الكلّ يأس والجزء خيانة؛ ما الذي أراده هوركهايمر؟

ماكس هوركهايمر (1895 – 1973)

هل نحن مركز التاريخ أم نتاج سيره وتطوّره؟ وهل نرتبط به كونه فاعلًا في تحديد مسارنا؟ هل معرفتنا ذكوريّة؟ ماذا عن الحاجة إلى إعادة بناء المعرفة الآنيّة، بما يشمل حرثها في أعمق نقاطها؟ هي أسئلة لها المنطق نفسه، وقد فكّر فيها فلاسفة وسيسيولوجيّو مدرسة فرانكفورت التي تأسّست في عشرينات القرن الماضي.

سأحاول في هذه المقالة توضيح بعض ما أثار هذه التساؤلات، معتمدًا، بالأساس، على ما جاء في 'مقالات مختارة' لماكس هوركهايمر (1895 – 1973).

عالم أنانيّ

لنعود إلى ثلاثينات القرن الماضي، تلك الحقبة التي بدا العالم فيها واحدًا وأنانيًّا، مركزه أوروبّا، أوصلنا إلى المعرفة التي نعيش اليوم، والتي تحوي كلّ هذه الاختلافات! وقد بتنا نرى أنّ الطرائق التي تحذو حذو هذه المعرفة هي الأفضل والأسمى والأنجع.

شريط سينمائيّ يدور ويقف عند عطب أصابه؛ شيء ما قد أسمّيه 'الحنين'، أجّج مسألة نظريّة لدى بعض الفلاسفة والسيسيولوجيّين الذين وصلوا إلى طريق مسدودة في واقعهم المعيش؛ إذ لم يعجبهم النظام الذي يحيط بهم وهم يعترفون بتأثيره فيهم، وقد كانوا ماركسيّين أكثر من ماركس في بعض النواحي، إلّا أنّهم يرفضون أن يُعَدّوا كذلك، لأنّ ماركس ركّز على الطبقات والسياسة، أمّا هم فقد اكتفوا بأخذ البعد الإنسانيّ ممّا طرحه ماركس، فكان للمكان والزمان تأثيرهما الكبير فيهم، ما ولّد لديهم تفكيرًا بكلّ الوجود المعرفيّ، وقد وقفوا ضدّ أيّ نمط معرفيّ يخدم السلطة. إنّها مسألة تتعلّق بـالحداثة وما وصل له العالم على طريق الخراب.

كارل ماركس (1818 - 1883)

 

تغيير العدسات

أدرك أنصار مدرسة فرانكفورت أنّهم بحاجة إلى تغيير العدسات التي يرون بها العالم، بعيدًا عن النظريّة التقليديّة أو العلميّة الشائعة، فسعوا إلى نظريّة تجعل كلّ ما يظنّه غيرهم مختلفًا متشابهًا. وكان المغايرون لهم قد توصّلوا إلى شيء عظيم في نظرهم؛ سمّوه النظريّة العلميّة التي وُصِفت بالمقنعة، ورأوا أنّهم تطوّروا وتقدّموا على الرغم من التشابه الذي ينظر إليه الفرانكفوتيّون بأنّه لا يسير مهما سار.

إنّ أنصار النظريّة العلميّة يعرّفون النتائج على نحو قَبْلِيّ، وفق أنصار فرانفكورت، كما أنّ تطوّرهم يسير من دون أن يُذكر وجودنا نحن، البشريّة. إنّهم يجعلون من عقلنا مستنزفًا ومستهلكًا، وهذا يعني أنّه يستغلّنا في استمراريّته، يستغلّنا ليحوّلنا، نحن أيضًا، إلى آلة، يجعل من نمط حياتنا آليًّا، نسير ضمن خطّة محدّدة مسبقًا، فماضينا وحاضرنا ومستقبلنا وفق هذا المنطق متوقّع مسبقًا، إذ عقلنا أصبح عقلًا أداتيًّا. لقد أراد أنصار مدرسة فرانكفورت أن نكون خارج هذا السياق؛ أي خارج التاريخ!

ما الذي يعيق عمل الآلة؟

اعتقد أصحاب هذه المدرسة، ولا سيّما هوركهايمر، أنّ للنظريّة التقليديّة أو العلميّة آفات تعيش فينا ومن حولنا، حتّى أنّ مدارسها، على الرغم من اختلافاتها، تعتمد المبدأ الرياضيّ نفسه للعلوم الطبيعيّة، ويعمل التابعون لها وفق نمط آليّ: ما الذي يعيق عمل هذه الآلة؟ حسنًا، لنجرّب كذا وكذا ولنرى أين تكمن المشكلة. ذلك إن كانت ضمن نطاق ضيّق، أمّا إن كانت ضمن نطاق مجتمعيّ واسع، فإنّهم يقسّمونها إلى أجزاء.

