، لكنّهم استخدموا مفردات للتعبير عنه بما يملكون من قاموس دينيّ، فنجد تعبير 'يهوديّ' بدلًا من 'إسرائيليّ' في روايات غسّان كنفاني، مثلًا، مع أنّه يساريّ.

لم ينجرف ميثاق 'حماس' إلى محاولات عدّة رغبت للحركة أن تكون تعبيرًا طائفيًّا عن المقاومة، يقف على النقيض من مقاومة أخرى تعبّر عن نفسها طائفيًّا، وهي حزب الله.

لقد فكّرت 'حماس'، وهي تكتب ميثاقها، بكثيرين، بلا شكّ، لكن دون أن يعني أنّ هؤلاء الكثيرين هم من كتبوا ميثاقها. وفي النهاية، الوقائع لا المواثيق تحكم فيما كانوا فيه يختلفون. 

 

طارق خميس

 

صحافيّ وباحث، خرّيج الإعلام والعلوم السياسيّة من جامعة اليرموك الأردنيّة، وحاصل على درجة الماجستير في الدراسات العربيّة المعاصرة من جامعة بير زيت الفلسطينيّة. يكتب في عدد من المؤسّسات الإعلاميّة الفلسطينيّة والعربيّة، ويهتمّ بالفكر والفلسفة.