فكّر أنصار مدرسة فرانفكروت، كونهم سيسيولوجيّين، بكمّ المشاكل الهائل في المجتمع، وهم يظنّون أنّ انشغالنا بالجزء يعيقنا عن فهم الكلّ، وقد دعوا إلى دراسة المجتمع من جوانبه كلّها، لا كلّ جانب على حدة. كما رأوا أنّ التفكير التصنيفيّ يقود الأفراد إلى التكيّف مع واقعهم على نحو يناسب احتياجاتهم فقط، ووفق العوائق المفروضة من المجتمع بالأساس، من دون النظر في احتياجات الكلّ (المجتمع). وهذا الجزء من طرحهم يرتبط بمسألة الوعي الفرديّ والوعي الجماعيّ.

الفرد الحرّ

يعتقد هوركهايمر أنّ الفرد لا يعي أنّه جزء مهمّ في المجتمع، من منطلق أنّه فرد غير فاعل وحده وبوجوده المنفصل، إلّا أنّ المجتمع يتكوّن من أفراد غير فاعلين، وبتجميع 'الكلّ' يكون الفرد فاعلًا بذاته، وهو بهذا الطرح يعيد للفرد أهمّيّته.

أهمّ منظّري مدرسة فرانفكورت

ينتقد هوركهايمر النظريّة التقليديّة التي ألغت الإنسان وانشغلت بمعالجة الجزئيّات الصغيرة، والتي نسيت، أيضًا، أنّ كلّ هذه الجزئيّات ما هي إلّا نتاج الكلّ، مشيرًا إلى أنّ هذه الأزمة وُجِدَت إمّا عن طريق قهر الإنسان، أو أنّها نتاج أعمى، وحلّها قد يكون بالوصول إلى الفرد الحرّ. لتحقيق ذلك، أي وعي الفرد بفاعليّته، يعتمد هوركهايمر على وجود مبدأ ضابط يطبّق على الفرد والمجتمع، والذي قد يخلّصنا من رؤية الأشياء بنظرة مسبقة، اعتمادًا على عالمنا الاجتماعيّ.

إشكاليّة المنهج

يدعوني ما قاله هوركهايمر إلى القول: نحن بارعون في النقد، وتعداد عيوب الزمان والمكان والتاريخ، لكن ماذا لو تعّلق الموضوع بالإصلاح؛ أنستطيع إصلاح ما هو فاسد دون رؤية أنفسنا جزءًا من المشكلة وتكرارًا للنمط نفسه، نرتكب الأخطاء نفسها بحقّ ما ندعو إليه؟

لقد كان أهل هذه المدرسة مثاليّين، وهو حكم ذهب إليه كثر، فهم كتبوا لأنفسهم لأنّ قليلين يستطيعون قراءة ما كتبوا، كما أنّهم غرقوا في ما أنتجته الرأسماليّة، بل أصرّوا على أن ينقدوا معرفة أوروبّا بجعلها مسرح المعرفة المركزيّ من جديد. إذًا، فالإشكاليّة الرئيسيّة التي وقّعوا فيها تكمن في المنهج، إذ نقدوا الواقع بالأدوات والطريقة نفسها التي ولّدت نقدهم، كما أنّهم لم يقدّموا بديلًا عمليًّا. على الرغم من ذلك، قد تكون النظريّة النقديّة التي دعوا إليها سارية المفعول، لمثاليّتها تحديدًا!

ما نعيشه في عصرنا، على الرغم من كلّ أزماته وأهواله وخرابه، هو الطريق إلى الخلاص، فكلّ جزء من هذه المعرفة يمثّل حاجة ملحّة وضروريّة لإنتاج عالم آخر، عالم كلّيّ يمنح الفرد أهمّيّة، كي لا تكون ثمّة مشاكل وأزمات في جزئه.

 

مجد كارم

 

باحث من فلسطين. مهتمّ بتاريخ القدس وواقع حياتها، وبالتربية. حاصل على بكالوريوس في التاريخ والجغرافيا، ويدرس لنيل الماجستير في علمي الاجتماع والإنسان من معهد الدوحة للدراسات العليا.